مايو 7, 2024


محمد زاهد غول: القدس العربي
لا يتم الحديث عن تطبيع العلاقات التركية الروسية بالمصطلح التركي، أو ترميمها بالمصطلح الروسي، إلا وتتحول الأنظار لما يمكن ان ينعكس عن ذلك على الأزمة السورية، فكلا الدولتين من أكثر الدول المهتمة بالأزمة السورية، فتركيا دولة جارة ولها حدود نحو 600 كم مع سوريا، ولديها ثلاثة ملايين لاجئ سوري، وبذلت جهدا كبيرا مضنياً حتى لا تتورط بعمل عسكري داخل سوريا، طوال خمس سنوات مريرة، بالرغم من كل الاستقزازات للأحزاب الإرهابية المدفوعة من قوى إقليمية ودولية، بينما تمكنت القوى الدولية والإقليمية نفسها من توريط روسيا في الحرب داخل سوريا، بدعوى أن روسيا لديها القوة العسكرية الكفيلة بالقضاء على الثورة السورية خلال أشهر قليلة، وهو ما اكتشفت روسيا خطأه بعد خمسة أشهر من تدخلها العسكري بتاريخ 30/9/2015، وأنها عاجزة عن ذلك مهما قاتلت في سوريا، فأخذت في الانتقام من الشعب السوري بالقصف الهمجي العشوائي، حفظا لكبرياء جيشها ورئيسها بوتين، الذي سيحفظ التاريخ أن هزيمته التاريخية كانت بسبب حربه في سوريا، كما هزم الاتحاد السوفييتي في أفغانستان ولو بعد حين.
لقد أرسلت روسيا طائراتها وجيشها وقواعدها العسكرية إلى سوريا منذ سنة تقريبا وهي تراوح مكانها من أزمة إلى أخرى، وقد أخذ جنودها بالتذمر ورفض القتال في سوريا، والحكومة الروسية لا تجرؤ أمام شعبها حت الآن الإعلان عن مقتل جنودها في سوريا، فتبلغ أهاليهم بالموت في الحرب الأوكرانية أو في حوادث سير أو في تدريبات عسكرية، وهذه أزمة روسية متفاقمة في سوريا، فكان لا بد لها أن تلجأ إلى من بيده مساعدتها في الخروج من هذا المأزق، وهي تعلم أن أمريكا سعيدة بهزيمتها في سوريا ولن تساعدها، وإيران هي السبب في ورطتها، وعاجزة عن مساعدة نفسها حتى تساعد غيرها، وعليه لن يكون غير تركيا، وبالأخص أن الحكومة التركية خرجت من المحاولة الانقلابية الفاشلة أقوى سياسيا وعسكريا، وأقدر على اتخاذ القرارات اللازمة، ولكن كيف يكون ذلك؟ وما هو الثمن الذي تريده تركيا مقابل ذلك؟
الرئيس التركي أردوغان صرح في يوم سفره إلى روسيا قائلا:»إن روسيا الاتحادية هي أهم لاعب فيما يتعلق بجلب السلام إلى سوريا، وأعتقد أنه ينبغي علينا حل هذه المسألة من خلال إقدام تركيا وروسيا على خطوات معا في هذا الصدد»، وتفسير ذلك أن روسيا قد مهدت لتفاهم مع تركيا على الحل، بعد أن ألغت روسيا اعتبار وجود بشار الأسد وإيران وحزب الله في سوريا أمراً مهماً، وأصبحوا أدوات بيد روسيا، وروسيا متأكدة أن حلف إيران لن يدخل معها في صراع، لأن أرواحهم بيد الجيش الروسي في سوريا وخارجه، والاختلافات داخل محور إيران والصراع الداخلي بينها لا يؤهلها للصمود أصلاً، ومع ذلك فإن وقوع الصراع بين روسيا ومحور إيران أمر محتمل في المستقبل، ولكن وطالما أن محور إيران قد سلم مقاليد أموره إلى روسيا، فإن روسيا تريد إنهاء الصراع بما يخدم مصالحها ونفوذها ومكاسبها الاستراتيجية والعسكرية، فالروسي الآن يملك رؤية لما يريده من سوريا طالما تورط بها عسكريا، سواء بتفويض إيراني أو بدونه، فقاسم سليماني يركض الآن في سوريا وهو يرفع الراية البيضاء وينتظر من الروسي ليركض بها من بعده، على طريقة سباق المراحل.
على هذه الأسس استقبل بوتين أردوغان في بطرسبورغ وفي قصر قسطنطين تحديدا، لينعش عظمة أردوغان المنتصر ليلة الإنقلاب وبوتين يتابع تلك الليلة لحظة بلحظة، ويخبر أردوغان بانه كان متيقنا بأن الانقلاب سيفشل طالما أن أردوغان خاطب الشعب بالنزول إلى الشوارع، وهو ما حصل، أي أن بوتين يدغدغ بطولات أردوغان في تركيا، ليقدم له مساعدة في سوريا، فهو البطل المنتظر، ولذلك قدم بوتين تنازلاً سريعا برفع كل القيود والعقوبات التي فرضها على تركيا بعد اسقاط الطائرة الروسية سوخوي بتارخ 24/11/2015، وربما لو أحضر أردوغان معه حكومة بنعلي يلدرم لأمكن توقيع كل الاتفاقيات المتعلقة بنقل أنابيب النفط ومشروع السيل التركي الكبير، ولأمكن التوقيع على إتمام مشروع المحطات النووية التركية التي تبنيها روسيا في تركيا، وغيرها من المشاريع العملاقة، كما أمر بوتين بإلغاء قوانين حظر السياحة إلى تركيا، وكل ذلك إغراء كبير لأردوغان وتركيا، والثمن هو أن تبدأ تركيا بالتنسيق العسكري مع روسيا في سوريا، فروسيا فقدت الثقة في الحرس الثوري والكتائب الإيرانية وبطولات حزب الله الوهمية، وهي فاقدة للثقة ببشار الأسد، وتحتاجه للغطاء القانوني الدولي، بان وجودها هو بطلب من الحكومة المعترف بها من الأمم المتحدة، مع أن ذلك حصل بعد دخولها لسوريا بأسبوع كامل.
ما يؤكد هذا التطور هو إعلان وزير الخارجية التركية جاويش أوغلو بعد انتهاء الاجتماعات مع الروس:»عن تشكيل آلية جديدة تركية روسية لمعالجة الأزمة السورية، تتكون من مسؤولين من وزارة الخارجية التركية ووزارة الدفاع والاستخبارات التركية»، أي أن روسيا مستعجلة على تشكيل لجنة عسكرية لمتابعة الشؤون العسكرية في سوريا، فروسيا تخشى خسارة المزيد من الجنود الروس في سوريا، وتخشى على طائراتها من صواريخ المعارضة السورية أيضاً، ولعل لدى تركيا ضغوطا على المعارضة السورية، أن لا تتعرض للجنود والطائرات الروسية حتى انسحابها وتسوية الامور لحل سلمي يرضي الجميع.
وبذلك تأتي سرعة التجاوب التركي بإرسال موفدين من وزارة الخارجية والدفاع والاستخبارات التركية دليلا على موافقة الحكومة التركية على العرض الروسي وهو ما أخبر عنه ابراهيم كالين مستشار الرئيس التركي المرافق في الاجتماعات مع بوتين بـ:»التوصل إلى اتفاق بخصوص فتح قناة اتصال مباشر بين رئاسة الأركان التركية والروسية بخصوص الأزمة السورية»، فروسيا وافقت على ترمييم العلاقات على كافة الصعد، وأنه تمّ الاتفاق على إعادة العلاقات بين البلدين إلى سابق عهدها، وأكّد كالين أنّ وفداً من رئاسة الأركان التركية وهيئة الاستخبارات ووزارة الخارجية، ستتوجه إلى روسيا لمناقشة الأزمة السورية بكل تفاصيلها.
ولا شك ان هناك مصلحة لتركيا في تطبيع العلاقات مع روسيا أيضاً، فالخسائر التركية خلال الأشهر السبعة الماضية من جراء العقوبات الروسية أدت إلى خسارة تركيا نحو مليار دولار بحسب إفادة وزير الجمارك والتجارة التركي بولنت توفنكجي، وهي خسائر في الصادرات التركية لروسيا خلال الأشهر السبعة الأولى من العام الجاري بسبب الأزمة الدبلوماسية مع روسيا، وهو ما نبه عليه الرئيس أردوغان نفسه أثناء الزيارة بقوله:» إن التبادل التجاري بين البلدين تراجع أثناء الأزمة إلى ما بين 27 و28 مليار دولار، بينما كان هناك هدف لتعزيزه إلى نحو مئة مليار دولار» بينما زاد التبادل التجاري بين روسيا وإيران بنسبة 30٪ في الفترة نفسها، بحجة رفع العقوبات عن إيران، وهذا شيء إيجابي لأن الشركات التركية لها استثمارات مع إيران أيضاً، ولكن ليس بالضرورة أن تخسر تركيا لصالح مكاسب إيرانية أيضاً.
إنّ عودة العلاقات التركية الروسية إلى سابق عهدها أو أفضل ممّا كانت عليها سابقاً، وتشكيل لجان عسكرية وأمنية وسياسية لمتابعة الوضع في سوريا للتوصل إلى حل يرضي جميع الأطراف، لكن ليس من المرجح أن يتمكن من الحل في سوريا وحل الخلافات التركية الروسية، لأكثر من سبب منها:
1 ـ أن تركيا سوف تدفع ثمن ذلك القبول ولو لمرحلة معينة بوجود بشار الأسد، لحين إنهاء روسيا حاجتها لوجود بشار الأسد، وهذا أمر ليس سهلا، وقد يمكن التغلب عليه لفترة زمنية قصية، وهو ما قد يوفر لأمريكا فرصة زمنية لافشال الاتفاق التركي الروسي حول سوريا.
2 ـ أن إتمام المصالحة بين أطراف الصراع في سوريا بنظام سياسي يحفظ أجهزة الدولة السورية ووحدتها السكانية كما هي، ليس سهلاً بعد الذي جرى، ولذلك قد تلجأ روسيا للحل الفيدرالي، وهو ما قد توافق عليه تركيا بصعوبة بالغة أو رفضه، وإذا قبلته فسيكون بشرط ان لا يكون للأحزاب الكردية جزء من سوريا الفيدرالية، وعلى فرض موافقة روسيا فإن أمريكا لن تمرر الاتفاق دون الأحزاب الكردية، التي قد تعطي الأكراد إقليما سياسيا شمال سوريا على النمط العراقي، وهو ما لا تقبل به تركيا مهما كانت الاغراءات الروسية والضمانات الدولية، لأن ذلك تهديد مباشر للأمن القومي التركي، فإذا تغاضت الحكومة التركية عن مغازلة بوتين للأحزاب الكردية سابقا، وبالذات حزب الاتحاد الديمقراطي وفتح مكتب سياسي له في موسكو في أشهر الطلاق التركي الروسية الماضية، فإنها لن تسكت على بقاء هذا الخطر مع بدء شهر العسل الجديد بينهما.
هذه المخاطر تدركها تركيا، ولكنها مضطرة لمجاراة الروس الذين يحكمون سوريا الآن، وبيدهم تهديد الأمن القومي التركي، ولذلك قال أردوغان قبل يوم من سفره إلى روسيا:»لا يمكن تسوية الأزمة السورية دون مشاركة روسيا»، لأن روسيا حاولت حل المشكلة الروسية دون تركيا وفشلت، وتركيا حاولت حلها دون روسيا فلم تنجح، وأمريكا لا تريد حلها، وبالتالي فإن الحل هو بالتفاهم التركي مع روسيا، وبين يدي روسيا تفويضاً من إيران، فهل يتمكن الروس والأتراك من إبعاد أمريكا عن أي حل قادم في سوريا؟
وهل يتمكن الأتراك من إقناع السعودية وقطر بالحل السياسي مع روسيا، علما بان السعودية وقطر وروسيا وتركيا متضررة من استمرار القتال في سوريا، بينما أمريكا لا تعمل للحل السياسي بقدر ما تعمل لمواصلة الاقتتال واستمرار الحرب في سوريا، بهدف أن يكون الحل الامريكي في النهاية هو تقسيم سوريا إلى كيانات مستقلة وليس بوحدة سوريا كما كانت في الرؤية الروسية والتركية والعربية، ولا بالحل الفيدرالي الذي تتقبله روسيا وتطالب تركيا فيه إلى ضمانات روسية ودولية ان لا يوجد فيها كيانا سياسيا كرديا، ولو وجد فيه كيان فيدرالي بأن لا يكون مستقل، لأنه سيحرض الأحزاب الكردية في تركيا للمطالبة بالكيان نفسه في تركيا، وهو ما لا تقبل به تركيا، ولذا فإن الملف الكردي سيبقى أحد نقاط الاختلاف الكبرى بين تركيا وروسيا في الحل القادم.
اقرأ:
محمد زاهد غول: إشكالية تضارب التصريحات التركية نحو سوريا



المصدر: محمد زاهد غول: الأزمة السورية بعد المصالحة التركية الروسية

انشر الموضوع


اشترك بالإعلام الفوري بالاخبار الجديدة بالإيميل .. ضع بريدك