مايو 11, 2024

كلنا شركاء: مجد سكر- أراجيك
حاول الإنسان، ومنذ نشأته الأولى، الوصول إلى حقيقته وماهيته، وسعى كلّ السعي ليفهم كيف يفكّر، كيف يتحرك، وما هي القوة أو (الشيء) الخفي الذي يحرّكه. فمع بدايات تطور التفكير لدى الإنسان القديم وحتى اختراعه للكتابة في عام 3200 قبل الميلاد، ذلك التاريخ الذي اعتبره الكثيرون الفاصل بين الحقبة قبل التاريخية والحقبة التاريخية، انطلق ينقّب في مناكب هذه الأرض وفي أعماق نفسه باحثاً عن الحقيقة التي ينطوي عليها.
الكتابة المسمارية
فمنذ تلك المرحلة حاول تسجيل ما يدور في رأسه وما يعرفه من علومٍ وتقنياتٍ بالإضافة إلى الآراء التي كونها والمواقف التي اختبرها في حياته. محاولاً بذلك، وبالإضافة إلى الحفاظ عليها ونقلها إلى الأجيال القادمة، منع شبح النسيان من الوصول إليها والقضاء عليها.
فهل عرف الإنسان منذ تلك الفترة أنّ دماغه ليس مثل اللوح الطيني الذي ينقش عليه، ليس مثل الحائط الذي يحفر الصور فيه، ليس مثل الورق الذي تخطّ أدواته عليه، أو ليس مثل الحاسوب الذي يستخدمه في كافة مناحي حياته اليومية؟
وكما نعرف، لم يأت مع الإنسان أو حتى مع هذا الكون أي (دليل للاستخدام) ليطلعنا على خفاياه ويدلنا على ماهيته. فكان علينا، نحن البشر، ابتداع الطرق المختلفة، الفرضيات غير المنتهية، والتشبيهات والاستعارات العديدة لتفسير كافة المظاهر العلمية والكونية التي تحيط فيه.
ولا يوجد شيء اعتمد فيه الإنسان على الفرضيات والاستعارات أكثر من محاولته لتفسير ماهية العقل، سر الذكاء، بالإضافة إلى السلوك والتصرفات، ليكشف عن العلاقة الغامضة، الأحجية التي تنطوي عليها تلك العلاقة بين عقل الإنسان، دماغه وشخصيته. وكانت كل استعارة استخدمها متناسبة تماماً مع التكنولوجيا الجديدة التي ابتُكرت في ذلك العصر.
يصف لنا خبير الذكاء الاصطناعي جورج زاركاداكيس في كتابه الصادر عام 2015  “في صورتنا الخاصة”مختلف التشبيهات التي استخدمها الناس ووظّفوها خلال الألفي عام الماضيين في محاولتهم لتفسير ذكاء الإنسان.
فبحسب الكتاب، وفي القرن الثالث عشر قبل الميلاد، شاع اعتقاد بين الأوساط العلمية بعد اختراع الهندسة الهيدروليكية ينادي بالنموذج الهيدروليكي لذكاء الإنسان، وينص ذلك الاعتقاد على أنّ سير السوائل المختلفة في جسم الإنسان “الأخلاط” هو المسؤول عن الوظيفة الفيزيائية والعقلية لدينا. وقد بقيت هذه النظرية سائدة لأكثر من 1600 سنة، مما منع تطور الممارسة الطبية لكل تلك الفترة.
ومع حلول القرن السادس عشر، تم ابتكار الآلات التي تعتمد على الزنبرك والمسننات، مما قاد المفكرين في تلك الفكرة من أمثال ديكارت إلى تأكيد الفكرة التي تنصّ على أنّ الإنسان هو آلة معقّدة. ليأتي بعده المفكر توماس هوبس الذي أدّعى أنّ التفكير ينشأ عن حركات ميكانيكية في الدماغ. وفي القرون التالية توالت الاكتشافات التي تتعلق بالكهرباء والكيمياء لتبني فكرةً جديدة عن ذكاء الإنسان وعقله. وبفضل التطور الكبير في الاتصالات، قام الفيزيائي الألماني هيلمهولتز بمقارنة الدماغ بجهاز التيلغراف في أواسط القرن التاسع عشر.

وأخيراً، وبعد أعوام قليلة من بزوغ فجر تكنولوجيا الحاسوب في العقد الرابع من القرن العشرين (1940s)، قيل أن الدماغ يعمل كجهاز كمبيوتر، فالعتاد الصلب أو ما يعرف بالهاردوير تمثّل بالدماغ نفسه، أمّا العتاد البرمجي (السوفتوير) فكان أفكارنا ومعتقداتنا. وكانت نقطة العلام في ذلك الفرض الذي يعرف حالياً بـ “علم المعرفة والإدراك” (cognitive science) ما نشره عالم النفس جورج ميلر في عام 1951 “اللغة والاتصالات”. واقترح ميلر أننا يمكننا فهم ودراسة العقل باستخدام مبادئ نظرية المعلومات، الحوسبة، واللغويات.
وحالياً، تلك الاستعارة هي الاستعارة السائدة في المحافل العلمية وبين الناس، حتى أنّه لا يوجد أي محاضرة في هذا الصدد لا تستخدمها، فصحة فرضية نظرية معالجة المعلومات IP غير قابلة للنقاش في هذا الوقت.
تفسير صحيح أم مجرد استعارة أخرى؟
لنعرف هذا الأمر، علينا وبلا شك، إلقاء نظرة على الفكرة التي نادت بعدم صحة نظرية معالجة المعلومات، تلك الفكرة التي لاقت رواجاً كبيراً بالقدر نفسه التي تعرّضت فيه إلى النقد اللاذع. فكما يقال: تُعرف الأشياء بأضدادها.
الدماغ كحاسوب، صورة ترسيمية
نادى البروفيسور روبيرت ابيشتاين، الباحث القدير في المعهد الأمريكي لأبحاث السلوك، بعدم صحة تلك النظرية التي تدّعي أن العقل هو مجرد كمبيوتر واعتمد بذلك على عدة أسس، سنسلط الضوء على أهمها في هذه المقالة بالإضافة إلى التطرق للحديث عن رد معارضيه عليه وآرائهم.
السبب الأول: نمتلك منعكسات غريزية
لنفكر بأدمغة الرضّع المولودين حديثاً، فهم يأتون إلى هذا العالم مجهّزين مسبقاً بغرائز تساعدهم على التواصل فيه بشكلٍ فعّال. فالرضيع يستطيع التعرّف على وجه والدته من بين كل الأوجه، يدير رأسه للاتجاه الذي يأتي منه الصوت، يمسك الأشياء التي تلامس يده، ويحبس أنفاسه عندما يقوم أحدهم بتغطيسه بالماء.
فنحن نُخلق مزودين بالمشاعر، الغرائز، وأليات التعلّم ولا نلد مزوّدين بالمعلومات، البيانات، القواعد، المعرفة، الخوارزميات، البرامج، أو الذكريات.

فيما يردّ عليه أنصار نظرية المعلومات بالسؤال التالي: “ما المانع من أن نكون قد ولدنا ونحن نمتلك في أدمغتنا شيئاً فطرياً يجعلنا قادرين على تحليل التنبيهات الخارجية؟”
فلذلك، وبرأيي، لا يعتبر هذا السبب سبباً كافٍ للمناداة بصحة نظرية ايبشتاين.
السبب الثاني: يقوم الكمبيوتر بترميز المعلومات على شكل “بايتات من البيانات”
يقوم الكمبيوتر بترميز البيانات عن طريق استخدام رموز تدعى البايت (اطلع على هذا الرابط لتعرف أكثر)، ويقوم بنقلها من مكانٍ إلى آخر في عتاده الصلب لتحليلها وعرضها، فيقوم حقاً بترميز هذا العالم بطريقته الخاصة، وهو فعلاً يمتلك ذاكرة فيزيائية موجودة.

أما في الدماغ، فلا يوجد إلى اليوم من يستطيع تحديد المكان الذي يتم فيه ترميز البيانات في الدماغ، أو الطريق الذي تتنقل فيه على الرغم من وجود تلك الشبكة الهائلة بين الخلايا العصبية فيه.
السبب الثالث: هذه الاستعارة كغيرها سيتم استبدالها
لا أدري إذا ما كنا نستطيع اعتبار هذا الأمر سبباً، لكنّي وبكل تأكيد أُسرتُ بتلك اللمحة التاريخية المقتبسة من كتاب جورج زاركاداكيس في بداية المقالة والتي تعتمدها نظرية ابشتاين حول تغير الاعتقادات والاستعارات بتغير الحقب الزمنية والأحداث.
 السبب الرابع: نظرية تكنولوجيا المعلومات قائمة على منطق خاطئ
حيث أنّها تدعي أن جميع الكيانات التي تستطيع التصرف بذكاء هي معالجات للمعلومات، وتستند أيضاً على الفكرة التي تقول بأننا وبسبب استطاعتنا التعرف على الطريقة التي تعمل بها الأعصاب والخلايا العصبية، اعتمدنا نظرية معالجة المعلومات.
لكنّ، هل نحن فعلاً قد فهمنا الطريقة التي تعمل بها الخلايا العصبية؟

برأيي، لا!
نحن نعلم أننا نملك خلايا عصبية وأعصاب وشبكة اتصالات رهيبة وهائلة بينها لكنّ لا نستطيع صراحةً معرفة الكيفية التي تشكل فيها هذه البنى مجتمعةً ما يعرف بالعقل. وإلى هذا اليوم ما زالت النظرية والاكتشافات المتعاقبة تصدح في الأوساط العلمية، فعلى سبيل المثال لا الحصر، تم نشر تحديث للنظرية التي بلغ عمرها ما يقارب العشرين عاماً، والتي تنصّ على أنّ الوعي في الدماغ ينتج من مستوىً أعمق بكثير مما نتخيل، حيث تم اكتشاف اهتزازات كمية نوعية ضمن الأنابيب الدقيقة الموجودة في الخلايا العصبية والتي تعدّ، بحسب تلك النظرية، نافذةً لفهم الوعي والدماغ.
السبب الخامس: لا نستطيع استعادة كل ما نريده بدقة تامة مثل الحاسوب
هذا السبب، برأيي، وبالإضافة إلى اللمحة التاريخية من أقوى الأسباب التي تقوّض نظرية معالجة المعلومات.
طلب ابشتاين من أحد طلابه في الصف أن يقوموا برسم صورة ورقة الدولار التي يتداولونها كل يوم ولربما رأوها أكثر من ألف مرة مسبقاً، وذلك من ذاكرتهم دون النظر إليها. فكانت النتيجة أنّه لم يستطع أن يرسم سوى صورة ترسيمية لتلك الورقة.

لكن عندما وضع ورقة الدولار الواحد أمامه قام برسمها بشكلٍ مشابه تقريباً للواقع.

إذاً، كيف لأدمغتنا أن تعمل مثل الكمبيوتر وهي لا تستطيع استرجاع شكل ورقةٍ نراها في يومنا الواحد عشرات المرات؟!
فتخيل أنّك وضعت صورتك عندما تخرّجت من الثانوية على أحد الأٌقراص في كمبيوترك المحمول وأتيت بعد فترة لتجدها مختلفة تماماً ولا تمت لصورتك الأصلية بأي صلة!
فالكمبيوترات تخزّن المعلومات بشكلٍ رمزي وبشكلٍ موضّع، تلك هي القاعدة الأساسية في علوم الكمبيوتر، أما أدمغتنا فهي لا تخزّن المعلومات في مكان محدد، لا تستخدم رموزاً (أو على الأقل لا نعرف ذلك بعد)، وغالباً ما يكون تخزينها معدّل وغير مثالي.
السبب السادس: إنّه أكثر عقلانية أن نقول بأن الدماغ يتغير من قولنا أنّه يخزّن
ينادي ابشتاين بطريقة بديلة لتفسير الآلية التي يعمل بهم الدماغ، حيث يقول أنّ أدمغتنا نتيجة التنبيهات المحيطة بنا بكافة أنواعها تتغير مع الوقت لتستطيع التأقلم مع مختلف الأحداث والظروف المحيطة بنا، فمن خلال “الثواب والعقاب” مقابل الأفعال التي نقوم بها يتم هذا التطور. فعند محاولتنا لتذكّر أغنية أو مقطع من قصيدةٍ ما، يكون دماغنا قد تغيّر بطريقةٍ تجعلنا قادرين على تذكّرها.
لكنّ، وعلى الرغم من قناعتي الكاملة بأنّ الدماغ يتغير، فللأسف، إنّ هذه النظرية البديلة سطحية جداً، ولا تقدّم  بديلاً واضحاً عن نظرية معالجة المعلومات.
وكتجميع لكل تلك الأفكار، أترك الأمر للقارئ ليحكّم عقله بين النظريتين أو حتى إذا كان هناك نظرية أخرى يودّ مشاركتها معنا، لكنّي، وبعد اعتقادي التام لفترة كبيرة من حياتي بأنّ دماغي ما هو إلا كمبيوتر يقوم بمعالجة مختلف البيانات والتنبيهات التي ترد إليه، أعترف بأن نظرية ابشتاين أسرتني وجعلتني أفكر فيها ليلاً نهاراً، فهي فعلاً استحوذت على أفكاري، وفتحت أمامي عوالم جديدة عليّ استكشافها في معركتي لفهم نفسي، وفهم هذه الحياة.
فلطالما كان شعاري في هذا العالم:
لنفهم الكون من حولنا، علينا أن نفهم أنفسنا أولاً.
 وأعلم أنّها ليست الأولى من نوعها في هذا الصدد لكنّها من أقوى الفرضيات من حيث براهينها ومنطقها التي تستند عليه.
فإذا كنت ممن أعجب بهذه النظرية أرجو منك أن تكمل رحلتك لتقوم بالمساعدة بإيجاد التفسير الصحيح بغضّ النظر عن الاستعارات التي تعدّ جزءاً لا يتجزأ من النظريات العلمية في عالمنا، لكنّها وبلا شك تكون أحياناً سبباً لعرقلة تطور العلم وإعاقة عجلة المعرفة الإنسانية.
ملاحظة: هناك بعض الأسباب الأخرى التي نادى بها ابشتاين، لكنّ تطرقت هنا إلى أهم الأسباب التي طرحها.
اقرا:
ماذا يحدث داخل دماغك لدى تلقي رسالة نصية؟



المصدر: هل دماغك حقاً مجرّد حاسوب؟ محاولة علمية لتفنيد هذه النظرية!!

انشر الموضوع