أبريل 19, 2024

“منذ أن دخلت عالم الموسيقى والغناء وأنا أحمل في قلبي تراث العرب”

صباح فخري

الفن إحساس نبيل صدقاً، بكل التجلي اللفظي هو سيد كينونتنا، وملهمنا في دنيا العبث، نتذوّقه بحلاوة مفرطة، نتأمل لوحة مزركشة مبهمة الرسائل والرموز، نصلي في محراب سينما بفيلم مقتبس من رواية كلاسيكية، نسافر على خصر راقصة تتمايل، ثم يعود بنا المساء إلى أنفسنا.

متعب أجلس على الأريكة، أُلملِم أنفاسي المضطربة، وأستنهض قوايَ المنهكة من يوم طويل، وكأني أستعد للقاء فتاةٍ جميلة، فأدنو بنفسي لطقس القدود الحلبية والموشحات الأندلسية مع سيد الشهباء حلب، الابن البار لسوريا الجريحة، وسيد الطرب العربي ونَفَسه الطويل، الذي يمتد لأكثر من 10 ساعات شدواً وغناءً كبلبلٍ ناغٍ على غصنِ الفُل.

لا يحدث أن يجعلني مطرب أسافر عبر التواريخ والأمكنة، من الشام إلى الأندلس، ومن دمشق إلى الرباط، حيث المطعم السوري شامخ، يصدح منه صوت صباح فخري طوال اليوم، يستقبلك بـ”يا مالِ الشام”، ثم يودّعك بـ”يا غصن نقا مكللاً بالذهب .. أفديك من الردى بأمي وأبي”.

يمتزج صوته بالكبسة والتبولة، ليعطيك مذاقاً طربياً خالصاً دون مواد حافظة، تذوقت خمرة حبّهِ صغيراً، وكأني أتقمَّص دور العجوز الذي يرثي أحوال الحاضر وتيه شبابه بين السماء والأرض، بين الشرق والغرب.

كان الوريث الشرعي للقدود الحلبية يغني حتى تعجز قدماه عن حمل جسده الصغير، الذي يذهب ويجيء في أرجاء المسرح، يتسيّد الفضاء حتى في رقصته المثيرة والجميلة، متحرّراً من كل شيء، فأتحرر بدوري وأستسلم لرقصة لذيذة على أنغامه الطربية، فيستمر في الغناء، ويستمر الجمهور في طلب المزيد ليطفئوا لَظى القلب بشهد الكلام وأعذب الألحان، وصوت قوي ينتزعك من المكان فتنتهي بذاكرة تأبى النسيان.

قل للمليحةِ في الخمار الأسود .. ماذا فعلتِ بناسكٍ متعبِّد؟”. يستمر الطرب حتى أخال نفسي في زمن سرمدي متغلغل في التأمل، وموصول بكل أوجاع الأرض ومآسيها، أبكي أحوال سوريا وأرضها التي صنعت “الصَّبوح”، و”القد المياس”.

أتساءل: كيف لأرضٍ تصنع الفن والأدب أن تُنتج الخراب والدمار؟

ظلَّ صباح فخري متشبّثاً بعظمة الفن ورسالته الإنسانية، ولج عالم السياسة كعضو بمجلس الشعب، ليدافع عن الفن، ولا شيء غير ذلك، ترأّس نقابة الموسيقيين لعدة عقود، قام بتطهير فني على شاكلة تطهير عرقي، أوجد به أجيالاً موسيقية تتغنى الجمال والشعر العربي الأصيل، تارة بين الموشحات، وتارة أخرى مع القدود الحلبية التي نالت القسط الأكبر من حياته.

شادي الألحان هذا أطرب الشرق والغرب، أقام حفلات في كل البقاع، وفي أشهر المسارح العالمية، قد لا يفهمون اللغة، لكن لن يُخطئوا طريق اللحن النبيل الذي صار مرجعاً في الغناء العربي وأيقونته الخالدة.

رغم السقم وقلة الحركة، فإن ابن الخامسة والثمانين مازال يدندن في الأمسيات الطربية، مقاوماً المرض والزمن ليصالحنا مع الطرب الأصيل الذي اشتقناه في زمن الرداءة وطغيان المادة على الجودة.

زار المغرب الكبير فخراً واعتزازاً في الثمانينات من القرن الماضي، وقد كان ضيفاً عزيزاً، أطرب شعباً بأكمله، وتذوَّق فنَّهُ وجمال صوتهِ عن قرب، من أشعار ابن زيدون وابن الفارض وأبي العلاء المعري وغيرهم تغنى، لم يستسلم لرياح التغيير، ولم يتزحزح عن نمطه الغنائي الذي صنعه باسمه، وجعله يقاوم الصدأ.

لم يحدث أن مثّل فنانٌ شعباً بأكمله كما فعل صباح فخري، في صوته شجنُ السوري الذي أنهكته الحرب، وفي رقصته تحررٌ من مخيمات اللجوء المنتشرة في كل مكان، وفي ابتسامته أملٌ بغدٍ مشرق، يُنصف بلاد الشام ويعيد لها ماضيها العريق.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

انشر الموضوع


اشترك بالإعلام الفوري بالاخبار الجديدة بالإيميل .. ضع بريدك