أبريل 28, 2024

ولاء عساف: كلنا شركاء
كنت طالبة في جامعة دمشق عندما خرجت المظاهرات الأولى تندد بإسقاط النظام في عدد من المناطق في دمشق العاصمة، كنت أرى كيف كان النظام يقمع هذه المظاهرات بوحشية وبرصاص حي أحيانا، المهم هو الخنوع والسكوت الذي مارسه على الشعب المظلوم لسنين عدة.
كنت أناقش أبي كثيراً عن أحداث 1982 وما فعله النظام بأهل حماة وجسر الشغور، وكيف الأخبار كانت تصلهم قليلة ومسربة من بعض العسكريين من أبناء المنطقة. كان أبي يتحدث إليّ لكن لا يعطيني تلك المعلومات التي تشبع شغفي لمعرفة جرائم هذا النظام الحاقد، لأبحث على الانترنيت ولكن سرعان ما يلاحقني أبي بكلمات امسحي السجل فورا، ولا تفتحي المتصفح من هاتفك، كان ينهي كلامه: “يا ابنتي إنني أخاف على حياتك”.
وبدأت بعدها سلسلة التفجيرات في الميدان والمزة وغيرها من المناطق… كنت أظن للوهلة الأولى انهم الثوار حقا، لكن فيما بعد اتضح لي أنه النظام، النظام من يقتل شعبه ويفتنه في بعضه، كي يبقى هو متمسكاً بكرسيه جالساً على الحكم ولو كان في سبيل موت كل شعبه.
وفي أحد المرات كنت في قاعة المحاضرة عندما سمعنا الشباب والفتيات بدأن يرددن شعارات في ساحة الجامعة الواسعة، ركضت خارجة من القاعة دون إذن الدكتور وركضت إليهم أردد معهم تلك النداءات بقلب يشتعل ناراً وكرهاً لكل الإإرام والوحشية التي رأيت، وفجأة هرع إلينا أمن الجامعة من كل مكان وراحوا يقودوننا إلى قاعات فارغة ويضربون الشباب، في حين الفتيات تعرضن لملاسنة كافية من الإهانات والشتم، ناهيك عن الضرب المبرح، ثم اقتادونا فيما بعد إلى فرع الأمن، وهناك بدأت رحلة العذاب.
دخلنا في منفردات بداية الأمر، وبدأ التحقيق في غرف مقززة، غرف فيها دماء وقطع لحم بشري هنا وهناك، في اليوم الأول بدأت اتقيأ وأبكي، بكيت لأنني فشلت منذ محاولتي الأولى، في اليوم الثاني وقفت أمام المحقق بلا أي خوف، لا أدري مصدر القوة والجرأة التي تسللت إلى أعماقي… أجبت بكل ثقة وقلت لهم إن الإجرام والموت الذي خلفتموه منذ سنين يحي الميت من الأرض، فكيف لحي يقف على قدميه ليعرف ما فعلتم أن يسكت وينسى، قمعتم البشر بالقوة وقتلتم وسفكتم دماء بلا أي رحمة، والآن تعتقلون الناس لأنها تطالب بأدنى ما يجب أن يكون متوفراً لها، حريتها… أعطوا الناس حريتهم.
وجاءتني صفعة على وجهي من الضابط الذي أمامي، ولكنني تمالكت نفسي من جديد وقلت له: لأنك ضعيف ليس لديك كلام لترد فاستعملت يديك الدمويتين.
راح يصرخ للعسكري: “أخرجها من هنا… سأقلع عينيها من وجهها”، بعدها دخلت المعتقل وجلست مع 20 فتاة في غرفة واحدة منهن الكبيرات والصغيرات، وراحت كل واحدة تروي ما حدث معها… ولماذا تم القبض عليها. إحدى السيدات كبيرات السن تم القبض عليها لأن ابنها ثوري، وأخرى لأن زوجها صرخ في وجه أحد الضباط عندما دخلوا يفتشون المنزل واقتربوا من زوجته… فسجنوه وسجنوها. قصص تصدم وتزيد الكره والحقد في القلوب.
وكان الطعام قبضة من البرغل المنقوع بالماء، والماء عكر لا تدري هو ماء للغسيل أم للشرب… وكان الحمام في الغرفة والرائحة من الدماء التي تسيل ورائحة النسوة التي لم تستحم منذ أسابيع تثير الرغبة بالإقياء، وبقيت هكذا حوالي الخمسة أيام حتى جاء أبي لزيارتي… لكن قبل أن أراه أمسك الضابط عصا وراح يضربني فيها بكل ما أوتي من قوة، وقال لي: “إن سمعت أنك تشتكين من أي شيء لوالدك سترين بعد الزيارة ما لا يعجبك”. وفعلاً قابلت والدي والدموع راحت تتساقط كالمطر وسألته عن أمي وإخوتي.
قلت له أنني بخير كما أمرني الضابط، ولكن حركت عيناي حولي وعرف أبي أنني لست بخير. قال لي: “هل ضربوكي”، قلت لا كلهم جيدون… رأيت الدمعة تلمع في عيني والدي، وقال: “لماذا يا ابنتي… لماذا؟”.
ودخل العسكري ليقول انتهت الزيارة… لم أرى والدي جيداً ولكن اطمأننت أنه وعائلتي بخير.
عدت إلى زنزانتي، وبعد ساعة تقريباً دخل علينا أحد الضباط ليقول لنا “من تشعر بالضيق؟ من رأسها يؤلمها”، وطبعاً كلنا على هذه الحال، فمن يسكن أربع جدران ويأكل ما نأكل أبداً لن يكون بخير، كان يعطينا الضابط حبوب دواء، كانت بيننا صيدلانية ولم تتعرف على نوع الدواء، وبات كل يوم يدخل الضابط ليعطينا نفس الحبوب، رحن السجينات يطلبن الدواء حتى أن بعضهن يغمى عليهن ليأخذن الدواء، عندها عرفنا أنها مخدرات، بدأت بعض السجينات يمتنعن عن أخذه، لكن باتت تزداد الحالة سوءا، وأنا كنت ممن أدمن على الحبوب، كنت أشعر بضيق تنفس وبوجع في كل أطراف جسمي، وكأن إبراً تخزني في كل جسدي، لتدخل علينا ضابطة أحياناً وتبدأ بضربنا جميعاً على كل مكان يؤلم ولا يؤلم، حتى أًسعِفْت مرة وكسرت يدي اليسرى، ولكن هذا لم يمنعهن من ضربي مجدداً وإعطائنا الحبوب بعد أن ضربنا بما يشفي غليلهم.
بعض الفتيات عندما يطلبن الحبوب كانوا يأخذوهن إلى غرف أخرى ليتسلى بهن الضباط، بعدها يعطيهن الحبوب، فهن مجبرات على فعل ذلك حتى يحصلن على الحبوب… أنا لم أصل لدرجة الإدمان التي وصلن إليها الفتيات معي في الزنزانة، كنت أرميها ولا أشربها كي لا يأخذوني كما يأخذون الفتيات، فكنت أتألم بصمت.
بقيت شهرين ونصف، وكأن 20 سنة من القهر والذل مرت علي، خرجت بعد أن دفع أبي هنا وهناك، وكسر نفسه لألف ضابط وعقيد… خرجت وليتني لم أخرج، جاءت النسوة يطمئنن علي لتسألني إحداهن: “أكيد اغتصبوكِ”. وأضافت أخرى: “ما الذي فعلته حتى كسروا العصى على جسدك يا جامعية؟”، وأخرى قالت: “هذا جزاء والديك يا عاقة الوالدين”، وأخرى أضافت: “مدمنة… محششة… هذا ما كان ينقصنا؟”.
خرجت وأعاني من انقراص فقرات وكسر في يدي اليسرى وتمزق أربطة في قدماي، هذا غير التصبغ من الضرب في كل جسمي، كل هذا وكلام الناس لم أسلم منه.
راح مجتمعي يرفضني، أمشي في الشارع وتلاحقني نظرات الناس كالمجرمة، لم تستوعب عقول الناس ما كنت أفكر به… نعتوني بالمجرمة والمدمنة، ومع ذلك بدأت بالعلاج في الوقت الذي خرجن فيه كثير من الفتيات وسافرن وبقين يتعاطين الحبوب، ولم يستطعن تركه حتى الآن.
قررت الانتقال إلى الغوطة… صديق والدي وعائلته يسكنون هناك بين الثوار، وفعلاً حزمت امتعتي ومضيت متعبة مرهقة… ومع ذلك قررت متابعة النضال ضد النظام وكشف جرائمه الوحشية، كي يعرف العالم أن بشار الأسد ليس سوى نسخه عن والده… لعنهم الله.


المصدر: ولاء عساف: شابةٌ خرجت من معتقلات النظام مدمنة لتقابل سخط النظام والمجتمع

انشر الموضوع


اشترك بالإعلام الفوري بالاخبار الجديدة بالإيميل .. ضع بريدك