مايو 6, 2024

نورس يكن: صوت ألترا
تقول الكاتبة والفنانة التشكيلية السورية سوسن وتي أن حلب في عقدي الستينيات والسبعينيات كانت رائعة، البلد كانت فخمة فيها مسارح ومعارض ودور سينما، الناس كان لديهم الوقت لكل نشاطات الحياة وكانوا يتقبلون كل أنواع الفنون والثقافات حتى أنهم كانوا يتقبلون وجود رسوم وتماثيل عارية في واجهات محلات بيع التحف والمعارض، يمكن تسمية هذه الحقبة من تاريخ المدينة بـ “حلب ما قبل الأسد”.
المجتمع الحلبي أكثر من غيره يتشكل على أسس طبقية، ويميل إلى الأرستقراطية بوجود كم كبيرة من العائلات الكبيرة الثرية التي تفتخر بأنسابها لملوك وسلاطين وأنبياء، ونخبوية هذه العائلات الثقافية خرجت بالأساس من مزاج عام للحلبيين الأصليين. فهم يهتمون بالشعر والموسيقى والطبخ أكثر من أي شيء آخر.
حلب تشكل مصنعًا كبيرًا، والحلبيون صناع مهرة، مسارح المدينة كانت منابر ومتسع لكل من يريد أن يثبت موهبته. الحال كان جيدًا حتى حدثت مجزرة المشارقة صبيحة عيد الفطر عام 1979، انكفأ الحلبيون على أنفسهم، وبطبيعة التاجر كان من المهم سير عجلة الاقتصاد مع ظهور رؤوس أموال في المدينة تشكلت من تجارة المخدرات والسلاح، وبدأ أصحابها يفرضون أنفسهم في المجتمع الحلبي ممتزجين بـ”العائلات العريقة”، بالشراكة التجارية أو المصاهرة.
تسلمت أسرة الأسد الحكم في سوريا بداية السبعينيات، وخلال 10 سنوات انتهت بالانتفاضة التي احتكرها الإخوان وجد حافظ الأسد الذي وطد حكمه فعليًا عام 84، بعد حسم صراعه مع شقيقه رفعت، فيما سمي “حرب الأخوين” أنه لابد من تعويم المجتمع السوري وتعميم التجربة الأسدية عليه، لابد من أن يسمح لكل العائلات التي تستطيع أن تفعل ما فعلته عائلة الأسد بالانقلاب على مجتمعها والوصول من أدنى الطبقات الاجتماعية إلى أعلاها بأقذر الأساليب، ومصاهرة الطبقات الراقية في البلد، والسيطرة عليها من التحرك في كل المدن الكبرى.
وقد نجح حقيقة في دمشق وإلى حد ما في حمص، حماة انعزلت تمامًا بعد المجزرة، وحلب قاومت ما دعا لوجود الشرخ الكبير بين المدينة وريفها وبين طبقات المجتمع نفسه. تعيش في حلب قبل الأسد العديد من العائلات القادمة من مدن أخرى وخصوصًا دير الزور ومناطق الأكراد، كبريات العائلات في الجزيرة السورية لها بيوتها في حلب وقراباتها إلا أن العشرين سنة الأخيرة كانت معركة وجود.
لم يعد يتقبل سكان المدينة التعامل مع القادم من الريف، كان المال يحكم في المدينة وكانت رؤوس أموال غير معروفة المصدر تشكل النخبة في حلب حتى ضاق الناس ذرعًا في الأحياء الفقيرة، والتي لم تعتد تتمكن الطبقات الغنية من دعمها كما في السابق ولم تكترث بها طبقة الأثرياء الجدد.
مع ذلك بقيت حلب تقدم ثقافتها. ظهر مطربون وملحنون كبار كـ ميادة بسيليس ونهاد نجار وحمام خير. لقد كانت المدينة السورية الوحيدة التي يمكن أن تغلق شوارعها مع بداية عرض مسرحي جديد (بغض النظر عن مستوى مسرح المهندسين المتحدين). كان لديها فريق كرة قدم متميز حصد بطولات محلية وقارية، في العهد الذي كانت كل المدن السورية هي مدن سوريا الأسد، بقيت حلب هي حلب لربما حتى العام 2005.
في هذا العام شهدت سوريا تغييرًا كبيرًا لقد خرج الجيش السوري من لبنان، وعزلت البلاد دوليًا، ما انعكس على الاقتصاد بشكل كبير, وأضيفت كل هذه المشاكل إلى مشكلة اللاجئين العراقيين، هنا بدأت “حلب الأسد” التي سعى النظام جاهدًا لبنائها بالظهور.
بتنا لا نعرف شوارع المدينة، وبدأ مطربو الثقافة الجديدة بإحياء حفلات متكررة في المدينة، بدأ الحلبيون بسماع الداعور، وتركوا عمر البطش.
المدينة التي شهدت طوال 30 عامًا محاولة لتغيير هويتها الاجتماعية، اليوم تواجه تغييرًا ديموغرافيًا وتدميرًا لـ”النسيج الاجتماعي”، نصفها الشرقي محاصر بقوات الأسد وميليشيات حليفة له، ونصفها الغربي محاصر بالخوف.
مجتمع حلب بات سرابًا، عائلاتها الراقية لم يعد لها قيمة، مثقفوها هُجروا، مسارحها دمرت، ملاعبها باتت ثكنات، أسواقها أطلال، نخبة شبابها “الزعران” وسيداتها زينة معلقة على البواريد والشرفات.
إن المدينة المتحضرة “المنارة” كما وردت في كتب الغزي والأسدي وشعر المتنبي وأبو ريشة والحمداني، لم تعد موجودة ولا أمل لكل شخص تاريخ ميلاده قبل تاريخ كتابة هذا الكلام برؤية حلب التي عاش فيها التاريخ البشري أبهى عصوره، فـالحرب في حلب هي حرب على تاريخ المدينة وقيمها وتقاليدها الاجتماعية قبل أي شيء آخر.
اقرا:
نورس يكن: اللبنانيات (ما بيظهروا معنا).. هيا ننتحر!



المصدر: نورس يكن: حلب.. الحرب على التاريخ والهوية

انشر الموضوع


اشترك بالإعلام الفوري بالاخبار الجديدة بالإيميل .. ضع بريدك