مايو 2, 2024

كلنا شركاء: محمد فارس- الحياة
ينطــــلق ثلاثة شبان على دراجة نارية كل ليلة من مســـجد «أســـامة بن زيد» في قرية سوق وادي بردى غرب الريف الدمشقي في اتجاه غير محدد مسبقاً. بالكاد يرى السائق طريقه في الوادي المحاصر الذي تغيب عنه الكهرباء معظم اليوم. قناصو الجيش الحكومي و «حزب الله» اللبناني الرابضون على التلال يستهدفون مصادر الضوء وكل ما يتحرك.
تقترب الدراجة من مضيق صخري غرب القرية يمر فيه نهر بردى. يترجل الشبان الثلاثة ببنادقهم ويعبرون إلى الضفة الأخرى حيث مقبرة رومانية محفورة في الصخر. يفترشون الأرض مع قليل من الخبز والزيتون، ثم يبدأون بترنيم أبيات للشاعر اللبناني طليع حمدان.
إنه وداع يتكرر منذ أيام وقد يكون الأخير. ليسوا زملاء دراسة ولا أصدقاء طفولة، لكنهم اقتسموا زادهم أيام عملوا في بساتين وادي بردى والزبداني أثناء مواسم قطاف التفاح والإجاص والكرز والدراق. غالباً ما ذهبت محاصيل المنطقة إلى دمشق وحلب ولبنان ومصر والخليج العربي.
وسبق للشبان الثلاثة المشاركة في التظاهرات ضد نظام الرئيس السوري بشار الأسد منذ ربيع 2011. إلا أن تعقيدات الوضع واعتقال ومقتل الآلاف من أبناء المنطقة حتّمت على البعض الهجرة إلى دول الجوار وأوروبا، بينما بقي من انخرط في الثورة بأي شكل حبيس الوادي منذ عام 2012 جراء حصار جيش النظام.
بـ «الصلح» جيناكم!؟
يتابع النظام إحكام الخناق على ريف دمشق عبر «قطار مصالحاته الوطنية» الذي وصل إلى المعضمية، وخان الشيح، وداريا، ويلدا، وببيلا، وبيت سحم، والتل، وقدسيا، والهامة. ويعتزم أن يتجه قريباً إلى الغوطة الشرقية، ومخيم اليرموك، والحجر الأسود والأجزاء التي تسيطر عليها المعارضة في وادي بردى.
وكثف «حزب الله» والجيش الحكومي العمل العسكري والحصار على قرى وبلدات الوادي المحاصر منذ 2012. وأفرغ «حزب الله» بلدة هْرِيْرة في الوادي، القريبة من مضايا المحاصرة، من سكانها في تموز (يوليو).
وتسيطر فصائل أهمها «جبهة فتح الشام»، و «أحرار الشام»، و «الجيش الحر» على قرى الوادي أي بسيمة، وعين الخضراء، وعين الفيجة، وإفرة، ودير مقرن، وكفير الزيت، ودير قانون، والحسينية، وكفر العواميد، وبرهليا، وسوق وادي بردى. فيما يسيطر النظام و «حزب الله» على دُمَّر وقدسيا والهامة وجمرايا وجديدة الوادي وأشرفية الوادي وهْرِيْرة.
وتقع تلك القرى على ضفتي نهر بردى الذي ينبع من سهل الزبداني، 45 كيلومتراً شمال غربي دمشق، ويصب في بحيرة العتيبة، شرق العاصمة، بطول 84 كيلومتراً.
وتتحدث مصادر موثوقة عن اكتمال وصول تعزيزات إلى تخوم الوادي من «حزب الله» والجيش النظامي والقوات الرديفة. ويصعب إدخال المواد الغذائية والطبية إلى الوادي إلا عبر رشاوى يتلقاها ضباط على حواجز الجيش الحكومي الذي يحاصر المنطقة.
وسيطر الجيش في تشرين الأول (أكتوبر) على الهامة وقدسيا بموجب اتفاق قضى بخروج مسلحي المعارضة وعائلاتهم منهما إلى إدلب، شمال سورية.
قطار «المصالحة»
احتفالاً بعودة تسيير رحلات القطار البخاري بين الهامة والربوة، بوابة دمشق الغربية، في 5 كانون الأول (ديسمبر)، وإلى جانب مسؤولين رسميين سوريين آخرين، صعد همام حيدر، أمين فرع ريف دمشق لحزب «البعث»، إلى القطار متجهاً إلى الهامة التي سيطر عليها الجيش النظامي في منتصف تشرين الأول (أكتوبر). ما بين الربوة والهامة 8 كيلومترات، هي جزء من 140 كيلومتراً هي خط بيروت – دمشق الحديدي. حوالى 60 كيلومتراً كان يقطعها القطار قبل 2011، من محطة الحجاز في دمـشق إلى سرغايا على الحدود مع لبنان مــروراً بدير قانون في وادي بردى، مسقط رأس حيدر. وتضع المعارضة أمين فرع الحزب على قائـــمة الاغتـــيالات بــسبب «إعانته النظام على قصف الوادي» و «محاولاته شق صفوف الفصائل الثورية».
لكن قرويي وادي بردى لن يتجمّعوا احتفالاً على طرفي السكة الحديد التي شُيّدت عام 1895 كما فعلوا حين مرّ القطار من واديهم ذات يوم وفيه الرئيس جمال عبدالناصر، أيام الوحدة بين سورية ومصر (1958 – 1961)، إذ لا محطة جاهزة في دير قانون، فالمحطة التي رُمِّمت عام 2006 أحرقها مجهولون أخيراً.
كما أن «قطار المصالحة»، الذي يساهم حيدر بدفعه يواجه عقبات كثيرة. فالوضع معقّد خصوصاً بسبب حالات الاغتيالات والتفجيرات التي اتُهِم النظام بتدبيرها.
وسبق لهمام حيدر أن انخرط في «صفقات مصالحة» مع مسلحي المعارضة الذين عادوا إلى «حضن الوطن». ففي حزيران (يونيو) 2013، أعدم أمير «أحرار الشام» في وادي بردى، عدنان حيدر، مقاتلاً معارضاً بغير محاكمة ثم انشق عن الحركة التي دانت الحادثة. وبدعم من همام حيدر شكّل عدنان حيدر ميليشيات محلية تابعة لـ «قوات الدفاع الوطني» الموالية. وما لبث عدنان أن قُتِل على يد مجهولين في تشرين الثاني (نوفمبر) 2015.
وتروج وسائل إعلام النظام لمفاوضات تجري بين النظام وبعض مسلحي الوادي في شأن «المصالحة» ضمن شروط إخراج المسلحين ومن يرغب إلى إدلب، وتسليم الأسلحة ما عدا الفردية منها، وتسوية أوضاع المتخلفين عن الخدمة العسكرية، وفك الحصار عن الوادي، وتشكيل قوات عسكرية موالية للنظام من السكان المحليين مهمتها حماية المنطقة، فيما قالت مصادر محلية إن وفداً من أهالي وادي بردى رفض مشروع «المصالحة» وطرح في دمشق في جلسة مفاوضات مع النظام في تشرين الثاني (نوفمبر) هدنة مشروطة يوقف بها النظام عمليات إطلاق النار والقنص ويطلق سراح معتقلات الوادي.
كما ينص الطرح على أن تسمح المعارضة بدخول ورش إصلاح خط مياه نهر بردى الذي يزود دمشق بمياه الشرب على أن يلتزم الجيش بعدم مضايقة السكان أثناء مرورهم بالحواجز، ويسمح بعودة أهالي قريتي إفرة وهريرة، وبإدخال المواد الغذائية والطبية والمحروقات. ومنع النظام في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) دخول قافلة مساعدات تابعة للأمم المتحدة إلى الوادي. وينتظر وفد الأهالي من النظام البدء بتنفيذ الشروط خلال 15 يوماً، تتوقف بعدها المفاوضات في حال تم الإخلال بالشروط.
لا ثقة متبادلة
ما يُقلق النظام في مقاربة وادي بردى وجود نبع عين الفيجة وأنبوب لنقل مياه نبع بردى إلى دمشق التي يزودها النبعان بأكثر من 80 في المئة من حاجتها من المياه. وسبق أن استهدف مسلحو المعارضة أنبوب بردى وأوقفوا ضخ نبع الفيجة مرات عدة في الأعوام الخمسة الماضية جراء استهداف النظام و «حزب الله» قراهم.
كما تشكل قوة المعارضة في الوادي مصدر قلق للنظام، خصوصاً أنها طردت عناصر «داعش» من المنطقة في شباط (فبراير)، فأسرت الكثير منهم فيما هرب آخرون إلى لبنان ممن ارتكب جرائم بحق أبناء المنطقة. ولا تزال طريقة وصول أولئك إلى لبنان غامضة، إذ كانت أمراً شبه مستحيل في ظل حصار المنطقة وتحكم «حزب الله» بالحدود السورية- اللبنانية.
ويتعامل النظام بحذر مع الوادي بحكم عدد السكان الكبير، إذ زاد حجم السكان في قرى الوادي في شكل كبير بسبب وجود نازحين من محافظات أخرى.
ووفق تقرير للمركز السوري لبحوث السياسات فإن ريف دمشق هي المحافظة الأولى من حيث استقبال النازحين على مستوى البلاد عام 2014، إذ نزح إليها حوالى 22 في المئة من إجمالي عدد النازحين، فيما حلت المحافظة ثانياً بعد حلب بعدد النازحين منها، إذ شكل النازحون منها 23 في المئة من إجمالي عدد النازحين على مستوى البلاد.
في الانتظار
لا يبدو مسلحو المعارضة والمطلوبون في وادي بردى على رأي واحد لجهة البقاء أو الخروج من منطقتهم بموجب ورقة «استسلام» أو «مصالحة»، أو الانخراط في صفوف الجيش الحكومي والقوات الرديفة كما عُرض عليهم. إلا أنهم بالمجمل متفقون على تجنيب منطقتهم بطش النظام وهم الذين خبروه كما آباؤوهم وأجدادهم. والخيارات المتاحة أمام الوادي واضحة: إدلب أو القتال، أو «العودة إلى حضن الوطن».
ينوي عبدالله، 30 سنة، والمطلوب لأداء الخدمة الإلزامية، أن يشد الرحال مع زوجته وطفله إلى إدلب تاركاً والديه في الوادي، بينما يعتزم أحمد، 27 سنة، أن يبقى ولا يسمح بدخول الجيش إلا على جثته. يقول: «بندقيتي بيدي، وعاهدت نفسي منذ بداية الثورة ألا أغادر إلا إلى دمشق». وكذلك سعيد، 38 ســنة، وهو مدرس، سيبقى في قريته من دون قتال. ولا يبدو سعيد نادماً على عودته من ألمانيا، بعد أن قضى هناك أياماً عدة العام الماضي عقب رحلة شاقة فقد فيها صديقاً دهسه قطار في مقدونيا. «سأبقى»، يقول. ويضيف سعيد: «وإن أرادوا اعتقالي لأنني تظاهرت ضد بشار الأسد، فليكن. أصلاً ما عادت محرزة».
وحتى ساعة الحسم، يكرر الأصدقاء الثلاثة سهراتهم ويغنون كل ليلة: «لِعيش يقضي عالعدا، ولْ بيموت الله يرحمو».
اقرا:
قرية (هريرة) في وادي بردى تحت تهديد التهجير والتفجير



المصدر: خيارات وادي بردى: إدلب أو القتال أو (العودة إلى حضن الوطن)

انشر الموضوع


اشترك بالإعلام الفوري بالاخبار الجديدة بالإيميل .. ضع بريدك