أبريل 18, 2024

سامر مختار: المدن
لكل إنسان يشتغل بأي حقل فني؛ هواجس يعكسها ويجسدها واقع الحياة اليومية الذي يعيشه، لكن خيوطها التي تتشابك مع بعضها مثل خيوط العنكبوت لا نرى منها سوى ذاك النسيج الذي نرى صورته من الخارج بين ثنائية العمل الفني والفنان الذي أبدع هذا العمل، لتشكل في مخيلتنا صورة شخصية منجزة، مرتبطة بمشروعه الفني، لكن كواليس تشكّل هذا الشخصية، والظروف والأحوال التي رافقت ولادة مشروعه الفني تبقى خفية وغائبة عن المشهد إلا إن تكلم عنها صاحبها.

وربما يدرك بعض الفنانين أن جوهر ما في سيرة حياتهم؛ هي هواجسهم، وأحلامهم المرتبطة براهن الزمن الذي عاشوه، والواقع الذي كانوا شهوداً على تغيّراته، والهموم التي يتشاركون بها مع أفراد مجتمعهم. هكذا كان الحال مع المخرج السينمائي السوري محمد ملص، في كتاب يومياته “وحشة الأبيض والأسود – مفكرة سينمائي 1974- 1980” الصادر هذا العام عن دار نينوى للنشر – دمشق. وللكتابة مذاق خاص عند هذا السينمائي، الذي لجأ للكتابة في مرحلة مبكرة من حياته، كان قد كتب رواية “إعلانات عن مدينة كانت تعيش قبل الحرب” وهو في مرحلة الدراسة في موسكو، والتي نشرها لأول مرة عن دار ابن رشد – بيروت 1979.

في هذا اليوميات نطّلع على بدايات هذا المخرج منذ أن أنهى دراسته في موسكو وعاد إلى دمشق في منتصف السبعينات إلى بداية الثمانينات. في تلك المرحلة عمل ملص كمخرج سينمائي في “دائرة الإنتاج السينمائي” للتلفزيون السوري. فيحكي عن المعاناة، والصراعات التي كانت آنذاك بينه وبين تلك “الدائرة” التي كانت تحاول إجهاض أي مشروع سينمائي حقيقي، والحيل التي كان يحاول اتباعها لعمل فيلم سينمائي، ينتقد الواقع الإجتماعي أو السياسي، وحتى لو كان بشكل غير مباشر.
أثناء تتبع الهموم اليومية لمخرج سينمائي شاب، يشعر القارئ أنه متورط سينمائياً هو الآخر في إعادة بناء شخصية محمد ملص من جديد سامحاً لنفسه بإجراء تناص- متخيل –  بين ما شاهده من أفلامٍ له من جهة، وبين ما يرويه ملص عن بعض أفلامه الأولى من كواليس وتحضيرات، كما سيتكشّف شيئاً فشيئاً المنظور والمفهوم الخاص للسينما عند ملص من خلال تعليقاته وإشارته العابرة فيعلق مثلاً أثناء تحضيره لفيلمه القصير “قنيطرة 74”: أدرك أن الفيلم الروائي القصير هو “فكرة”. ولا بد لهذه الفكرة من أن تكون مكثفة في لقطة. وإن اللقطة في هذا المشروع هي: المكان المفقود. ويعلق مضيفاً بعد الانتهاء من تصوير الفيلم “كانت مرجعيتي الوحيدة هي إحساسي وعلاقتي الخاصة مع القنيطرة والفكرة التي توجعني. تاركاً للفيلم أن يتجسد في المونتاج؛ الذي هو بالنسبة لي؛ الكتابة الأخيرة للفيلم”.
كما سيحكي ملص عن لقائه الأول بالمخرج السوري عمر أميرلاي، هذا اللقاء الذي سيكون بدايةً لصداقة “استمرت لأكثر من خمسة وعشرين عاماً” وستثمر أكثر من عمل سينمائي مشترك مثل “نور وظلال”، و”مدرّس” – وثائقي عن الفنان التشكيلي فاتح المدرّس – والفيلمان بالاشتراك مع المخرج أسامة محمد، إضافة إلى فيلم بعنوان “القرامطة” الذي لم ينجز وقد كتبوه معاً بالاشتراك مع الروائي المصري صنع الله ابراهيم.
التقى ملص بأميرلاي في المؤسسة العامة للسينما في دمشق عام 1974 ويعلق ملص “دخلت وعمر في الكلام وتبادل الأحاديث والأسئلة، ودار أكثرها كما أذكر حول السينما الروسية والسوفياتية؛ وأساساً حول إيزنشتاين الذي أعتبره المعلم الأول؛ ودزيغا فيرتوف الذي بدا أن عمر يعتبره ملهمه الأساسي. “سيخرجان من المؤسسة ويكملان الحديث في بيت عمر لينتهي هذا اللقاء بقول ملص “أذكر أني عدت إلى البيت ليلاً، وأنا أشعر بالاستثارة والحماس؛ فقد أحسست أني عثرت على صداقة مفقودة لدي”…
لعل مناسبة ذكر عمر أميرلاي في يوميات ملص، ستكشف لنا جانباً مفصلياً له علاقة بتجربتهما السينمائية؛ بينما ذهب عمر أميرلاي للسينما الوثائقية، فقد ذهب محمد ملص للسينما الروائية، لكن المشترك بين التجربتين هو أننا قد نلاحظ أن أميرلاي يصنع أفلاما وثائقية / تسجيلية، وملص يصنع أفلام روائية /تسجيلية. ورغم أن محمد ملص ذهب إلى صناعة الأفلام الروائية إلا أنه عوّض في كتابة اليوميات الجانب التوثيقي لتلك المرحلة، كما أن لفيلم “فرات” – الوثائقي / التسجيلي – الذي أنجزه ملص عام 1978 قصة طويلة مع الرقابة في ذلك الوقت. فالفيلم الذي كانت فكرته الأولية تدور حول الغناء الشعبي في منطقة حوض الفرات، انحرفت عن مسارها قليلاً بعد الزيارة الأولى لملص للحوض بهدف الاستطلاع ومعاينة الأمكنة التي سيتم التصوير فيها، لكنه أكتشف أن “مشكلة تقض مضاجع الفلاحين الذين كنت ألتقي بهم في جولتي، وتشغل بالهم وتحاصرهم. هي مشكلة تملح الأرض”، وبعدما رأى ملص أن لا أحد في حوض الفرات مهتم لأمر الغناء والمغنيين، كان لا بدّ منه أن يوثق ما يحدث، وفي حين عُرض الفيلم عرضاً خاصاً أثناء الاستعداد لمهرجان السينما في دمشق “استشاطت إدارة التلفزيون غضباً وأمرت بسحب الفيلم “كما تم منع الفيلم وطلب وزير الإعلام  أحمد اسكندر أحمد آنذاك  بتشكيل لجنة خاصة لدراسة الآليات التي تم فيها إنجاز هذا الفيلم ومحاسبة محمد ملص على خداع الإدارة في الإختلاف بين التصوّر المقترح والفيلم. 
لكن حب ملص للسينما الروائية سنلمسه من خلال هذا الإهتمام الذي يوليه للأحلام، والذي انعكس حتى على بعضٍ من عناوين أفلامه وشخصياته مثل “حلم مدينة صغيرة” – وهو أول فيلم قصير له – والفيلم الأشهر “أحلام المدينة”، و”المنام”. أما الهاجس الذي يسكن ملص فعبّر عنه في أحد لقاءاته التلفزيونية بقوله “دائماً أبحث عن المفقود الذي لا أجده بالحياة، فأحب أن أحققه في السينما”. 

اقرا:
     (ابتكر سوريا) مشروع لدعم الفنانين السوريين بالمهجر


المصدر: (وحشة الأبيض والأسود) لمحمد ملص: يوميات مُخرج شاب

انشر الموضوع


اشترك بالإعلام الفوري بالاخبار الجديدة بالإيميل .. ضع بريدك