مايو 3, 2024

د. حبيب حداد: كلنا شركاء
ليس أقسى على نفس النخب الفكرية والسياسية السورية ,واشد إعاقة لما ينبغي ان تكون عليه اوضاعها كي تضطلع بمسؤولياتها الوطنية على افضل وجه ممكن  من كونها بقيت حتى الأن , أي بعد انقضاء حوالي ست سنوات على انطلاقة انتفاضة شعبها التحررية الوطنية , متباينة الرؤى , مشتتة الجهود ومجزأة الارادة  تجاه مفاهيم ومضامين الأهداف والمهمات المركزية  التي تعبد مسار عملية  التغييروالتحول الديمقراطي لبناء سورية الجديدة . لكن البعض  ما يزال يلجأ الى تبسيط الأمور ,ربما  نتيجة قصور النظرة الى طبيعة الأمور ,أو بدافع تعزيز روح الأمل  والتفاؤل وشحذ الهمم في محاولة لإظهار ان قوى المعارضة الوطنية الديمقراطية السورية قد قامت بما عليها  فيما يتعلق بضرورة مراجعة وتقييم تجربة السنوات الماضية واستيعاب الخلاصات والدروس المفيدة . وبدل ان نستطرد هنا طويلا في حديثنا المجرد الذي قد يرى البعض انه يتناول العموميات , فاننا نود أن نعبر عن قناعتنا بصورة واضحة ومحددة , اذ كما يتاكد ذلك يوميا من خلال الحوارات والتفاعلات التي تتم بين مختلف الأطراف الوطنية السورية فْإنه ما يزال حتى الساعة بون شاسع في مواقف تلك الأطراف ومفاهيمها تجاه المسائل الأساسية في صيرورة الإنقاذ الوطني وفي مرحلة الانتقال الى المستقبل الديمقراطي المنشود . فبعد ان ادى تطور الأحداث المتعاقبة , وتعاظم التحديات المهددة لمصيرنا الوطني الى تقارب في المواقف والرؤية المعلنة تجاه تلك المسائل الأساسية ,نجد انه  ظلت برغم ذلك على ارض الواقع وعلى صعيد الممارسة العملية خلافات جوهرية قد تصل احيانا الى درجة التناقضات الرئيسية لا الثانوية . فاذا كانت اغلبية تلك القوى الوطنية والنخب الفكرية والثقافية ومنظمات وهيئات المجتمع المدني تؤمن اليوم ان لاسبيل لتجاوز الماساة التي يعيشها بلدنا و التوجه نحوتحقيق تطلعات شعبنا المشروعة الا سبيل الحل السياسي فليست هناك وحدة في المواقف والمفاهيم تجاه طبيعة هذا الحل السياسي ومستلزمات تنفيذه والخطوات المرحلية والانتقالية لاستكماله .
اما عن تشخيص الواقع الراهن اي واقع المحنة الدامية التي يكتوي شعبنا بنيرانها ,هذا التشخيص الصحيح الذي يمثل بلا جدال قاعدة الانطلاق لخارطة طريق الحل السياسي الوطني المأمول فهناك تناقض صارخ بين مواقف العديد من المعارضات السورية والمجموعات الارهابية المسلحة المقاتلة ومواقف نظام الإستبداد وحلفائه ومواقف الدول الاقليمية من جهة والدولية من جهة اخرى . فبينما ما يزال النظام يصر ان ما يواجهه منذ ست سنوات هو مؤامرة دولية كبرى ,وليس  في الأساس انتفاضة شعبية سلمية من اجل الإصلاح والديمقراطية والكرامة والمساواة , نجد معظم معارضات الخارج المرتبطة باجندات الدول الاقليمية تواصل عزف سيمفونيتها الممجوجة بان ما يدور على الارض السورية منذ خمس سنوات وحتى الوقت الحاضر هو بعينه المسار الطبيعي والصحي للثورة السورية التي لجات مضطرة الى العسكرة والاسلمة والتدويل , وان السبب الرئيس في كون هذه الثورة لم تنجز انتصارها وتحقق اهدافها حتى الآن هو بايجازتواطؤ المجتمع الدولي بشرقه وغربه وتآمره مع النظام القائم لإفشالها  !!!! فكيف يمكن للمواطن السوري ضحية قوى الاستبداد والارهاب أن يصدق وان يقتنع ان مثل هذه المعارضات تعمل حقا من اجل هدف الانقاذ الوطني اذا كانت كل اطراف المجتمع الدولي بغربه وشرقه وشماله وجنوبه وعلى راسه هيئة الامم المتحدة , وقبل ذلك ايضا كل المراقبين الموضوعيين لما يجري في بلدنا , وفي عموم المنطقة , بل ماتمثله عملية التدمير الذاتي الطاحنة التي تكاد في حال  استمررها  ان تقضي على مقومات وجودنا الوطني , كل هؤلاء على قناعة تامة بأن مايجري في سورية منذ سنوات هو حرب اهلية طاحنة , بطابعها المذهبي والإثني , وبعدها الاقليمي والدولي
من هنا يمكن ان نفسر مواقف هؤلاء الذين ما يزالون  يرون حتى الساعة ان مايجري على الأرض السورية , من اقتتال ودمار وجرائم ضد الانسانية ترتكبها كل الأطراف المتقاتلة ,هو مسار صحي لثورة سورية , وان استمرار هذا المسار سيؤدي الى تحقيق الاهداف التي انتفض الشعب السوري في سبيلها , ولذلك رأيناهم عند اي منعطف تواجه  فيه العملية السياسية بعض الصعوبات والعراقيل  والإخفاقات, كما في فشل آخر هدنة وتجميد التوافق الروسي الأمريكي , يرتدون مباشرة الى مواقع اعلان التمسك بمواقفهم الحقيقية وهي ان استمرار هذه الحرب العبثية المدمرة هي الوسيلة الوحيدة والممكنة للتخلص من هذا النظام . كذلك لا غرابة  اذا وجدناهم يننظرون الى كل تقدم في خطوات الحل السياسي بأنه شكل من اشكال التآمر الدولي على الثورة التي هم وحدهم  يمثلونها  وهم وحدهم المؤتمنون عليها !!!.
ولعل من اشد تلك المواقف المتباينة خطورة على مصير ومستقبل بلدنا  في دوامة هذا الخلاف ,او لنقل في صراع المفاهيم الدائر بين محتلف النخب  والاطراف والمعارضات السياسية السورية هو الموقف من مفهوم ميزان القوى على الأرض والمعني بذلك  بالنسبة لها حال القوى المتقاتلة على امتداد الجغرافية السورية , والمقصود بميزان القوى هذا هو قدرة كل فصيل او منظمة او جهة مسلحة القتالية ومدى سيطرته على اوسع نسبة من مساحة الارض السورية وما تشمله من نسبة سكانية او موارد اقتصادية ,وكذلك مدى شراسته في استمرار القتال في مواجهة  قطعات الجيش السوري والمجموعات المتحالفة معه . هكذا اصبح الحديث اذن عن ميزان القوى المطلوب تحقيقه في نظر هذه المعارضات المرتهنة , والذي يخدم  في نظرها مصالح شعبنا ويحقق مطالبه هو تسعير اوار هذه الحرب الكارثية التي تتسابق كل اطرافها لاستقدام المزيد من الاسلحة الفتاكة ووسائل الدمار والخراب المتطورة وغاب عن وعي تلك المعارضات ان ما فهمته وما طبقته على ارض الواقع في مجال الحشد والتعبئة والتجييش كي يكون ميزان القوى الذي تبنته في صالحها والذي يكفل لها الغلبة  في حربها هو ميزان القوى الغاشمة المدمرة المستهدفة  لقيمنا ومبادئنا وتاريخنا، بل ولوجودنا كله
انه باختصار ميزان القوى التي لا شرعية ولا مشروعية لها ,والتي يمثل استمراها اكبر تهديد لمشروع شعبنا السوري الديمقراطي الحضاري الموحد ولسلام وامن العالم كله . ان هذه النظرة لمفهوم ميزان القوى يضرب في الصميم اول ضمانة لانتصار ارادة شعبنا ويهدر كل التضحيات التي بذلت لانه يقلب مفاهيم الثورة الحقيقية , ويجعل بديلها اداة تدمير عامل القوة الذاتي لديها  وتشويه هويتها واغتيال روحها التحررية وفقدانها مشروعيتها وخطابها الإنساني المعبر عن القيم الكونية المشتركة الذي يؤهلها لكسب تاييد وتضامن اوسع اطار من الراي العام العالمي وكل قوي الحرية والعدالة والتقدم  . فاذا كان تصحيح مسار الحراك الشعبي , وّاذا كان استرداد القرار الوطني المستقل , واذا كان التعبير عن ارادة شعبنا في سياق مشاريع التوافقات الدولية التي قد يتم التوصل اليها على قاعدة قرارات الامم المتحدة ذات الصلة وذلك بما يكفل انسجام هذه المشاريع ولو مرحلينا مع مصالح شعبنا العليا ,اذا كانت كل هذه الأمور الحيوية ضرورية وملحة كي تخرج بلادنا من النفق المظلم الذي دفعت اليه فكيف تبرر تلك الاطراف المعارضة تجاهلها الدائم لارادة شعبها الحقيقية واستمرار رهانها الخاسر على ميزان القوى بين مصارع الاستبداد وظلام الإرهاب ؟.
اقرأ:
د. حبيب حداد: من هي القوى التي ستقرر مصير سورية بعد اليوم



المصدر: د. حبيب حداد: مفاهيم ومهمات البناء والتطوير من حيز الشعارات والتنظير الى أرض الواقع والتدبير

انشر الموضوع


اشترك بالإعلام الفوري بالاخبار الجديدة بالإيميل .. ضع بريدك