مايو 19, 2024

تشرين – يسرى المصري:
أثارت الحروب والأزمات المتلاحقة صدمات كبيرة في الاقتصادات الناشئة، وجاءت الحرب على غزة لتشكل صدمة في شروط التجارة ما جعل التضخم المحلي والعالمي يرتفع الى مستويات تاريخية في عام 2023 والبعض شبهه بما حدث في السبعينيات.
وكانت قد سبقتها صدمة الحرب في أوكرانيا، حيث أدى انقطاع إمدادات النفط والغاز الروسية إلى زيادة مشكلات سلسلة التوريد ورفع التضخم، وقبلها كانت صدمة جائحة فيروس «كورونا»، وكل صدمة كانت ترفع التضخم بنسب متزايدة ما أدى إلى ارتفاع الأسعار في بلادنا وفي الدول المجاورة، وفي الاقتصادات المتقدمة والنامية على حد سواء.
وكان للارتفاع الحاد بأسعار الصرف وتراجع العملات العربية وانهيار بعضها أثر على الاقتصادات والمواطنين على حد سواء.
وفي قراءة تاريخية مطلع الثمانينيات كانت العملات العربية، بما فيها عملات الدول غير النفطية، تمثل صورة قوية في سوق الصرف أمام العملات الأجنبية.
وعلى سبيل المثال.. الدولار الأميركي كان وفق أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي:
أقل من جنيه مصري ( 70 قرشاً فقط).3.9 ليرات سورية.. الدينار الأردني 3 دولارات.. الجنيه السوداني يعادل 2.6 دولار.. الشلن الصومالي يعادل 3.4 دولارات.. الدينار العراقي يعادل دولارين.
لكن عقد الثمانينيات كانت له معطياته، وكانت التعاملات الخارجية بطبيعتها محدودة، نظراً للعمل وفق سياسة إحلال الصادرات محل الواردات عبر شركات القطاع العام.
ولم يكن السفر إلى الخارج والحاجة للعملات الأجنبية يمثلان عبئاً وطلباً كبيراً للنقد الأجنبي، فضلاً عن السياسة النقدية التي تعتمد نظام التسعير الإداري للعملة المحلية، وبالتالي كانت أسعار صرف العملات العربية لا تعمل وفق آلية العرض والطلب.
وبدأ السقوط الأول قبل تحرير سعر الصرف في الدول العربية خلال الثمانينيات، حيث كان الحصول على النقد الأجنبي يتطلب شروطاً قد لا تتوفر للبعض، كما أن البنوك لم تكن تلبي احتياجات طالبي النقد الأجنبي (على قلتها)، وهو ما أوجد سوقاً موازية للنقد الأجنبي، لكنها لم تكن نشطة أو مؤثرة بشكل كبير في سعر الصرف.
ورصد التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2022 حالة التراجع في قيمة بعض العملات العربية في عام 2021، حيث تراجعت قيمة الجنيه السوداني بنسبة 588%، والريال اليمني بنسبة 314%، والدينار الليبي 224%، والليرة السورية بنسبة 140%.

كيف حصل ذلك؟
يعلل الخبراء عوامل التراجع والانهيار بأسعار الصرف للعملات العربية بأربعة أسباب يتصدرها الفساد الذي شكل السقوط القاسي للعملات العربية، ولا بد أن نفرق بين انهيار عملات بعض الدول وتراجع العملات في بعضها الآخر، خاصة خلال العقدين الماضيين، ولعل الفرص الممكنة لدعم أسعار الصرف تتمثل في وجود قواعد إنتاجية قوية في كل الدول تساعد على الخروج من تراجع قيمة العملة، بحيث يتم العمل على زيادة الصادرات.
السقوط الثالث لأسعار الصرف للعملات العربية بدأ مطلع التسعينيات من القرن الـ20، حيث شهد العالم انطلاق العولمة الاقتصادية، ولبست الاقتصادات العربية ثوب اقتصاديات السوق، وعدلت من سياساتها النقدية والمالية والإنتاجية، ودخلت أغلبية الدول العربية غير النفطية في برامج إصلاح ألزمتها بتحرير سعر صرف عملاتها المحلية، وهو ما وضع العملات العربية أمام معادلة جديدة.
وفي ظل تطور العلاقات الاقتصادية الخارجية انتعشت حركة الواردات السلعية والخدمية، وسُمح بالسفر لكل الفئات من رجال الأعمال والطلاب والراغبين في السياحة الخارجية، وهو ما ولّد طلباً جديداً على النقد الأجنبي لم يكن موجوداً قبل ذلك.
كما لم تتم عملية إدارة اقتصادية محكمة، فالدولة وإن أسندت الجانب الإنتاجي والخدمي للقطاع الخاص، تظل مسؤولة عن التخطيط الكلي، بحيث تنضبط مؤشرات الاقتصاد الكلي، وتتوازن التأثيرات المتبادلة، حتى لا يتحمل قطاع أعباء أكثر من القطاع الآخر، أو يؤثر مؤشر ما سلبيا في أداء باقي المؤشرات الأخرى.
وحدث السقوط الرابع للعملات العربية بسبب وجود أحداث سياسية وأمنية، أضرت بوضعها الاقتصادي بشكل كبير، مثل الصومال، حيث انهارت مؤسسات الدولة في مطلع الثمانينيات، كما تعرضت السودان لأحداث سياسية متتابعة، كان أكثرها ضرراً على الواقع الاقتصادي انفصال جنوب السودان في عام 2011، ثم أحداث نيسان 2019 التي أطاحت بنظام البشير.
والحال نفسها في العراق الذي تعرض للاحتلال الأميركي في عام 2003، في حين تعرضت ليبيا وسورية واليمن لحرب إرهابية، كما تعرض لبنان لأزمة اقتصادية في نهاية 2019، وتعمقت في عام 2020 وما بعدها.
وفي ظل التقلبات السابقة في الدول العربية التي انهارت أو تراجعت قيمة عملاتها، وتأثرت مؤشراتها الاقتصادية الأخرى مثل احتياطي النقد الأجنبي.
وترصد أرقام البنك الدولي ما يلي:

في اليمن تراجع احتياطي النقد الأجنبي من 8.1 مليارات دولار في 2008 إلى 1.2 مليار دولار في 2022، وفي تونس تراجع الاحتياطي من 11.2 مليار دولار في 2009 إلى 8 مليارات دولار في 2022، وفي ليبيا تراجع الاحتياطي من 124 مليار دولار في 2012 إلى 86 مليار دولار في 2022.
وفي ظل انهيار العملات العربية في الدول غير النفطية، تحمّل المواطن أعباء عدة، من أبرزها انهيار قيمة المدخرات
وكان التضخم نتيجة حتمية لتراجع وانهيار العملات العربية.
ومن الظواهر السلبية التي ارتبطت بتراجع وانهيار العملات العربية، ظاهرة «الدولرة»، حيث اتجه أصحاب المدخرات والتجار إلى ربط مدخراتهم، أو الأنشطة التجارية بالدولار بيعاً وشراء، وهو ما جعل الجميع يزهد بالعملات المحلية.
وانتقل المرض الخاص بالدولرة إلى إيجاد مضاربين جدد في العملات الأجنبية، وهو ما حمل النشاط الاقتصادي أعباء التخلي عن الإنتاج، أو إيجاد الوظائف الجديدة، واستقرار القائم منها، واتساع رقعة الأعمال الريعية.
ونتيجة ارتفاع معدلات التضخم لسنوات متتالية، ومن دون وجود تحسن في الأداء الإنتاجي والاقتصادي بشكل عام ارتفعت معدلات الفقر.
وينتظر أن يتحسن واقع سعر صرف العملات العربية في الأجلين القصير والمتوسط، بسبب التفكير جدياً بتحالفات اقتصادية ترفع أداء المؤشرات الاقتصادية الكلية، ما يضاعف الأمل بتحسن سعر صرف العملات العربية وتجاوز الصدمات الاقتصادية.

تابعونا على تويتر

انشر الموضوع