أبريل 26, 2024

يواجه الأطفال السوريون خطر الإصابة بحالة اضطراب ما بعد الصدمة، بمعدل يفوق 10 أضعاف احتمال إصابة نظرائهم من الشباب في جميع أنحاء العالم.

في أثناء فرارهم من أهوال الحرب، فقدَ الآلاف من الأطفال السوريين براءتهم إزاء مشاهد العنف والاعتداء الجنسي والحزن والألم؛ لذا فور وصولهم إلى مكانٍ آمنٍ من تهديدات الصراع، تنطلق المعركة من أجل سلامتهم وعافيتهم النفسية، لتباشر غالباً مراحلها الأولى.

لم يعُد أمراً غريباً ولا مفاجئاً، تحوُّل نفسية الأطفال اللاجئين الذين لم يتجاوز عمرهم 12 عاماً، إلى درجة إلحاق الضرر بأنفسهم، ومحاولة الانتحار، خاصة أن من بينهم من شهد ذبح قريب له على يد ما يسمى “الدولة الإسلامية” أو صديق لقي حتفه خنقاً نتيجة قصفهم بقنبلة غاز الكلور من قبل نظام بشار الاسد.

لقد علمت النسخة البريطانية من “هاف بوست” كيف أن الفتيان والفتيات الذين لا تتجاوز أعمارهم 6 سنوات يصارعون ظروفاً شديدة القسوة، مثل الإجهاد الضار والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة الحادة (PTSD)، وكلها حالات من الخطورة بحيث إذا غاب العلاج المناسب، قد تدمَّر حياتهم خلال فترة بلوغهم بالكامل.

أبرزت دراسةٌ أجراها معهد سياسات الهجرة، شملت أكثر من 300 طفلٍ لاجئٍ سوريٍ، بعض العوامل الأخرى التي أدت إلى هذه الحالة من الاضطرابات النفسية، وتوصلت الدراسة إلى الملاحظات التالية:

• شهد 79٪ من الأطفال السوريين حالة موت بين أفراد الأسرة.

• 60 % رأوا شخصاً ما یتعرَض للركْل أو إطلاق النار أو الإيذاء جسدیاً.

• أفاد 25٪ منهم بأنهم يعانون ألماً نفسياً جسدياً يومياً، يشعرون بأثره في أطرافهم، في حين أفاد واحدٌ من كل 5 أطفال، بأنه يعاني الصداع يومياً.

يواجه علماء النفس في مراكز “يونيسف مكاني” بالأردن معركة شاقة على جميع الجبهات.

يشهد مستوى الطلب على خدماتهم ارتفاعاً مذهلاً، ويقدم موظفو اليونيسف أنواع المساعدة والدعم لـ697 ألفاً من الأطفال والبالغين، عن طريق برامج حماية الطفل والخدمات الاجتماعية النفسية، لكنهم حددوا 812 ألف شخصٍ آخرين على الأقل، في حاجة إلى مساعدتهم.

يُظهر نحو 44٪ من الأطفال السوريين علامات الاكتئاب، و45٪ يُعتقد أنهم يعانون اضطراب ما بعد الصدمة (10 أضعاف معدل انتشار هذه الحالة وسط الأطفال في أماكن أخرى من العالم).

ومن العقبات الأخرى التي يواجهها عمال مراكز “مكاني”، ضرورة الفوز بثقة الأسر التي لا تثق أصلاً بالسلطات، وكمثال على هذه العلاقة المعقدة، فقد رفضت الأسر في بداية الأمر السماح للحكومة الأردنية بتقديم اللقاحات المنقذة للحياة لأطفالهم؛ خشية أن تكون تلك اللقاحات مسممة.

لكن، يجب أن ندرك أن الوقت عاملٌ مصيريٌ؛ لأن التدخل المبكر يعدُ عنصراً حيوياً لمعالجة الصحة النفسية لدى أطفال اللاجئين في الوقت المناسب.

وتعترف عنود عطية، وهي طبيبة نفسية تعمل في مجال حماية الطفل بمركز يونيسف مكاني في مخيم الأزرق بالأردن، (منطقة يقطنها نحو 30 ألف لاجئ سوري)، بأن العمل الذي قامت به على مدى السنوات الأربع الماضية صعبٌ للغاية، وتضيف: “ولكن، يجب عليّ التركيز على هؤلاء الأطفال، إنهم بحاجة إلى مساعدة وأنا هنا من أجلهم، وهذا هو المهم”.

وتضيف: “أشعر في الكثير من الوقت بالتعاطف، ولكن أشعر أحياناً أيضاً بالضيق؛ لعدم قدرتي على مساعدتهم كلهم في كل وقت”.

وتستدرك: “ولكن، ما يمكنني القيام به هو تقديم هذه الخدمة وجَعل الأطفال يشعرون بأن لديهم هذا الفضاء الآمن وأنهم يستطيعون التحدث إلينا في أي وقت، بغض النظر عما حدث لهم “.

وتقول عنود إن اضطراب ما بعد الصدمة أصبح ظاهرةً مَرضيةً منتشرةً بين الأطفال. وتضيف: “يستمر الأطفال فترات طويلة يستعيدون من ذاكرتهم مشاهد ماضية مروعة، وقد يرافق ذلك أحياناً كوابيس، خاصة أنهم معزولون جداً عن الآخرين”.

وتتابع: “ويعانون الكثير من مشاكل النوم ويرعبهم أي شيء يقترب منهم، مثل أزيز الطائرة أو أي أصوات عالية أو أي عدوانٍ قد تصادفه أعينهم.
إذا رأوا طائرة على سبيل المثال، ينطلقون في الصراخ ويضعون أيديهم على آذانهم للاختباء، فتتبللُ أيديهم من شد تصبب العرق، وتتسارع وتيرة تنفُّسهم”.

وتستطرد: “معظم الأطفال هنا يعانون اضطراب ما بعد الصدمة أو اضطراب القلق، ومعظم الأطفال تظهر عليهم نزعة عدوانية مفرطة؛ لكونهم يعتقدون أنه من واجبهم ذلك وهم يحدثون أنفسهم، قائلين: (لا بد أن أكون عدوانياً لكي أتمكن من حماية أخي الصغير أو حماية أمي)، وكانت تراودهم على الدوام، تلك المشاعر المعبرة عن حالة عجزهم”.

syria children

وقالت الطبيبة الاردنية إن مساعدة طفلٍ تعرض للإيذاء الجنسي أكثر تعقيداً مما سواها، وقد أسرّ لها عددٌ لا حصر له من الشابات، عما عانينه على أيدي الميليشيات المدنية، خلال الرحلة المرعبة من سوريا إلى الأردن، وحتى داخل المخيمات الفوضوية، التي يكاد يستحيل التحكم في تسييرها.

توضح: “في حالات الاعتداء الجنسي، يحتاج الضحايا إلى مساعدة طويلة الأجل، نراهم في غالب الأحيان يبنون كنوع من الدفاع عن أنفسهم، جدراناً نفسية من حولهم. يشعر معظمهم بالخوف، ولا يثقون بأي شخص، ويَرغبون عادة في عزل أنفسهم عن محيطهم”.

وتؤكد: “إنها أصعب الحالات التي تواجهنا وعلينا التعامل معها؛ لأن الاعتداء الجنسي من أصعب التجارب التي يعيشها الطفل وتترك آثارها في نفسيته، وعندما يتعرض لها الأطفال يفقدون كل الثقة بالجميع.

وإذا فقدوا كل الثقة بالجميع، فمن الصعب جداً إعادة بناء العلاقة معهم، ويستغرق الأمر وقتاً والكثير من الجلسات مع الطفل لبناء الثقة من جديد معهم”.

وتقول: “الحالة النفسية لدى الأطفال الذين تعرضوا للاعتداء الجنسي تجعلهم يشعرون بالكثير من الخوف حول مستقبلهم. إن ما حدث لهم أمرٌ غير طبيعي ويواجهون أعراضاً غير طبيعية؛ ولهذا السبب فهم بحاجة إلى هذه العناية النفسية، وخاصة إذا كان الاعتداء صادراً عن أحد أفراد الأسرة”.

إن البرامج النفسية والاجتماعية التي تديرها اليونيسف تقدِم المساعدة الحيوية للأزمة، لكن يبقى مستقبل هذه البرامج غير مضمونٍ.

وفي ظل نشوب أزمات عالمية أخرى تستحوذ على اهتمام العالم، يخشى الكثيرون من تراجع الاعتناء باحتياجات الأطفال السوريين، وإسقاطها من جدول الأعمال الدولي.

وكما قالت إيتي هيغينز، نائبة ممثل منظمة اليونيسف في الأردن، لـ”هاف بوست” في بريطانيا، تواجه المنظمة نقصاً خطيراً في التمويل، مما يعني أنه سيُفرض على المنظمة خيارات صعبة بشأن الخدمات التي يمكن أن تقدمها والتي لا يمكن أن تستمر في دعمها.

وقدرت اليونيسف احتياجاتها بما يزيد على 90 مليون جنيه إسترليني في عام 2018 لتمويل برامج حماية الأطفال السوريين اللاجئين في المنطقة، وهذا يشمل مصر والعراق والأردن ولبنان وتركيا.

إنه أمرٌ يصعبٌ على عنود سماعه، خاصة عندما تنظر إلى بعض الأطفال الذين تُقدِم لهم العلاج، منهم من لم يكن في البداية قادراً حتى على مجرد الكلام، من شدة الصدمة التي عانها قبل لجوئه إلى مكان آمن.

وأوضحت هذا الشعور بالقول: “جاءني طفلٌ، ولم يكن يريد التحدث إلى أي شخص، ولا حتى إلى أفراد أسرته، كان عمره 7 سنوات”، ثم تضيف: “لم يتحدث إلى أي شخصٍ 3 أشهر، باستثناء بضع كلمات تبادلها مع والده، كان هذا الطفل يمثل إحدى أصعب الحالات التي واجهناها، وكان في حاجة إلى العلاج السلوكي.. لقد فُصِل عن والدته”.

وتحدثت أيضاً عن طفل آخر، وهو صبي يبلغ من العمر 10 سنوات، قالت عنه: “لقد جاء من مكان كان يوجد به ما يسمى (الدولة الإسلامية).. كان خائفاً ومعزولاً جداً، لم يكن يريد التحدث أو اللعب أو فعل أي شيء، وكان يستخدم لغة عنيفة وعدوانية، حتى مع والديه وأشقائه. وكان يخشى أن يرى أي رجلٍ يمكنه أن يؤذيه أو يؤذي أسرته”.

وقالت عنود إن حالات الاكتئاب أصبحت شائعة للغاية. وتضيف: “في إحدى حالات الاكتئاب، كنتُ أعتني بطفلة داخل عربة كرفان، فقدت هذه الطفلة جدتها في الحرب.. لم تكن ترغب في أن تفعل أي شيء على الإطلاق، وكانت تنام داخل الكرفان، من دون أكل، مع الصراخ في معظم الأحيان”.

حاولنا إقناعها بأن تخرج من الكرفان وتأتي إلينا، لكنها رفضت ذلك، فجَلبنا جميع الألعاب ووسائل التسلية داخل عربة الكفان، وحاولنا اللعب معها.
حاولنا إدخال البهجة والمرح داخل الكرفان، فقمنا بصبغ جدران العربة بألوان بهيجة ولطيفة، وجئنا بالأوراق وقطعنا فراشات وزهوراً وألصقناها عليها”.

وتتابع: “ثم في يوم من الأيام، جاءت إلينا، وأعربت عن رغبتها في التسجيل بقسم الفنون، لقد تحسن حالها كثيراً منذ ذلك الحين، وهي تنعم الآن بنوم جيد وهادئ، وعادت إلى المدرسة، ولها شهية أفضل بشكل كبير، ولديها الكثير من دعم أقرانها”.

يقدم المركز إلى جانب أقسام الفنون، مرافق رياضية، والألعاب، ودروس الدراما، ومخابر تكنولوجية والتدريب على تكنولوجيا المعلومات.

يُذكر أن طفلٌ في الـ14 من عمره، فرّ من حلب بعد يومٍ واحدٍ من تعرض بلدة ريفية قريبة من منزله لقصف بقنبلة من نظام الأسد، وقد انهار فوق رأسه الجدار الذي كان يختفي وراءه، فكُسِرت يده.

وقال الطفل إنه عندما وصل إلى مخيم الأزرق قبل 18 شهراً، كان يعاني خوفاً دائماً.

ويحكي قائلاً: “كنتُ عبارة عن لا شيء، اعتدت البقاء داخل البيت وعدم الخروج، ولم أكن أعرف لا الكتابة ولا القراءة، وعندما جئت إلى هذا المكان، كل شيءٍ بدأ يزدهر، هنا شعرت وكأنني وُلدت من جديد، حياتي انبعثت من جديد”.

وأضاف: “كنتُ دائم الخوف، واعتدت الاختباء في المنزل لكي لا أرى الطائرة؛ لأنك إذا رأيت طائرة، فإنها عادة ما تقصف المنزل.

ساعدني مركز (مكاني) في التعلم والقراءة والكتابة والحصول على المعرفة، واستفدت من المركز كثيراً، لقد فتح ذهني، وقدموا لي المساعدة النفسية وتحدثوا معي بهدوء وعطف”.

ويردف: “بهذا المكان، أناروا لي الأفق، وقد كنتُ دائم الخوف، وخففوا من روعي وقالوا لي: هنا ليس مكاناً للخوف، وبعد ذلك، لم أعد أخاف من أي شيء”.

وتشاهد عنود حالات عديدة من المشاكل الصحية النفسية في ذروة حدتها بين المراهقين السوريين. وتقول: “دعونا نوضح، إن معظم الشباب في الفترة العمرية من 13 إلى 18، يواجهون الكثير من الاضطرابات النفسية.

إنها مهمة صعبة، ولكنها مُرضية جداً عندما ترى في نهاية جلساتك النتيجة الإيجابية، وكيف أن حالة الأطفال تحسنت”.
وأضافت: “هنا يحصلون على مكانٍ مستقرٍ ويعيشون بطريقة صحية تقترب من الحالة الطبيعية، وخاصة من الناحية النفسية”.

يوجد 236 مركزاً لـ”مكاني” في الأردن، حيث يجري اختبارها وتقييمها من قِبل منظمة اليونيسف، من بينها 39 في المخيمات، و69 في المستوطنات و128 في المجتمعات المضيفة، تركز كلها على حماية الطفل والدعم النفسي والاجتماعي والتعليم، لكن مع ذلك، تُقر أنود بأن التأثير الذي يمكن أن تحدثه هذه المراكز محدودٌ.

وقالت: “في نهاية المطاف، لا بد من أن نصارح أنفسنا، إنهم في المخيم، لقد تركوا كل شيءٍ يحبونه خلفهم”.

“تركوا لعبهم، وأماكنهم، ومناطق راحتهم وأمنهم، ثم جاءوا إلى هذا المكان، وبغض النظر عن كل شيءٍ، إنهم يفتقدون بيوتهم، ويحنّون إلى مدنهم، ويشتاقون إلى أُسرهم في سوريا؛ لذلك فكل ما نقوم به هنا، يتلخص في مساعدتهم على التكيف مع الوضع الجديد”.

هذا الموضوع مترجم عن النسخة البريطانية لـ”هاف بوست”. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.

انشر الموضوع


اشترك بالإعلام الفوري بالاخبار الجديدة بالإيميل .. ضع بريدك