مايو 3, 2024

د.طيب تيزيني: الاتحاد
في أزمنة منصرمة، وخصوصاً بعد نجاح الثورة الفرنسية عام 1789 والثورة البلشفية عام 1917، راح اعتقاد يهيمن في أوساط اجتماعية سياسية وتحديداً بعد تلك الأخيرة، يقوم على الاعتقاد أن البشرية بعد انتصار الثورة البلشفية ستدخل أو ربما دخلت مرحلة تاريخية أصبح معها التطور التاريخي ذا بعد واحد، هو ذاك الذي يتجه نحو الأمام، من حيث الأساس العمومي، فعلى العكس مما اعتبر تغيراً ممكناً ومفتوحاً بكيفية سالكة على احتمالات كثيرة، منها التراجع إلى الوراء بسبب نزاعات ترافق النزاع الطبقي (مثل الإثني والفئوي والعرقي والطائفي وغيرها)، إضافة إلى ما يتصل بالمجتمعات الطبقية (بدءاً بالنظام الاشتراكي)! نقول: اتضح مع إرهاصات تفكك المنظومات الاشتراكية الأخيرة في شرق أوروبا والاتحاد السوفييتي أن تلك النزاعات المذكورة لم تكن بحاجة إلى أكثر من بدايات أولى لذينك الحقلين، حتى تلتهب النار ويتساقط الاتحاد السوفييتي والشرق الأوروبي المذكور. لقد سقطت نظرية “التطور القطبي إلى أمام” مع نشوء الاشتراكية في حينه، وكان ذلك قد راح يُصلي بناره بلدان العالم، بما في ذلك بعض البلدان العربية.
فقد اتضح أن بناء بنية تحتية اشتراكية في “دولة اشتراكية” قائمة على قانون الاستبداد الرباعي المؤسس على الاستئثار بالثروة وبالسلطة وبالإعلام وبالمرجعية المجتمعية ذات الاستطالات في القيادة السياسية والحزبية والأيديولوجية، إن هو إلا وهم تساقط، مخلفاً ما خلفه من عظائم الأمور! فقد عادت الدورة لتتجه نحو “الوراء” الهائل في إشكاليته، وعادت الصراعات والنزاعات الأولى (الإثنية والفئوية والعرقية والطائفية) تمارس أدواراً أخطبوطية ثأرية.. ها هنا سنضيف إلى ذلك أن مراحل ما بعد الاستقلال الوطني في بعض البلدان العربية، وسوريا ولبنان والعراق ومصر منها، توقفت دون أن نكتسب خطوات حاسمة فيها من التقدم والديمقراطية والحداثة، إلى أن جاءت مرحلة الاستفراد بثمار ذلك القانون الاستبدادي الرباعي، المنوه به قبل حين، وهذا ما أسس لبعض النظم الاستبدادية في العالم العربي.
والأمر الجدير بالذكر أن العراق وسوريا خصوصاً، وهما اللذان أسسا مرحلة الاستقلال بحزبين قوميين عربيين، يعيشان الآن في حالة غير مسبوقة من الصراع، الظاهر بوضوح من حيث هو صراع طائفي، وهذا يحيلنا إلى فكرة هيجل وبعده ماركس القائلة إن التاريخ حين يُرغم على الخروج عن مساره التاريخي، يكتسب طابع المهزلة، بكل ما تنطوي عليه من الثأر والانتقام والسخرية. لقد راح يبرز في هذين البلدين الاثنين ما يدعو إلى الأسى المر، والمفارقة أن سوريا كانت أول بلد يستقل عن الاستعمار في العالم، وقد تكلل ذلك بصعود الفكر الطائفي إلى مراحل ملفتة، فبكل الأسى والاضطراب الثقافي والقومي العربي والأخلاقي، يواجه الجيل الجديد ما قد يجعله يرى في التاريخ “مؤامرة فكرية كونية” ضده! وهنا نجد أنفسنا أمام الفكر التعنيفي، وهو يوجه كلامه الدامي إلينا: كيف لم تنتبهوا أيها العرب بعد قرون حققتم فيها تقدماً هائلاً، جعل العالم ينظر إليكم عبر طرح السؤال عليكم: ألستم أنتم الذين اكتشفتم الأبجدية وإرهاصات في التقدم الزراعي والتجاري وغيره؟ أليست الأبجدية تلك هي التي كانت مقدمة لإمكانية نشوء المجتمع البشري، بوعيه المحايث لاكتشاف المحيط الطبيعي، بل لاكتشاف أن الإنسان الجديد هو الذي أحدث انتقالاً من الوحشية إلى المدنية العقلانية؟
إن ما نواجهه الآن في العالم العربي قد يُرى من حيث هو نهاية إنسانية للبشر المعنيين هنا، ومقدمة للدخول في عصر “المابعديات” التي بشر بها النظام العولمي، وهذا يضعنا أمام ثنائية طرفها الأول يدعونا للدخول في عصر المال والسلعة، في حين يدعونا طرفها الثاني لانتفاضة عالمية تؤسس من جديد للحرية والعدالة والكرامة.
ذلك ما نراه في الهستيريا الجامحة، التي نواجهها الآن، إنها الهستيريا التي قد تكون عودة إلى عصر الوحشية العارية، وهذه الأخيرة هي التي يُراد لها أن تطيح بتلك الثلاثية، الحرية والعدالة والكرامة، فماذا يعني أن تفكك مدينة التاريخ والحضارة، حلب، لنسمع ما يثير الآن دولياً، هوساً شائناً: الأطفال والنساء والرجال وما تبقى من كائنات حية ينادون العالم: أن افعلوا شيئاً ما من أجل الإنسانية، التي تدمرها الطائرات والعقول الآبقة والمواطن الزائفة.
إن المنظمة الأممية الدولية التي نشأت من أجل تنفيذ ما لم يستطع العالم فعله بمنظماته ومرجعياته قبلها، أخفقت في تأدية واجباتها المقدسة، لأن الآليات التي تعمل بمقتضاها ظهرت خارج الحل أو الحلول التي يتعين عليها أن تقدمها، وقد ظهرت تلك أيضاً خارج منظومة القيم والشرف، التي أعلنت أنها خارجة منها وعليها: وهذان العاملان، القواعد القانونية والمنظومات الأخلاقية التي أقسمت على الالتزام بها، غابا كلياً عن العقلانية والموضوعية والمحايدة والشرف الإنساني.. إنها لم تجد ما يشعل في العقل والشرف الإنساني نار الكرامة الإنسانية المطعونة الذبيحة



المصدر: د.طيب تيزيني: عصر الطوائف وفضيحة القرن

انشر الموضوع


اشترك بالإعلام الفوري بالاخبار الجديدة بالإيميل .. ضع بريدك