مارس 18, 2024

د. كمال اللبواني: كلنا شركاء

أعلنت هيلاري كلنتون بعد أشهر من بداية الثورة أن الأسد فقد شرعيته ، وعادت في المساء لتصحح أنه فقد شرعيته أمام شعبه ، ثم أعلن الرئيس السابق أوباما بعد تردد أن الأسد عليه أن يرحل . ومع ذلك بقي الأسد ست سنوات بعد تلك التصريحات وتجاوز كل الخطوط الصفر والحمر دون أن تفعل أمريكا أي شيء ، لتعود اليوم وتصرح أن رحيله لم يعد أولوية ، وأن شرعيته ومصيره يقرره الشعب السوري ، وكأن الثورة عليه غير موجودة ولا تعبر عن إرادة الشعب … فأمريكا أيضا بذات المنطق لن تفعل أي شيء لابقائه كما لم تفعل أي شيء لاسقاطه سابقا .

في كل الأحوال وفي كل الظروف ومهما كانت التصريحات ، فإن أمريكا لا تلتزم بما تقول ، بل غالبا ما تكون تصريحاتها مصممة للاستخدام البراغماتي ، فما تقوله عادة ليس موقفها ، ولا تعتبر أن عليها أن تظهر نواياها ، ولا تهمها المصداقية تجاه غيرها … بل بالعكس إن براغماتيتها تقتضي استخدام التصريحات في خدمة أغراض السياسة الخارجية الغير معلنة، وليس عيبا أن تفتقد هذه التصريحات للمصداقية والإلتزام ، لذلك فإن كل من يبني على الوعود الأمريكية ينام على وسادة الرياح … وحرجا على أي محلل سياسي أن يبرهن على العكس ، أي أن أمريكا التزمت يوما بما أعلنته ، وخير مثال ما كان يردده صدام عن كذبهم وخداعهم … فقد ورطوه … حتى إيران المستفيد الأكبر من اسقاط صدام تصف أمريكا بالشيطان الأكبر . والشعب السوري جعل من تصريحات أوباما مادة للتندر والسخرية خاصة في موضوع الكيماوي الذي ثبت أنه لم يسلم وما يزال النظام يحتفظ بكميات كافية منه لابادة سوريا … بينما يفرح  بشار  وزبانيته ويحتفلون بالتصريحات الأمريكية الجديدة ، وكأنها موقف ملزم وليست رسالة برغماتية ينتهي مفعولها في اليوم التالي  مع صدور عدد جديد من الجريدة ، وتحرير نشرة أخبار جديدة.

توظيف التصريحات إذن هو جزء من وسائل السياسة الخارجية ، وليس تعبيرا عنها ، وعندما تعلن مندوبة أمريكا في مجلس الأمن ، أو وزير الخارجية أن رحيل الأسد لم يعد  أولوية فعلينا أن نبحث لمن يوجه هذا التصريح وفي خدمة أي مسعى … كذلك نبحث في تركيبته التي تحتوي عادة عدة رسائل متباينة لأطراف مختلفة … إنه موجه للروس والأسد ، وليس للشعب السوري الذي خصص له بقية الحديث ( هو من يقرر مصير الأسد الذي ارتكب الجرائم )، لكنه لن يسقط بمسعى أمريكي فقضية اسقاطه تقع على عاتقكم …

يجري الآن تفاوض أمريكي روسي اسرائيلي عربي يهدف لتقليص النفوذ الإيراني ، ومحاربة ظاهرة التطرف والجهاد الإسلامي ( الإرهاب كم يسمونها ) معا . ولأن الأمريكان لا ينوون الفعل بأيديهم ، لذلك عليهم استخدام  الوسائل المتوفرة ، ولكي يضمنوا مشاركة الأسد يبعونه تصريحات مجانية … كما باعوها لغيره …فهم يحاربون تنظيم الدولة بجنود وأموال غيرهم ، ويبيعون الكرد أيضا وعودا خلبية سرعان ما ينسوهنها . كما تحالفوا عسكريا وسياسيا مع تركيا ثم ساعدوا الانقلابيين فيها والإهابيين الذين يهددونها ، وتنبنوا حماية دول الخليج النفطية ثم تعاونوا مع إيران التي مدت نفوذها لليمن وتهدد بابتلاع المشرق العربي كله .

فهل نعتبر التصريحات الأمريكية موقفا أو سياسة ثابتة ؟… لا اعتقد أنه من الصواب فعل ذلك ، علينا أن نفهم كيف وبأي طريقة تدار السياسة الخارجية ، وما هو دور ووظيفة التصريحات التي لا تخرج من دون المرور عبر أجهزة مختصة ، والتي كما ذكرنا لا تعبر عن السياسة التي تبقى عادة سرية بل تخدم أغراضها المتلونة بتلون الحدث …  معلوم أن نتانياهو يسعى بين موسكو وواشنطن بهدف واحد هو منع تحول إيران لدولة عظمى وسيطرتها على حدوده ، وأن الإدارة الأمريكية تهتم بالحرب على الإرهاب من دون أي شيء آخر حتى لو أبيد الشعب السوري كاملا ، وأن روسيا تخطط للنفوذ والهيمنة بعقلية القرن المنصرم ولا تمانع في ترحيل معظم سكان سوريا من أجل ذلك ، وأن القمة العربية صمتت عن مصير بشار على أمل أن يتخلى عن دعم إيران في مسعاها لزعزعة دول الخليج … والذي بدل أن يفعل عاود استخدام الغازات السامة ، لكونه شعر بالاطمئنان والحصانة.

عمليا لا يمكن لأمريكا واسرائيل إخراج ايران من سوريا من دون تعاون مع روسيا ومع نظام الأسد في ذلك ، وإلا لا بد لهم من شن الحرب ودعم المعارضة الإسلامية … فهذه التصريحات مصممة لكي توسع الهوة بين الروس والإيرانيين ، ولكنها مرشحة للفشل ، لأن الأسد الذي يحتفل بها سرعان ما سيتمسك أكثر وأكثر بالوجود الإيراني الذي يعتبره مصدر قوة أجبر الأمريكان على تغيير مواقفهم . فينقلب الأمريكان على تصريحاتهم ، ويوظفوا تصريحات جديدة معاكسة خاصة بعد أن استخدم غاز السارين في خان شيخون في تحدي سافر للمجتمع الدولي وللاتفاقات التي وقعها بحظر انتاجه وحيازته واستعماله … سيصف  المحللون هذه التصريحات أيضا بأنها انقلاب في السياسة الأمريكية . وهكذا كل ما يظهر أنه انقلابات ليس إلا تعبيرا عن توظيف للتصريحات في خدمة سياسة أمريكية براغماتية ثابتة لا تتغير ( تحقيق أفضل المنافع بأرخص الأثمان ) مع تجاهل تام للقيم والمبادئ والإلتزامات . فليس هناك أرخص من التصريحات عند الذين يحلقون شواربهم .

مهما كان القرار الأمريكي والروسي ، فإن مصير الأسد يحدده سلوكه وأفعاله الإجرامية ، ويقرره الشعب السوري ضحية هذه الجرائم … والذي لم ينتظر أمريكا ولا روسيا ليثور عليه … الأسد زائل على يد أحدهم إن رفض التعاون أو لم يتفقا معا ، وعلى يد الشعب إن تعاون مع الروس وإيران أو أمريكا أو حتى معهم جميعا … فزمن الاستبداد والوصاية قد ولى إلى غير رجعة بعد كل هذه التضحيات من أجل الحرية والاستقلال والقيم … فالشعب السوري لن يقبل ببقاء المجرم الذي يستمر في ارتكاب جرائمه بإصرار وعناد ، ولن يستقر الوضع في سوريا طالما هناك مجرمون يتحكمون بمصيرها .

أي أنه ليس علينا أن نتلون بألوان التصريحات الأمريكية ( التي تحولت لكوميديا ) ، بل على الأمريكان أن يفهموا أن مصالحهم هي فقط مع الشعوب ، ومع القيم الانسانية ومع النظام العالمي ،  وأن عليهم أن يحترموا التزاماتهم تجاهها ، فهم عندما يساهموا في تمييع القضايا العالمية الخطيرة بهذه الطريقة ، يساهمون في دمار النظام الذي أسسوه لسيادتهم الحضارة والعالم ، أي باختصار على الرئيس ترامب أن يستمع جيدا لما يقوله السيناتور ماكين ، فعظمة أمريكا في جديتها والتزامها وقيمها قبل اقتصادها وجيشها ، الذي ما كان ليصبح كذلك لو تم التخلي عن المبادئ والقيم ، وشعار أمريكا أولا يمر عبر التزام أمريكا في نظام العالم وليس تخليها عنه ، هل تصبح إدارة ترامب شريكا عسكريا وسياسيا وأخلاقيا مع مجرمي الحرب ؟؟؟ عليها أن تقرر قبل أن تصرح . 

المصدر : كلنا شركاء

انشر الموضوع


اشترك بالإعلام الفوري بالاخبار الجديدة بالإيميل .. ضع بريدك