أبريل 29, 2024

محمد أحمد الزعبي: كلنا شركاء
أول عمل قمت به عندما استيقظت هذا الصباح هو فتحي للتلفاز أو إذا شئت لتلك الآلة العجيبة التي لايفقه شخص من أبناء العالم ” الثالث ” مثلي ، أسرارها وخفاياها ، اللهم إلا ماتراه عيناه وما تسمعه أذناه . فماذا رأت عيناي وماذا سمعت أذناي هذا اليوم ؟.
نعم ، لقد رأيت عجباً وسمعت أعجب : رأيت أطفالاً يموتون ( حقيقة وليس مجازاً ) جوعاً وعطشاً وبرداً في سوريا وفِي العراق وفي اليمن وفِي الصومال وفي أثيوبيا وفي إرتريا وفي السودان وفِي النيجر وفِي تشاد في الوقت الذي ينفق فيه الأوربيون ١٠ مليارات دولار ، والأمريكان ٣٥ مليار دولار على الآيس كريم وحده سنوياً . وسمعت أكاذيب مكشوفة تصدح بها حناجر العديد من المسؤولين الحكوميين ، والعديد من الإعلاميين ورجال الدين ( من مرتزقة السلطان ) في هذه الدول والمجتمعات ، للتغطية على الأسباب الحقيقية لهذه الظاهرة العالمية المرضية ، التي وصفها /شبهها أحد الرؤساء المحترمون (يجوز المحترمين أيضاً ) بقوله : ” ” ” العالم اليوم أصبح جزيرة من الأغنياء يحيط بها بحار من الفقراء ” .
وبينما أنا مسمّر أمام ذلك الجهاز العجيب ، استمع لصحيح الأخبار وكذبها ، تذكرت حكاية من حكايات طفولتي ، رأيت أن أعرضهما على القارئ الكريم في إطار هذا الموضوع ، رغم المسافة الزمنية بل والعلاقة غير المباشرة معه ( الموضوع ) . وقبل وصولي إلى عرض الحكاية المعنية أحب أن أشير إلى مسألتين الآولى هي أنه من العرف السائد عند المسلمين ، أن جلوس الأسرة على مائدة الطعام يقتضي البدء بالبسملة والانتهاء بالحمدلة ، والثانية هو أن والدي رحمهما الله قد ربياني على أن آشكر الله ليس فقط على الرز واللحم ( إقرأ لاحقاً ) وإنماعلى كسرة الخبز اليابسة أيضاً . أما الحكاية التي أرغب بعرضها هنا فهي التالية :
كنت آردد مع أطفال حارتي في مرحلة ماقبل المدرسة الابتدائية ، الأهزوجة التالية : ” الحمدو وش لك عندو ؟ .. لي عندو رز ولحمة ” (!!) ، للوهلة الأولى يبدو أن هذه ” الأهزوجة ” الطفولية ( الحمدو وش لك عندو … ) البسيطة لاتنطوي على أي مضمون سياسي أو اجتماعي ، بيد أن مزيداًمن التفكير والتدوير ، جعلني أغير رأيي ولا سيما بعد أن قمت بتفكيك عراها ، وأعدت قراءتها وصياغتها بعد أن ألبستها ثوباً سوسيولوجياً قشيباً من صنع إميل دوركهايم ، وبت لا لاأستبعد تضمنها أبعاداً سياسية وإجتماعية ، ربما صاغها الكبار كحصيلة لتجارب أجيالهم المتعاقبة بالأمس ويرددها بوعي ضبابي أحفادهم الصغار والذين كنت واحداً منهم اليوم .
بطلا هذه الأهزوجة / القصة ( وفق رؤيتي لها اليوم ) طفلان صغيران صديقان ينتميان إلى أسرتين مختلفتي المستوى الاقتصادي ، حيث كان طعام الغني منهما ” الرز واللحم ” بينما لايزيد طعام الفقير منهما عن كسرة خبز يابسة . الامر الذي قام معه صاحب الرز واللحم بعد أن شبع ، بتقديم الشكر لله على ماأنعمه عليه ، أما الثاني ( الفقير ) فقد التهم كسرة خبزه وظل صامتاً ، أي أنه لم يشكر الله ( الحمدلة ) كما فعل صديقه الغني (!!) , وهنا دار بينهما الحوار التالي :
> الأول : لماذا لماذا لم تنه طَعَامِك بالحمدلة ( الحمد لله ) ياصديقي ؟ .
> الثاني : وعلام أحمده ، أعلى كسرة خبز يابسة ؟!. إنه مدين لي ، وسأحمده فقط بعد
سداده لهذا الدين .
> الأول : وما هو هذا الدين ياصديقي ؟ .
> الثاني : إنه ” الرز واللحم ” ألذي كنت أنت تتناوله قبل قليل (!!) ، في حين كنت أنا التهم
كسرة الخبز اليابسة (!!).
> الأول : لقد شاءت الظروف الخارجة عن إرادتي وإرادتك ياصديقي أن تجعلني ابناً لعائلة
غنية ، وأن تجعلك ابناٍ لعائلة فقيرة ، ولكننا الآن متساويان في كل شيء ، فيما عدا الرز
واللحم ، فتعال نعمل معاً ياصديقي على تصويب تلك الظروف وتصحيحها ، وعندها
سوف نشترك معاً وعلى قدم المساواة في أكل الرز واللحم ورغيف الخبز اليابس ، وأيضاً
وأيضاً في البسملة والحمدلة .
> الثاني : دعني أشد على يدك ، ودعنا نبدأ مشوارنا الطويل بل حلمنا الآن ومن هنا .
> الإثنان معاً وبصوت واحد : اتفقنا .
بعد مرور ثمانية عقود على هذا الاتفاق الجنتلماني بين هذين الطفلين الصغيرين البريىئين التقيا ، كشيخين عجوزين ، نظرا حولهما ، ليريا آن الأمور قد سارت وتسير ، ليس في بلدهما فقط ، وإنما في العالم أجمع ، في ” الاتجاه المعاكس ” لما رغباه وخططا له . فقد ازداد غنى الأغنياء وفقر الفقراء وبات الرز واللحم اليوم حكراً على الأغنياء ( الجدد والقدامى ) أما الفقراء والشرفاء ( الجدد والقدامى آيضاٍ ) فحالهم اليوم كحال آبائهم بالأمس ، وبينما هما في طريقهما كل إلى قبره ، أخرج أحدهما ورقة من إحدى جيوبه ، لقد كانت خارطة الجمهورية العربية السورية وقد غطت آرضها وسماءها الأعلام الروسية والأمريكية ، وقال مخاطباً صديق طفولته : لقد سرقوا الرز واللحم ياصديقي ، بل وسرقوا حلمنا آيضاً ، وقبل أن يعيد الخارطة إلى جيبه تمتم بصوت شبه مسموع ” الحمد لله على كل حال ” .
المصدر: محمد أحمد الزعبي: الموت جوعاً. .. وذكريات الطفولة

انشر الموضوع


اشترك بالإعلام الفوري بالاخبار الجديدة بالإيميل .. ضع بريدك