أبريل 26, 2024

لا بد لنا من الإقرار في البداية ان ماهية ظاهرة الارهاب لم تجد حتى الآن تفسيرا موحدا ولَم تكن حتى الآن موضع اتفاق عام من النواحي المعرفية والسياسية والأخلاقية والقانونية . ، وهذا الأمر يرجع من وجهة نظرنا الى عاملين أساسيين :أولهما ان الوعي الإنساني ، وبالتالي الضمير الإنساني ، في مسار تطوره لم يرق بعد الى المستوى المطلوب الذي يجعله موحد الرأي والموقف والالتزام تجاه القيم الكونية المشتركة . أما العامل الثاني وهو الأخطر فيتعلق بواقعة ان التاريخ ما يزال يكتبه الأقوياء ومازالت الغلبة والحكم في عالمنا المعاصر والراهن في الكثير من الحالات ،لقوى القهر والغلبة والنفوذ . وبإيجاز ما زال هناك شوط واسع ،من الكفاح الإنساني المتعد الميادين ، حتى يسود مبدأ قوة الحق بديلا لما هو الحال الْيَوْمَ حيث الحق هو الذى تفرضّه وتتبنى تعريفه القوى الغاشمة من خلال سياسات الأمر الواقع ومنطق ان الحق للقوة .كان هذا المدخل ضروريا كما نرى حتى نحاول إعطاء ظاهرة الارهاب الهامش العريض الذي يتصل بتباين استخداماتها سواء في عالم السياسة أم في عالم الإجتماع . ونود ان نشير الى ذلك المدى الكبيرمن الاختلاف والتعارض الذي لم يسمح حتى الْيَوْمَ بتقييم موحد لطبيعة هذه الظاهرة واسبابها ونتائجها المباشرة والبعيدة حتى ان منظمة الامم المتحدة بكل هيئاتها المختصة لم تستطع حتى يومنا هذا ان تضع تعريفا موحدا وقاطعا لظاهرة الارهاب وبالتالي لكيفية مواجهتها

والتعامل معها وذلك يرجع كما أسلفنا الى العاملين المتعلقين بمستوى الوعي والموقف الأخلاقي الإنساني من جهة ، وبمواقف ومصالح الدول ذات الهيمنة والنفوذ من جهة ثانية . هكذا وجدنا مثلا معظم حركات التحرر الوطني وثورات الإصلاح والتقدم الاجتماعي في منتصف القرن الماضي , تصنف في بداية انطلاقتها من قبل الانظمة المستبدة الحاكمة في بلدانها ومن قبل الدول التي تقف وراء تلك الانظمة ، بكونها مؤامرات من صنع الخارج وان ما تمارسه من حراك شعبي وما وترفعه من مطالب مشروعة هو الفوضى والارهاب بعينه الذي يستهدف تنفيذ مخططات القوى المعادية . وما الموقف الذي تواجه به السلطات الإسرائيلية انتفاضات شعبنا الفلسطيني من اجل الحرية والاستقلال ، ووصفها بأعمال العنف والتطرف والارهاب ومحاولة تشويه صورتها امام الرأي العام العالمي ، الا الدليل الصارخ على إمكانيات تشويه الواقع وربما استغلال وتضخيم الأخطاء واغتيال الحقائق ، وبالتالي تصوير الحق على أنه الباطل بعينه . يقابل ذلك غالبا وفي الوقت نفسه التجاهل او التواطؤ اوالتبرير اللا أخلاقي واللاقانوني لارهاب الدول تجاه شعوبها او تجاه غيرها من الدول اوالشعوب حيث تنعكس الآية هنا اذ بدل الوقوف في وجه الدول المعتدية على غيرها او حتى على شعوبها او بعض مكوناتها الثقافية والقومية نجد ان الموقف الدولي للعديد من أطرافه ينحاز بدافع المصالح المتبادلة الى مواقف تلك الحكومات المستبدة التي لا تمثل بطريقة شرعية إرادة شعوبها والتي تضطهد مكوناتها . وكل ذلك قد يجد تبريره في المواثيق الدولية التي تنص على عدم جواز التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء في الامم المتحدة ، وهذا المبدأ هو بلا شك سيف ذو حدين وقانون قد يحتمل الشيء ونقيضه في الآن نفسه !!!!

كل ما اتينا على ذكره على جانب كبير من الصحة . اذ تسنده كل معطيات الواقع القريب والبعيد كما نعتقد ، وذلك من حيث النظرة والتقييم ، ومن حيث التعامل مع ظاهرة الارهاب كمفهوم وأسباب ونتائج ، ومن حيث طرق مواجهتها وعلاجها ، وفي إطار هذا الأفق العام لهذه الظاهرة ومن منطلق حرصنا ، قدر استطاعتنا ، على اعتماد المنهج الموضوعي العلمي في تناولنا لهذه الظاهرة الخطيرة التي كان لها الدور الكبير في اجهاض معظم الانتفاضات الشعبية في ما سمي بالربيع العربي ، فإننا سنركز حديثنا هنا على الأثر المدمر لها على انتفاضة الشعب السوري التحررية من اجل الحرية والكرامة والمساواة وبناء سورية الجديدة دولة المواطنين الأحرار المتساوين في الحقوق والواجبات دون اي تمييز .

الجميع الان ، حيث بلادنا تواجه امتحان البقاء والمصير ، ومهمة انقاذها من واقعها المآساوي المرير ، متفق على ضرورة المراجعة الجدية الصادقة وتحديد الأسباب

و الأخطاء والخطايا التي أدت بوطننا الى هذا الواقع . و معظم الأطراف من هذا الجميع التي ما تزال تعز عليها القضية الوطنية باتت مقتنعة ان العسكرة والتدويل والتطييف هي الخطايا التي قادت الى الماساة السورية بعد ان أجهضت انتفاضته واغتالت أهدافها ودمرت وحدته الوطنية ومقومات كيان دولته ومستقبله ورصيده الحضاري . وإذا كان نظام الفساد والاستبداد الشمولي شريكا موضوعيا لمجموعات الارهاب التي قادها الاسلام السلفي الجهادي التكفيري في اغتيال أهداف

الانتفاضة الشعبية التحررية ووآد تطلعات المواطنين السوريين المحرومين من ابسط حقوقهم ، وإذا كان المجال هنا ليس مجال الحديث عن الأسباب البعيدة والأساسية

لظاهرة الارهاب التي تعود حواضنها بالدرجة الأولي الى اخفاق مجتمعاتنا العربية بعد نيل استقلالها من الاستعمار المباشر ، في استكمال مقومات الاستقلال الحقيقي عبر صيرورة التقدم والتطور الطبيعي ونعني بذلك الاخفاق في بناء دولة المواطنة الحديثة الامر الذي لم يوفر لمجتمعاتها المناعة الكافية لحمايتها من الظواهر المهددة لوجودها مثل ظواهر التعصب والتطرف والارهاب وصراع الهويات ماقبل الوطنية القاتل ، فان ما يعني شعبنا السوري بالذات وما يشكل هما وعبئا إضافيين

على اجيال الحاضر والمستقبل هو خطورة الدور السلبي الذي اضطلعت وما تزال تضطلع به تشكيلات المعارضة السورية التي ادعت لنفسها مشروعية تمثيل إرادة الشعب السوري والنطق باسمه وصلاحيات عقد الاتفاقات نيابة عنه في إطار عملية الانتقال السياسي التي اصبحت واقعيا رهن توافق الأطراف الدولية الفاعلة . ولعل أخطر ما قامت به هذه المعارضات وما تزال تقوم به حتى الْيَوْمَ هو تغطيتها على هوية ومقاصد وأفعال المجموعات الإرهابية وتحالفها معها وذلك استجابة لأوامر الدول الإقليمية التي توجه وتدير هذه المعارضات . فما تزال تصنيفاتها للمجموعات الإرهابية التي لا علاقة لها من قريب او بعيدبالمشروع الوطني الديمقراطي السوري مستمرة :كمجموعات متطرفة ،و اخرى معتدلة ،وثالثة بين بين . وما يزال حتى الْيَوْمَ يطلق على العديد من تلك المنظمات الإرهابية بأنها فصائل تابعة للجيش الحر سواء منها ما كان في جنوب البلاد او وسطها او شرقها أو شمالها بما في ذلك حتى ما تسمى بقوات درع الفرات التي هي مجموعات أنشأتها ودربتها وتديرها المخابرات التركية !!! والكل يعلم ان انشاء فصائل تنطبق عليها تسمية الجيش الحر من حيث تبنيها لمشروع التغيير والتحول الوطني الديمقراطي قد أجهضت منذ بدايتها نتيجة تآمر المجموعات المسلحة وداعميها المحليين والإقليميين ومن بينهم أطراف عديدة داخلة ضمن تشكيلات المعارضات الخارجية ر!!! فهل هذا هو البديل الذي تسعى معارضات الخارج لتقديمه لشعبنا كبديل للنظام الشمولي الحالي وهل هذه هي نوعية القوى المجتمعية الديمقراطية التي ستبني سورية المستقبل وتنجز لشعبنا مهمة الاستقلال الثاني حيث دولة الحرية والديمقراطية والوحدة والتقدم التي تنقل بلادنا الى حياة العصر !!! وإذا كان نظام الارهاب والاستبداد قد استعان على شعبنا باستدعا، كل المجموعات الطائفية المتحالفة معه فهل كان قدر شعبنا السوري بتاريخه وقيمه الحضارية والوطنية ان يواجه هذا التحدي بمشروع طائفي غارق في التخلف والفوات والتأخر ، وان يتخلى عن مشروعه الوطني وهويته الجامعة ورصيده الحضاري المتميز والدروس والعبر المستخلصة من تجاربه وتجارب غيره ، في تقرير مصيره وصنع غده وان يضع نفسه ، كما ارادت له معارضات الخارج المصطنعة ، رهن معركة تدمير الذات بكل اطرافها وقواها المحلية والإقليمية والدولية !!!!

ان شعبنا يدرك الْيَوْمَ جيدا ، بعد كل التضحيات الجسيمة التي قدمها طوال السنوات الست الماضية وبعد كل ما واجهه من تحديات ومخاطر مصيرية وبعد الوضع المعقد والمتشابك الذي وصلت اليه المسالة السورية على كل الاصعدة الدولية والإقليمية والداخلية ، هذا اذا ما استعاد وحدته الوطنية المتشظية وإذا ما وضع قطار الحل السياسي الوطني وفق قرارت الشرعية الدولية على السكة الصحيحة وإذا ما بوشر بعملية اعادة الإعمار والتنمية في كافة القطاعات المجتمعية : الاقتصادية والسياسية والثقافية والتعليمية ، يدرك ان عودة سورية كدولة حرة ديمقراطية موحدة وعصرية إنما يحتاج ، بعد كل الذي حدث ، الى وقت طويل وربما الى عقدين من الزمن . هذا اذا كان المطلوب بناء نظام ديمقراطي تعددي حقيقي ، لا تغيير سلطة بسلطة او تبديل أشخاص ومجموعات باشخاص ومجموعات اخرى ، اي ببدائل أسوأ من الواقع الذي انتفض شعبنا من اجل تغييره جذريا بهدف مواكبة مسار التقدم والحداثة والتجدد الحضاري . اذ يجب علينا ونحن نتحلى بأعلى درجات الوعي واليقظة والامل بقدرات شعبنا الذاتية ان لا نغفل او نتناسى اونهون ، ولو للحظة واحدة ، من حجم وطبيعة الدمار الذاتي والخراب الشامل الذي كانت بلادنا ضحية له على امتداد السنوات الماضية : وفي مقدمة ذلك دمار معظم البنى التحتية ، والضحايا البشرية حيث ما يزال شلال الدماء ينزف في كل وقت بغزارة دون توقف . وما تزال تتواصل قوافل وملايين المهجرين والنازحين وخاصة منهم الكوادر والإطارات والكفاءات والأدمغة الذين كانوا لوطنهم بمثابة العماد المؤطر والدماغ الموجه الذي لا غنى عنه في بِنَاء اقتصاده وتقدمه وعمرانه !!! وعلينا ان لا ننسى ماتعرضت له بلادنا من خسارة لا تعوض ، تلك المتعلقة بما لحق بإرثها التاريخي الحضاري الإنساني الذي هو إرث عالمي بالدرجة الأولى كما ان تدميره الذي فاق كل تصور سيترك اثرا بالغا في تغييب ومحو ذاكرة أجيالنا المقبلة !!!! أجيالنا المقبلة التي سيواجه مجتمعها و دولتها اكبر جرائم العصر المتمثّلة بحرمان حوالي خمسة تلميذ وطفل سوري من حق التعليم بكل مايعنيه ذلك من خطر مهدد على مستقبل المجتمع السوري وتطوره وأمنه واستقراره .

هذا هو واقع بلادنا المأساوي الْيَوْمَ الذي قادت اليه سياسات وممارسات قوى الاستبداد والارهاب ، كما أسهمت في الوصول اليه وتفاقمه ، وقبل مسؤوليات المجتمع الدولي ، بلا شك ، مواقف وممارسات تشكيلات قوى المعارضات الخارجية بهيئاتها و منصاتها و وفودها المتلاحقة ،

فالتحديات كبيرة والمخاطر جسيمة ومستقبل بلادنا معرض لكل الاحتمالات والسيناريوهات التي تطالعنا بها مواقع القرار الدولية في كل يوم !!! فهل يكون الوطنيون الديمقراطيون السوريون ،أينما كانت مواقعهم الحالية ، في مستوى هذا التحدي فيستعيدون زمام المبادرة ، التي تخلوا عنها ، وينهضون لتحمل مسؤولياتهم الوطنية في إطار سليم يوحد رؤيتهم ويحرر ارادتهم ويعيد قرارهم الوطني المستقل من اجل تعبئة وحشد كل جهودهم وكفاءاتهم وخبراتهم ليكونوا المعبرين الحقيقين في هذه المرحلة الانتقالية والاستثنائية عن إرادة شعبهم في تطلعه نحو دولة الحرية والكرامة والسيادة والغد الأفضل .

المصدر : د. حبيب حداد: كلنا شركاء

 

انشر الموضوع


اشترك بالإعلام الفوري بالاخبار الجديدة بالإيميل .. ضع بريدك