أبريل 28, 2024

هل يمكن أن تُصنع مادة من فراغ؟ يبدو سؤالاً سخيفاً يتناقض مع بديهيات المنطق والعقل، ولكن العلم أعاد تعريف كثير مما هو بديهيات في أذهاننا، فالفراغ ليس فراغاً كما نظن، وهذا الفراغ يمكن أن يتولد منه مادة فيما يعرف بظاهرة “كسر الفراغ”.

كسر الفراغ، هو ظاهرة يُفترض أن يتم عبرها تحويل الطاقة إلى مادة، ولكي نفهم الأمر جيداً نحتاج إلى إعادة فهم الفراغ، فالفراغ ليس خالياً تماماً كما اعتدنا وصفه، الفراغ مليء.

الدليل؟

عند تسليط أشعة الليزر ذات قوة عالية على كتلة من الفراغ تقوم هذه الأشعة بكسر الجاذبية المتبادلة بين الإلكترونات والبوزيترونات -جسيم معاكس للإلكترون في الشحنة لكنه يتطابق مع الإلكترون في الصفات والخصائص الفيزيائية كافةً – ويتسبب هذا في توليد أشعة جاما؛ مما يؤدي إلى توليد أزواج جديدة من الإلكترونات والبوزيترونات التي تترابط بعضها مع بعض لتكوين جُسيمات وإشعاعات جديدة، في عملية مستمرة طالما يستمر شعاع الليزر في المرور عبر الفراغ.

يقول الفيزيائي الصيني روكسين لي الذي يجري تجارب مرتبطة بهذا الحقل العلمي: “هذا يعني أنك يمكن أن تولد شيئاً من لا شيء”!

كل كهرباء الأرض لا تكفي

الأمر بدأ منذ أكثر من 11 عاماً، منذ اكتشاف أينشتاين النسبية العامة وقانون “E=mc2″، عندما اكتشف العلماء أن هناك قابلية للتبادل بين المادة والطاقة بعدما أظهر تطور الطاقة النووية أن المادة يمكن تحويلها إلى طاقة، مثلما يحدث في القنبلة النووية التي تتحول فيها المادة المشعة إلى طاقة ضخمة، ولكن العملية المعاكسة أي تحويل الطاقة إلى مادة ليس بالأمر اليسير، بل يحتاج الى طاقة هائلة لايمكن الحصول عليها إلا عبر الليزر .

وهذا مايحاول أن يقوم به روكسين لي وزملائه، في داخل مختبر ضيق في شنغهاي بالصين وبالفعل حققوا رقما قياسيا بتسجيل أكبر قوة لأشعة الليزر.

ففي عام 2016 استطاع روكسين لي Ruxin Li وزملائه الحصول على ليزر فائق التركيز وفائق السرعة (SULF) super intense ultrafast laser وذلك عن طريق تسليط الضوء على أسطوانة أحادية مصنوعة من الياقوت المُطعم بالنيوديميوم عنصر فلزي نادر أبيض اللون- ثم تمرير الأشعة من خلال مجموعة من العدسات والمرايا ليحصل الفريق على أقوى قوة لأشعة الليزر تبلغ قوته 5.3 بيتا وات (PW)، إنه ليس رقما ضئيلا على الإطلاق كما يبدو أنه يعني 5.3 مليون بليون وات أي يعادل 1000 مرة قوة جميع محطات الكهرباء حول العالم مجتمعة، وفقا لمجلة العلوم الأميركية الشهيرة.

وقد كان الناتج عبارة عن مجموعة من النبضات فقط ليس شعاعًا مستمراً لكن كل نبضة قوية جداً بشكل غير عادي. لذلك يعكف الباحثون على تطوير الليزر فائق السرعة والتركيز ويأملون أن يستطيعوا إنتاج الليزر كشعاع مستمر خلال نهاية عام 2018.

تكلفة ضخمة ومعضلة حيرت الأميركيين : قصة الثورة التي غيرت الليزر

تُبنى الطرق التي يعتمدها العلماء في توليد شعاع ليزر فائق على قانون القدرة حيث القدرة (تقاس بال”وات”) تساوي الطاقة (جول) مقسومةً على الزمن (الثانية).

لذلك توجد طريقتين للحصول على ليزر فائق السرعة ؛ “الطريقة الاولى” تعزيز طاقة الليزر و”الطريقة الثانية” تقصير مدة نبضات طاقة الليزر .

في عام 1970 ركز باحثون في مختبر لورانس ليفرمور الوطني في كاليفورنيا (LLNL) على “الطريقة الاولى” حيث قاموا باستخدام نبضات ضوئية ذات طاقة عالية وعملوا على تضخيمها بطريقة مكثفة خلال عملية إنتاج الليزر. لكن لوحظ أنه عند وُصول الأشعة فوق شدة معينة فإن طاقتها تؤثرسلباً على مكبر الإشارة.

ولكن في عام 1983 حقق العالم الفرنسي جيرارد مورو- وزملائه اكتشافاً شكل ثورة في مجال الليزر؛ حيث أدرك أن نبضات الليزر القصيرة من الممكن أن تمتد لفترة زمنية أطول وذلك بتوفير وسط أقل كثافة من الهواء مما يجعل طاقة النبضات الضوئية أقل حدة ثم يتم تكبيرها تدريجياً مما يساعد على تضخيم طاقة الليزر مع بقاء مكبر الإشارة يعمل بشكل جيد. وتعتمد هذه الطريقة على الجزء الثاني من معادلة القدرة وهي تقصير زمن النبضات “الطريقة الثانية”.

كيف يتم انتاج هذه الشُعَاع الفائق؟

إنتاج الليزر يعتمد بشكل أساسي على مرور الضوء خلال المواد على هيئة نبضات ثم تنحرف عن مسارها وتنتشر وفقا لطولها الموجي وعند إعادة تسليط الضوء مرة أخرى خلال ذات المادة مراراً وتكراراً تنتج نبضات أكثر، و تصبح مُركزة ومُوحدة الإتجاه، ذات طول موجي واحد لنحصل على شعاع الليزر.

laser lab

لكن لإنتاج ليزر فائق القوة والتركيز وذو طاقة أعلى تكمن الحيلة في التلاعب بنبضات الضوء لتكون قصيرة خلال وقت قصير للغاية لتحقيق قانون القدرة كما سبق وذكرنا حيث كمية الطاقة المتولدة من الليزر تتناسب عكسياً وطول النبضات في الزمن. وهذا ما تم تحقيقه من خلال بلورات الياقوت المطعمة بالنيوديميوم التي اعتمد عليها روكسين لي وفريقه.

تساعد بلورات الياقوت المطعمة بالنيوديميوم على تضخيم أكبر للأشعة، لينتج عن الانعكاس خلالها فيضاَ ضوئياً في شكل حزمة ليزر بقوة 10 بيتا وات تذكر هذا يقارب 2000 مرة قوة جميع محطات الكهرباء حول العالم مجتمعة.

هذه الطريقة كلّفت الفريق غُرفة كبيرة وعشرات الملايين من الدولارات، ومع ذلك هذا النموذج تبدو تكلفته زهيدة مقارنة بالطريقة الأولى التي تحتاج إلى بناء 10 طوابق عالية تغطي مساحة ثلاثة ملاعب كرة القدم الأميركية وقد تصل تكلفتها الى 3.5 مليار دولار.

لماذا ينفق العالم كل هذه الأموال لانتاج ليزر ذي طاقة عالية؟

بالطبع هناك سؤال الآن يطرح نفسه وهو لماذا تجرى أبحاث علمية تستهلك كل هذا القدر من الأموال والجهد للحصول على كل هذه الطاقة من شعاع الليزر؟.
ومالفائدة من مثلا من توليد مادة جديدة من الفراغ كما سبق الإشارة

فوائد الليزر متعددة ولكننا سنركز على أهم الاستخدامات التي يمكن أن الحصول عليها من شعاع ليزر ذو قوة 10 بيتا وات أو أكبر.

1.تحويل الطاقة إلى مادة .. فصل نووي جديد

يُعد الفراغ من أكثر المصطلحات المحيرة في عالم الفيزياء والذي جاءت ميكانيكا الكم باحتمالاتها لتضع للفراغ الكثير من التعقيدات الإضافية والتي تُعرف الفراغ على أنه مكان معزول تظهر فيه أزواج من الجُسيمات الافتراضية -إلكترونات و البوزيترونات- تظهر وتختفي بسرعة دون أن نلاحظها لفترة قصيرة للغاية مما يعني أن الفراغ ليس خاوياً تماماً كما اعتدنا على وصفه.

واعتماداً على قانون النسبية لأينشتاين فبإمكاننا تحويل الطاقة إلى مادة والعكس لكننا حالياً لا نستطيع إلا تحوي المادة إلى طاقة ليظهر الليزر ذو القوة الفائقة ليكتب فص جديد من تنفيذ قاونو النسبة ويظهر مُصطلح كسر الفراغ

بما أن الليزر موجات كهرومغناطيسية يتولد عنه مجال كهربي يتزايد بتزايد قوة الليزر وطاقته ولما كنا نتحدث عن ليزر بقوة 10 بيتا وات وأكثر فهذا المجال يستطيع كسر الراوبط بين الإلكترونات و البوزيترونات في الفراغ مما يعطيها الفرصة للتحرر وإطلاق آشعة جاما التي تُولد بدورها مجموعة أخرى من الإلكترونات و البوزيترونات التي يمكننا اكتشاف نشاطها بسهولة آن ذاك.

وقد تكون آشعة جاما قوية بما يكفي لوضع ذارت الجُسيمات الافتراضية داخل الفراغ في حالة الإثارة مما سيؤدي إلى ظهور فرع جديد من الفيزياء يعرف بإسم “الضوئيات النووية” والتي ستستخدم في السيطرة على العمليات النووية .

2. الليزر والسرطان مرحلة جديدة

تستطيع أشعة الليزر ذات القوة العالية تحويل هدف معدني إلى البلازما -هي الحالة الرابعة من المادة التي تظهر فيها على شكل مائع مُتأين تنفصل فيه الإلكترونات عن ذرات المادة وتصبح حرة- مما يعني الحصول على كمية كبيرة من الإلكترونات.

وهذا يُمكن الأطباء من استخدام تلك النبضات البروتينية الموجهة لتدمير السرطان وكلما زاد معدل سرعة معدل إطلاق الليزر كلما أمكن استخدام جرعات صغيرة فردية.

3.تطوير آلات ومعدات الفيزيائيين

يحلم الفيزيائيون باستخدام الطاقة العالية لأشعة الليزر للحصول على مُسرع جسيمات قوي.

فعندما يُطلق نبض ليزر مكثف يقوم بتحرير مجموعة من الإلكترونات والأيونات الموجبة، و تبدأ الإلكترونات في الحركة مع الأيونات في اتجاه معاكس لمصدر إضاءة الليزر مما يتولد مجالاً كهربائياً قوياً يُمكن استخدامه في تسريع الجسيمات المشحونة لتكتسب طاقات عالية خلال مسافات قليلة تبلغ مليمترات بديلاً عن المسافات الطويلة التي كنا نحتاج إليها قُبلاً. مما يعطينا قدرة أكبر على دراسة الجسيمات الفيزيائية وحركتها في معامل أصغر بدلاً من من مؤسسة CERN والتي تم بناءها اعتماداً على ممرات طويلة تسمح باطلاق الجسيمات الفيزيائية بسرعات عالية تكتسبها خلال مسافات طويلة.

كما يمكن تجميع هذا الإلكترونات المُتسرعة للحصول على ما يُسمى بليزر الإلكترون الحر (فيل FEL)، الذي يتولد عنه نبضات من الأشعة السينية التي يمكن أن تكشف الكثير مما تُخفيه التفاعلات الكيميائية والظواهر البيولوجية خلال حدوثها.

من يتصدر السباق؟

يدور سباق دولي حول تطوير هذه التكنولوجيا إذ ينوي الصينيون بناء مرفق لإنتاج ليزر بقوة 100 بيتا وات والأوروبيون رفعوا معدل أهدافهم لبناء رقم مماثل أما الفيزيائيون الروس فقد وضعوا تصميما لمحطة تولد أشعة ليزر بقوة 180 بيتا وات، بينما وضع اليابانيون مقترحات لبناء جهاز يولد 30 بيتا وات.

العلماء الأميركيون تخلفوا في هذا السباق، ودعت دراسة نشرتها مجموعة من أكاديميات العلوم والهندسة والطب الوطنية ووزارة الطاقة إلى التخطيط لمرفق ليزر واحد على الأقل عالي القدرة، وهذا يعطي الأمل للباحثين في جامعة روشستر في نيويورك، الذين يطورون خططًا لمرفق ليزر بقوة 75 بيتا وات.

في الوقت الحالي تركز مؤسسة SEL الصينية ومشروع XCELS الروسي و OPAL الأميركي للاستحواذ على الليزر الفائق وقد يكون أول ليزر لكسر الفراغ من إنتاج SEL في الصين، حيث يأمل روكسين لي فى الحصول على موافقة حكومة بكين على التمويل – قُرابة 100 مليون دولار فى بداية هذا العام. يقول روكسين لي ” تملك الصين الكثير من الأموال التي تضخها في الأبحاث العلمية كما لديها الكثير من العلماء،وهي تحاول اللحاق بركب التقدم والتكنولوجيا بسرعة”.

فمن يفوز بهذا السباق ويستطيع أن يولد مادة من الفراغ الذي ثبت أنه ليس فراغا تماما.

انشر الموضوع


اشترك بالإعلام الفوري بالاخبار الجديدة بالإيميل .. ضع بريدك