أبريل 27, 2024

في 11 أغسطس/آب 2020، نشر موقع CNN نسخة من مذكرات استدعاء أصدرتها محكمة في العاصمة الأمريكية واشنطن، وذلك يوم 7 أغسطس/آب 2020، بحقّ ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، و13 سعودياً آخرين، في دعوى قضائية رفعها المستشار الأمني السعودي السابق سعد الجبري ضدهم، واتَّهمهم فيها بـ”محاولة اغتياله”.

الغريب في الأمر أن الجبري يزعم أن محاولة الاغتيال هذه تعود إلى تاريخ أكتوبر/تشرين الأول 2018، بعد أيام قليلة من اغتيال الصحفي السعودي المعارض “جمال خاشقجي”، وبنفس الطريقة، على يد “فرقة اغتيال” سافرت من السعودية إلى كندا. ووجَّه الجبري أصابع الاتهام إلى ولي العهد السعودي، بعدما زعم أنه تلقى تهديدات مباشرة منه، وطلبات مُتكررة بالعودة مرة أخرى إلى المملكة، وهو ما رفضه الجبري تماماً.

من هو سعد الجبري؟

ربما لم يكن سعد الجبري أحد الشخصيات المعرفة إعلامياً في معظم فترات نفوذه وسلطته، لكنه كان -بلا شك- أحد أهم رجال المنظومة الأمنية السعودية.

وُلد “سعد بن خالد الجبري” عام 1958 في مدينة حائل السعودية، وحصل على بكالوريوس العلوم الأمنية من كلية الملك فهد الأمنية في الرياض عام 1979، وعمل بعدها ضابطاً في وزارة الداخلية، ثم أكمل دراسته الأكاديمية بحصوله على شهادة الماجستير في تخصص علوم الحواسب الآلية من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، ثم حصل على شهادة الدكتوراه من قسم الذكاء الاصطناعي في جامعة إدنبرة في اسكتلندا عام 1998.

تدرّج الجبري في وزارة الداخلية من ضابط صغير إلى رتبة لواء، وبدأ عمله مع الأمير محمد بن نايف (ولي العهد السعودي السابق) منذ عام 1999، حينما عُيّن الأخير مساعداً لوالده الأمير نايف، وزير الداخلية آنذاك.

بدأت ثنائية الأمير محمد بن نايف وسعد الجبري، التي أعادت هيكلة وزارة الداخلية السعودية، وطورت عمليات مكافحة الإرهاب، ناهيك عن إعادة تأسيس جهاز الاستخبارات السعودي وتطويره، خاصة في مرحلة ما بعد عام 2003، حينما أعلن تنظيم القاعدة الحرب ضد السعودية، وهي الحرب التي استمرت لما يُقارب الخمس سنوات (حتى عام 2007).

كان الجبري ضابط الاتصال الرئيسي للسعودية مع وكالات الاستخبارات المعروفة بـ“الأعين الخمس” FVEY، وهو تحالف مخابراتي يضم 5 دول: الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلندا.

وقد تمكَّن الجبري من تأسيس شبكة من المخبرين داخل تنظيم القاعدة وبقية التنظيمات الجهادية، وهي الشبكة التي ساعدته في إحباط مخطط إرهابي ضخم كان يستهدف طائرة متوجّهة إلى شيكاغو عام 2010، والتي كانت ستتسبب في قتل المئات. وهذا الحادث تحديداً رفع أسهم الجبري بشدة بين أجهزة الاستخبارات العالمية، خاصة وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA.

لذلك، كان من المنطقي مع تولي الأمير محمد بن نايف وزارة الداخلية عام 2012، أن يتحول الجبري للمسؤول الأول عن الملفات الأمنية في المملكة، وذلك إلى أن توفي الملك عبدالله بن عبدالعزيز. وفي عهد الملك سلمان صار وزير دولة وعضو مجلس الوزراء وعضو مجلس الشؤون السياسية والأمنية، ولكن هذا التعيين لم يستمر سوى شهور معدودة (يناير/كانون الثاني 2015، إلى سبتمبر/أيلول 2015)، قبل أن يتم إعفاؤه من كافة مناصبه الرسمية.

كان من المنطقي من الأمير الشاب (محمد بن سلمان)، والذي يطمح للانفراد بحكم البلاد، أن يدفع برجاله المخلصين إلى المناصب الحيوية، وكذلك أن يتخلص من “رجال العهد البائد”، خاصةً منْ هم في قوة ونفوذ سعد الجبري. بالإضافة إلى ما تم تسريبه من اعتراض الجبري على حرب اليمن وتطوراتها، التي جرت واستمرت دون استشارة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية التي كان يقودها الجبري حينئذ. أمّا القشة التي قصمت ظهر البعير فتمثّلت في اجتماع الجبري –في تلك الفترة- مع مدير الاستخبارات الأمريكية “جون برينان”، الذي يبدو أنه تمّ بتوجيه من الأمير محمد بن نايف، لمناقشة التطورات السياسية في البلاد، في ظل صعود محمد بن سلمان.

بعد العزل، استمرّ الجبري كمستشار للأمير محمد بن نايف، خلال الفترة من سبتمبر/أيلول 2015، إلى يونيو/حزيران 2017، قبيل تنحي الأخير عن ولاية العهد لصالح الأمير الشاب. فمع تسارع مؤشرات توجه بن سلمان لتشديد قبضته على الحكم، وقبل حوالي شهر من توليه ولاية العهد، تعلّل الجبري برغبته في قضاء العطلة الصيفية خارج البلاد، حيث تنقّل بين عدد من العواصم.

ومع الإعلان عن تولي محمد بن سلمان ولياً للعهد خلفاً للأمير محمد بن نايف، في 21 يونيو/حزيران 2017، لجأ إلى الولايات المتحدة، ومنها إلى كندا، ليبدأ رحلة لجوئه السياسي هناك. ويعيش الجبري حالياً تحت حراسة مشددة من قِبل ضباط مسلحين تابعين لشرطة الخيّالة الملكية الكندية، بالإضافة إلى حراس خاصين، كما ذكرت صحيفة “ذي غلوب أند ميل”.

وعلى جانب آخر، لا يمكن تجاهل شهادات المعارضين السعوديين التي اتهمت الجبري بالإشراف على عمليات اعتقال وتعذيب الناشطين الحقوقيين والإنسانيين المعارضين لحكم أسرة آل سعود خلال فترة إشرافه على وزارة الداخلية. ما دفعهم إلى مطالبة كندا بعدم منحه حق اللجوء السياسي نتيجة ماضيه الأمني، الذي تسبب فيه بتعذيب المئات من المعتقلين.

لماذا يخشاه محمد بن سلمان؟

إذا ما ثبت تورّط محمد بن سلمان في اغتيال الصحفي السعودي “جمال خاشقجي”، في 2 أكتوبر/تشرين الأول 2018، تحت مزاعم معارضته العلنية للنظام السعودي، فقد تبدو مطاردة سعد الجبري أكثر منطقية.

والمزيد من التعمّق يقودنا إلى فئتين من الأسباب، تُبرر مطاردة بن سلمان للجبري:

1- وثائق وملفات سرية

يُشاع أن الجبري، بحكم طبيعة عمله على مدار السنوات الماضية، يمتلك وثائق وملفات سرية قد تُشكّل تهديداً لمستقبل محمد بن سلمان، وكذلك السياسة الخارجية السعودية. بعضها متعلق بحجم الأموال التي استولى عليها بن سلمان من صندوق مكافحة الإرهاب التابع لوزارة الخارجية السعودية، ويدّعي الكاتب البريطاني “ديفيد هيرست” أن جمال خاشقجي قد أبلغه بأن راتب الملك الشهري كان 3 مليارات ريال، أو ما قيمته 800 مليون دولار. وذلك بالإضافة إلى ملفات أخرى تحوي أسرار حول العائلة المالكة، وتتضمن معلومات عن أرصدة وممتلكات العديد من الأمراء، من بينهم الملك سلمان وابنه ولي العهد.

2- نفوذ دولي يُهدد استقرار الحكم

رغم كافة الإجراءات والخطوات التي أقدم عليها محمد سلمان منذ عام 2015 للانفراد بحكم البلاد، فلا يمكن القول إنه قد وصل إلى مبتغاه. وحتى بعد توليه الحكم بشكل رسمي فإن إجراءاته الاستثنائية وحربه التي قادها تجاه العديد من أفرع العائلة المالكية ستظل تُطارد استقرار حكمه.

ولا شك أن وجود شخص كسعد الجبري، في الخارج يتحرك بحرية، ويمتلك هذا النفوذ القوي داخل أقوى جهاز مخابرات في العالم (CIA)، قد يُشكِّل رأس حربة، أو عاملاً مُساعداً قوياً لأي تحرك داخلي مناهض لحكم بن سلمان.

وقد اكتسب الجبري علاقته القوية مع أجهزة الاستخبارات العالمية، وخاصة الأمريكية، من خلال سنوات عمله في عمليات مكافحة الإرهاب إبان العقد الأول من القرن الـ21، حيث قال عنه أحد مسؤولي الـCIA السابقين، “دانيال هوفمان”، “طوال سنوات عملي في وكالة المخابرات المركزية، لم أعمل أبداً مع أي مسؤول أجنبي لديه فهم أفضل لمكافحة الإرهاب من الدكتور سعد الجبري”. وأكد أن الجبري “كان مفتاحاً لتعطيل العديد من مؤامرات القاعدة، التي كان من شأنها أن تسبب دماراً كبيراً وسقوط ضحايا في الولايات المتحدة”.

وبشكل منفصل في رسائل إلى دونالد ترامب، في يوليو/تموز الماضي 2020، وصف أربعة من أعضاء مجلس الشيوخ الجبري بأنه “حليف وصديق وثيق للولايات المتحدة”، وقالوا إن واشنطن لديها “التزام أخلاقي بفعل ما في وسعها للمساعدة في تأمين حرية أبناء الجبري” (سنعرف لاحقاً أنه تم اعتقال أبناء الجبري في المملكة في مارس/آذار 2020).

بل إن الجبري قد حظي مؤخراً بمساندة علنية؛ حيث صرّح ناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكية بأن الجبري كان شريكاً هاماً للولايات المتحدة في مجال مكافحة الإرهاب، وما قام به الجبري من أعمال مع الولايات المتحدة ساعد في إنقاذ حياة أمريكيين وسعوديين، وزعم أن كثيراً من المسؤولين الحاليين والسابقين في حكومة الولايات المتحدة يعرفون سعد ويحترمونه.

لماذا عاد الجبري إلى الواجهة؟

بعد 3 أعوام من تولي محمد بن سلمان ولاية العهد في المملكة، ومحاولة انفراده بمقاليد الحكم هناك، يبدو أن الأمير محمد بن نايف مازال يمثل هاجساً بالنسبة للأمير الشاب، وسواء كان بن نايف -حالياً- يمثل تهديداً حقيقياً تجاه بن سلمان أم لا، فقد قرر الأخير إنهاء نفوذ وسلطان بن نايف مرة أخيرة وللأبد.

محمد بن سلمان يُدرك جيداً أنه لولا وجود رئيس مثل ترامب في البيت الأبيض، لما استطاع أن يتخذ خطواته الوثّابة والجريئة في سبيل الانفراد بالحكم، سواء من تنحية محمد بن نايف عن ولاية العهد في يونيو/حزيران 2017، أو تنفيذ اعتقالات فندق “ريتز-كارلتون”، في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، والتي شملت 49 شخصية بارزة في السعودية، بينهم أمراء ووزراء حاليون وسابقون.

وعلى ذلك، وفي ضوء الشكوك التي تحوم حول إمكانية إعادة انتخاب ترامب لفترة رئاسية ثانية، فقد قرر بن سلمان خوض جولته الأخيرة ضد بن نايف مُبكراً، وذلك في مارس/آذار 2020، حيث تم اعتقال محمد بن نايف بجانب شقيق الملك سلمان الأمير أحمد بن عبد العزيز آل سعود، لاتهامهما بتدبير “انقلاب” للإطاحة بوليّ العهد.

وحتى بعد الإفراج عنهم –تحت ضغوط دولية- خاضت وسائل الإعلام السعودية حملات تشويه ضد بن نايف تزعم استيلاءه على 15 مليار دولار، عندما كان يدير برامج خاصة بمكافحة الإرهاب في وزارة الداخلية، وأنه يجري حالياً التحقيق في الأمر تمهيداً لمحاكمته.

حملة الأمير الشاب تجاه بن نايف كان لا بد أن تشمل الجبري، أهم رجالاته وأخطرهم، والذي مازال يجوب العالم حراً طليقاً مُهدداً بن سلمان بما يملكه من وثائق ونفوذ. وقد زعم الجبري أن بن سلمان قد ألح عليه مؤخراً في العودة للمملكة، مُهدداً إياه، ثم ما لبث أن قام باعتقال ولديه (عمر وسارة) في مارس/آذار 2020، دون توجيه تهم مُحددة إليهم، ولكن فقط كوسيلة ضغط عليه. ثم انطلقت حملة تشويه تجاه الجبري في يوليو/تموز 2020، تحت مزاعم استيلائه على مبالغ مالية تُقدر بـ11 مليار دولار.

يبدو أن تهديدات بن سلمان وخطواته قد أخرجت الجبري عن هدوئه، فقرّر أن ينقل الصراع إلى مستوى جديد من التصعيد، حيث وصلت الخلافات إلى المحاكم الأمريكية، وذلك لممارسة مزيد من الضغط على بن سلمان والفريق العامل معه، وكذلك لكسب مزيد من الوقت حتى بلوغ موعد الانتخابات الأمريكية الرئاسية، في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، والتي ربما تُخرج ترامب من البيت الأبيض، وتُضيِّق الخناق أكثر على بن سلمان، فتتغير معادلات القوة في الداخل السعودي.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في عربي بوست لا تعبر عن عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع

انشر الموضوع


اشترك بالإعلام الفوري بالاخبار الجديدة بالإيميل .. ضع بريدك