أبريل 19, 2024

يونادم يونادم: كلنا شركاء
كانت الحرب تجري بشكل سيئ بالنسبة للأسد، فقد ارتفع في عام 2012 عدد الهاربين من القوات المسلحة ومن الوزارات المدنية بشكل كبير، وانضم الهاربون إلى الجيش السوري الحر وهي منظمة فضفاضة من المجموعات المتمردة عبر البلاد والذين يتطلعون الى التحول الديمقراطي في سورية ٬ ثم بدأ الجهاديون المتطرفون بالظهور على أرض المعركة أيضًا ٬ وأثبتوا بشكل عام أنهم أكثر قدرة على القتال، واستولى عدد من المتمردين على ممرات رئيسية تفضي إلى داخل تركيا ودفعوا القوات الحكومية خارج مناطق كبيرة من شمال سورية بما في ذلك أجزاء من إدلب وحلب ٬ أكبر المدن السورية.
بحلول فبراير من نفس العام كان رئيس (الخلية المركزية) السورية لإدارة الأزمة قد استجوب بركات بالفعل حول التسريبات.
قال موظف آخر في خلية الأزمة لبركات إن سكرتيرته تتجسس عليه. قرر بركات الهرب من البلاد ولكن ليس قبل تأمين الحصول على محاضر الاجتماعات التي كان يحتفظ بها بشكل آمن في مكاتب الأعضاء. كما خطط أيضًا لسرقة المراسلات بين (خلية الأزمة) ومكتب الرئيس ورئيس الوزراء ووزير الداخلية. وخلال أحد أيام العطلة قام بركات بنهب المكاتب وأخذ أكبر عدد استطاع الحصول عليه من الوثائق قبل الانتقال مسافة تقدر بمائتين وخمسين ميًلا شمال دمشق إلى الحدود التركية.
كانت القوات السورية تسيطر على نقطة المرور ٬ ولكن بركات استطاع التسلل عبر النقطة بأكثر من ألف صفحة ملصقة بجسمه وحجز غرفة في فندق باسم مستعار قبل أن يلاحظ أي شخص في دمشق أنه قد رحل. في الشهر التالي وبعد مغادرة والدته سورية قال لمحطة تلفزيون الجزيرة أنه أرد أن تصل الوثائق إلى المحكمة الجنائية الدولية.
بعد هروب بركات بوقت قصير نقلت (خلية الأزمة) اجتماعاتها من قيادة حزب البعث الإقليمية إلى مقر مكتب الأمن الوطني شديد الحراسة. في يوليو ووسط شائعات عن ترقب انقلاب ٬ دوى انفجار داخل غرفة الاجتماعات متسبباً في مقتل رئيس خلية الأزمة، ورئيس مكتب الأمن الوطني، ووزير الدفاع، وزوج شقيقة الأسد (آصف شوكت) الذي كان قد تولى مؤخًرا منصب نائب وزير الدفاع. (تبنت مجموعتان متمردتان على الأقل مسؤولية الهجوم ولكنهم طرحوا سرًدا للحادث يختلف كثيراً عن الوقائع) في اليوم التالي حملت صحيفة (التايمز) عنواناً رئيسياًّ يقول: “واشنطن تبدأ التخطيط لسقوط الحكومة السورية”. ثم قام رئيس وزراء الأسد بالهرب والانتقال إلى المعارضة، كما فعل نفس الشيء المتحدث الرئيسي باسم وزارة الخارجية، حتى ان الجنرال المسؤول عن منع حالات الهروب اتهم القوات المسلحة “بالقيام بمذابح ضد شعبنا المدني البريء” وأعلن “انضمامي إلى ثورة الشعب”.
أقام المحققون السوريون في لجنة العدالة تحالفات مع كتائب محورية في الجيش السوري الحر الذي كان يكتسب فيه أراض جديدة. لم يكن لدى الثوار في البداية “اهتمام بالتوثيق” كما شرح ويلي. “كانوا يدخلون ويستولون على منشأة تابعة للنظام، فتخرج الهواتف الذكية، ويحدث الكثير من الفرح والصياح وإطلاق الأعيرة النارية في الهواء، ثم يقومون بنهب المكان باحثين عن أسلحة وذخيرة التي كانت ما يحتاجون اليه، ثم يضرمون النيران في المكان”، ويتم بذلك تدمير كل الأدلة المحتملة.
يقول ويلي إن لجنة العدالة قالت للثوار: “استولوا على الوثائق أوًلا ٬ ثم نحوها جانباً حتى يمكن إخراجها من البلاد. واحتفظوا بملاحظات — ملاحظات بسيطة جًّدا — مثلاً، من أين تم الحصول على الوثائق وفي أي تاريخ. احفظوها في صناديق. اقفلوا الصناديق بأفضل طريقة ممكنة، بمغلف بلاستك أو شيء شبيه — بأي شيء متاح. ثم مع انتقال المواد ٬ احتفظوا بجدول يفصل حركة النقل، ولكن لا تعبثوا بتلك المواد أو تقلبوها” لأنه في المحكمة بإمكان محامي الدفاع أن يقول “إنكم تجاهلتم أدلة تثبت البراءة عن عمد”.
كثيًرا ما كان المحققون السوريون يصحبون الثوار المعتدلون اثناء مهاجمتهم مباني الاستخبارات والأمن ولكن القوات الحكومية كانت تحاول تدمير كل الملفات التي لم يتمكنوا من أخذها معهم. ففي الأيام التالية التي تعقب الانسحاب “يكون هناك قصف بلا هوادة” لمواقع محورية كما ذكر لي المحقق الرئيسي في لجنة العدالة، ينجم عنه انفجارات في مواسير المياه تدمّر مئات الآلاف من الصفحات قبل أن يتمكن هو وزملاؤه من الدخول. أحياناً تتصل بهم مجموعات مسلحة بغرض أن يأتوا ويجمعوا الملفات بعد انتهاء تبادل إطلاق النار.
قال لي ويلي: “ان تتبع الأشخاص المسؤولين عن حيازة الوثائق هو أمر مهم ٬ ولكنه لا يحسم الأمور كليا.. لقد قتل وأصيب عدد من الأشخاص خلال نقل تلك الأشياء”. وأول الضحايا كان مراسل يتولى مهمة تهريب الوثائق، اذ أصيب بإطلاق النار عليه في 2012 حين دخل مصادفة على خط لتهريب البضائع الى خارج سورية وهو يحمل حقيبة ملابس ممتلئة بالوثائق. منذ ذلك الوقت أصيب اثنان آخران خلال عملية استخراج الوثائق، أحدهما — شقيق نائب رئيس محققي اللجنة — قتل في فخ نصبته القوات السورية. في 2012 أيضًا وصل أحد المراسلين وزوجته إلى نقطة تفتيش غير متوقعة خارج حلب، كان يشرف عليها مقاتلون ينتمون لجبهة النصرة وهي مجموعة جهادية تبين لاحقاً أنها الفرع السوري لتنظيم القاعدة، لقد اكتشف المقاتلون وثائق المراسل في مؤخرة السيارة، وتركوا زوجته تذهب بعد ان قاموا باحتجازه. قال لي ويلي: “هددوا بمحاكمته واعدامه كجاسوس للنظام، غير انه تمكن من التوصل إلى عقد صفقة، حيث تمت إدانته بشيء ما في المحكمة الشرعية وكانت الغرامة خمسة آلاف دولار، وقام بدفع الغرامة”.
اختطفت الجماعات الجهادية خمسة أو ستة محققين، لكنهم أطُلقوا سراحهم جميًعا. ويشكل الإسلاميون الراديكاليون خطًرا على المحققين مساوياً لخطر النظام. وتنظر تلك المجموعات بارتياب كبير الى موضوع العلاقة مع الغرب، وكذلك الى مفهوم العدالة الدولية الذي ليس مألوفاً بالنسبة لهم، وفي أغلب الأحيان جعل المحققون مهمتهم معروفة للمتمردين والجهاديين في سعيهم للحصول على الوثائق. قال لي ويلي “أفرادنا مدربون جيًدا على كيفية تصرفهم في حال الإمساك بهم… الأدوات التي بحوزتهم مشفرة ومعقدة بشكل كافٍ لدرجة أن أي شخص يقدم على فحصها لن يجد بها أي أدلة عن النشاط الذي يقومون به”. محقق واحد فقط ٬ تم إلقاء القبض عليه قبل عامين ٬ ويحتجزه النظام السوري حالياًّ.
ان نقل الوثائق إلى الحدود الدولية هو أخطر الخطوات على الإطلاق في عمل لجنة العدالة، فالأوراق ثقيلة وتدين المراسل ولكن الصور ٬ مع أنها أكثر قابلية للحمل إلا أنه يصعب التأكد من صحتها في المحكمة. يصل معدل الحزمة الواحدة من حزم الوثائق الى ما يعادل 25 كغ ” وتتكون من تشكيلة مربكة من حقائب السفر الرديئة” التي يتم تهريبها عبر الحدود. قال لي ويلي إن الحمولة الضخمة تتطلب تخطيطًا أكثر دقة “فكر في صناديق الأوراق التي تقبع بجوار ماكينة التصوير” ثم تابع شرحه: “في ذلك الصندوق خمس رزم من الأوراق تتضمّن كل واحدة منها خمسمائة ورقة فقط” ويصل وزنها الإجمالي الى حالي 10 كغ “وذلك لما مجموعه ألفان وخمسمائة ورقة فقط،، ولقد استخرجنا من سورية ما يقارب ستمائة ألف ورقة”، أي عدة أطنان، “لهذا سنحتاج إلى سيارات. وتلك السيارات يجب أن تعبر نقاط التفتيش، وذلك يتطلب القيام بإجراء استطلاع، أي يجب ان تعرف نوعية نقاط التي ستصادفك” تقوم اللجنة بدفع مبالغ مالية لمجموعات الثوار والمراسلين من أجل تغطية الدعم اللوجيستي، يقول ” نحن نحرق مبالغ باهظة في سبيل نقل تلك الأشياء”. كما ان إخراج كميات كبيرة يعتمد عادة على أن تفاوض الدول الصديقة من أجل فتح الحدود التي تكون مغلقة، لذلك قد تبقى الوثائق مخبأة لمدة أشهر. في إحدى الحالات تركت عدة آلاف من الصفحات من الأدلة مع سيدة عجوز في بيت ريفي معزول في جنوب سورية ولكن المحققين لم يشرحوا أهمية تلك الملفات، وتابع (ويلي)، إنه عندما أتى الشتاء “وكانت تشعر حقاً بشدة البرد، فأحرقت كل المجموعة لاستخدامهاكوقود”.
ذكر لي المحقق الرئيسي في اللجنة وهو سوري إنه في المناطق المعادية بشكل استثنائي يقوم هو ورفاقه بإخفاء الوثائق داخل كهوف أو يدفنونها في الأرض ٬ ثم يسجلون مكان الموقع على أمل استعادتها بعد أشهر أو سنوات من ذلك التاريخ، حين يتوقف القتل. يقول ويلي٬ “لا يزال لدينا في سورية كميات كبيرة من المواد لن نقوم بنقلها” لأن ذلك خطير جًّدا “ربما تصل الى نصف مليون صفحة”.
وبينما يجمع السوريون وثائق يقوم (ويلي) بتوظيف محللين عسكريين وسياسيين ومحققين ومترجمين ومحامين في أوروبا. بحلول 2015 تضخمت ميزانية لجنة العدالة ووصلت إلى ثمانية ملايين دولار سنوياًّ وبلغ عدد العاملين فيها حوالي مائة وخمسين بما في ذلك الموظفون في المقر الرئيسي وكذلك في مكتب تحليل أفلام الفيديو في مكان ما من أوروبا بالإضافة إلى المحققين في الشرق الأوسط. توظف اللجنة عدًدا من المحققين يساوي عدد من يعملون على كل قضايا المحكمة الجنائية الدولية مجتمعين.
يرد العديد من الوثائق من داخل منشآت أمن استخباراتية بعيدة عن العاصمة. وتشير تلك الوثائق عادة إلى قرارات اتخذتها (الخلية المركزية) السورية لإدارة الأزمة ٬ ولكنها لم تكن بنفس أهمية الملاحظات التي أتت من داخل تلك الاجتماعات. كما كان لا بد للجنة من الحصول على ملاحظات تتعلق باجتماعات (الخلية المركزية) ٬ ولكن بركات الذي يعيش في إسطنبول اليوم قال لي إنه في 2014 زاره (كريس إنجلز) مع محلل لفحص الوثائق التي حصل عليها من (خلية الأزمة) وقال: “مرت ثلاثة أيام وهما يواصلان أسئلتهما التفصيلية الدقيقة عن العمل الذي قمت به ٬ تفاصيل عن سير الاجتماعات”. كما قاما بتصوير الأوراق المهربة، وقد وعدهما بركات بتقديم النسخ الأصلية حين تصل القضية للمحكمة.
بينما كنت أتحدث مع بركات عبر الفيديو ٬ رفع كومة من الملفات التي تحفظ عادة داخل منشأة منيعة، قال: “هذه هي محاضر اجتماعات الخلية المركزية السورية لإدارة الأزمة” ٬ ثم قام بسحب صفحة وأشار إلى شعار محفور في الأعلى. “كما ترى ها هو الصقر الذهبي الصغير؟ تلك هي الوثائق الأصلية ٬ وهي موقعة بالأخضر”. بدأت لجنة العدالة بفحص ملفات بركات لتقيم الصلة وتربط بين قرارات (خلية الأزمة) والنشاطات الإجرامية لعملاء الأمن في المقاطعات النائية. واصبحت مهمة تعقب العملاء الذين عملوا في خدمة النظام ممن هم على استعداد لشرح أدوارهم أكثر سهولة بسبب أن الكثيرين منهم هربوا من السلطة. وجد محللون يعملون مع لجنة العدالة ان هناك هاربين أثرياء في دول الخليج وتركيا وأوروبا. كما حصلوا على افادات من شهود عيان في جنوب تركيا في معسكر (أبايدين) للاجئين وهو معسكر تحت حراسة مشددة يسكنه حصرياًّ مسؤولو النظام السابق وعائلاتهم. (لم يتم إدراج أي منهم كمشتبه في القضية لأنها تركز على المسؤولين في مناصب أعلى).
قال ويلي عن الشهود: “إذا كان لي أن أستخدم ببرود تشبيهاً لهم — فإنهم (العشرة بقرش)”. فضلت لجنة العدالة أن تقابل الضحايا الذين بقوا في سوريا ولم يتحدثوا أبًدا مع صحفيين أو مجموعات حقوق إنسان أو لجنة التحقيق الدولية المستقلة (قد يقترح محامي الدفاع أنه داخل مخيمات اللاجئين المكتظة قد تتقارب الشهادات بشكل غير عادل). لذا فقد أجرى المحققون السوريون مقابلات مع ما يقرب من مائتين وخمسين ضحية ومن مناطق متعددة وذلك لتوفير “أدلة لها طابع نمطي” تظهر أنه قد تم ارتكاب الجرائم بشكل منهجي ويتسق مع الأدلة الواردة في الوثائق. كان الهدف هو إيجاد صلات قوية بين سياسات السلطات السورية وتأثيرها على الأفراد عبر وثائق النظام وشهادات الشهود والضحايا.
اقرأ:
يونادم يونادم: ملفات بشار الأسد السرية..المحققون (9/3)



المصدر: يونادم يونادم: ملفات بشار الأسد السرية.. الإمساك بالوثائق  (9/4)

انشر الموضوع


اشترك بالإعلام الفوري بالاخبار الجديدة بالإيميل .. ضع بريدك