أبريل 26, 2024

مروان العش: آفاق مشرقية

استدعيت إلى فرع الأمن في دمشق بتاريخ 1.2.2011، اتصل قبلها بيوم المساعد المسؤول عن مراقبتي وتفقدي بعد خروجي من السجن منتصف 2010 وأعلمني ليلاً عند الثانية عشرة بعد تأسفه للاتصال في هذا الوقت المتأخر أن “المعلم” يطلب رؤيتي العاشرة صباح اليوم التالي, حاولت التملص بحجة موعد مهم بمبنى المحافظة لمعاملة انتظرتها طويلاً, لكنه حاول نقل رسالة لي مفادها أن “من الواجب حضورك ولا مجال للأعذار خصوصا أن من يريدك هو العميد رئيس الفرع بالذات وليس المعلم المباشر رئيس القسم السياسي!!!” فكان جوابي سأحاول وهكذا كان.

اتصلت ليلاً بعدها بزملاء الاعتقال السابقين لأسأل إن تم استدعاء أحد منهم, ففوجئت بزملائي المعتقلين وقد تم تبليغهم بنفس الطريقة لحضور قسم منهم لمبنى إدارة شعبة المخابرات التي اعتقلنا فيها سابقاً لفترة طويلة, وقسم آخر تم استدعاؤه للفرع المختص بأبناء مدينتي.

رتبت أفكاري وراجعت ما يدور بخلدي بعد تحليل موقف سريع وعصف ذهني؛ لماذا يريدوننا بهذا الشكل من الاستدعاء العاجل ليلا؟ هل هو كمين جديد للاعتقال؟ أم أنه نتاج تتابع أحداث الربيع العربي بتونس ومصر وليبيا وما يتداول النشطاء والنخبة السياسية على الفيس بوك؟ أم هي مواعيد الإعلان عن انطلاق الثورة بحلب ودمشق التي ضربتها بعض الصفحات في الخارج واشتغل النظام عليها ثم مرت كفقاعات هواء!!!

لم يرق لي النوم ليلاً والأفكار تراودني الخواطر، وكان ظني أنهم لو أرادوا اعتقالي لحضرت دورية أمنية “عالساكت” وسحبتنا من بيوتنا كالعادة بالتهديد والوعيد والشتائم كوننا معارضين للوطن الجميل وقائده المفدى.

في التاسعة صباحاً ارتديت ملابسي و تفقدت محفظتي والهوية الشخصية و مبلغ بسيط من المال، وأفرغت الأوراق والعناوين و بطاقات شخصية أخرى وصور والديًّ التي أحتفظ بها و أشياء لا أتذكرها، والأهم أنني رتبت للمقابلة للوصول بدون سيارتي الشخصية مستذكراً تجربة الاعتقال السابقة التي اعتقلوا فيها سيارتي واحتجزوها حتى صدئت وسرقت ولم يبق بها لتر بنزين واحد.

ودعت زوجتي وأخبرت صديق أنني ذاهب للمقابلة بالمكان المحدد طالباً أن “لا ينشغل بالهم” إذا تأخرت بالعودة أياماً وربما سنوات، فسأكون كالعادة في مشروع “شرب فنجان قهوة” عند رئيس الفرع، ووصلت في العاشرة إلا دقائق وأعلمت موظف الاستعلامات بإسمي وأن رئيس الفرع طلب حضوري وحضرت كوني مواطن عربي سوري وواجبي تلبية النداء وكل نداء علي كمواطن في هذا القطر الصامد، فحضر عنصر من مكتب رئيس الفرع وأوصلني لغرفة مغلقة فيها ستة كراسي وطاولة خشب قديم يعلوها بقايا الشاي والقهوة وأعقاب السجائر ورائحتها المقززة كوني لا أدخن.

بعد قليل حضر المساعد و سلم بحرارة واعتذر عن اتصاله المتأخر ليلاً ولكنه “عبد مأمور”, وأخبرني أن العميد رئيس القسم السياسي يرغب برؤيتك قبل مقابلة رئيس الفرع, فرافقت المساعد الذي أدخلني مباشرة لمكتب العميد على غير العادة بالانتظار الطويل الممل في كل مراجعةٍ شهريةٍ منذ خروجي من المعتقل قبل الثورة بأشهر.

استقبلني رئيس القسم مرحبا ودوداً بالكلام المعسول على غير عادته التي كانت بوجه العبوس دوماً ليعطي هالة حول جديته وشخصيته كمسؤول أمامي, كل هذا ليهيئ الجو للمقابلة العتيدة مع رئيس الفرع، وبدأ حديثه عن صمود سوريا و المؤامرات عليها من قبل الأعداء, وأن تحرير فلسطين هو هاجس القيادة, ويجب علينا كشرفاء ومثقفين ومواطنين أن نساعد “القيادة العليا” بمواقفنا الإيجابية كـ “معارضين وطنيين” كما صنفونا!!!

لم أتكلم واكتفيت بهز رأسي كالعادة بإشارة ضمنية بأنني “أستمع لك”, ثم اتصل بمكتب رئيس الفرع يطلب الإذن له ولي بالمثول بين يدي رئيس الفرع الموقر …

صعدت للطابق الأعلى عبر درج جانبي خاص يصل الطابق الأرضي بطابق جناح رئيس الفرع, ودخل الجناح قبلي ودعاني للجلوس بمكتب جانبي صغير يحتوي كنبات نظيفة و طاولتين صغيرتين نظيفتين عليهما زجاج نظيف, وضوء مريح وستائر تغلق الشباك الجانبي، وانتظرت دقائق بعد دخوله مكتب رئيس الفرع قبل أن يعود ويطلب مني الدخول معه للمقابلة العتيدة، دخلت قاعةً كبيرة فيها من الفرش الوثير والستائر و المكتبة والإنارة ما تظن نفسك أنك بحضرة مسؤول كبير جدا، وفي نهاية القاعة كان هناك طاولة مكتب خشبية من الموزاييك يجلس خلفها ضابطٌ مربوع أسمر بتقاسيم وجهه التي أراها لأول مرة.

وقف وسلم علي ورحب بي مما أثار فضولي كونها خلاف سابقاتها كانت المقابلة الأولى لي معه بدون “طماشات عيون” وضرب وأنا  جالساً جانباً على الأرض، ثم بدأ مباشرة بحديث المسؤول السوري النمطي المكرر حول سوريا ومواقفها الوطنية والعروبية التي تدفع أثمانها، والغرب الصهيوني الذي يريد أن يحتل سوريا ويدمر حضارتها، والعدو المتربص بالداخل والخارج ينتظر لحظة مناسبة للانقضاض على سوريا و “القيادة العليا”.

أضاف أنني كمعارض سياسي من واجبي الوقوف إلى جانب القيادة الحكيمة بعد أن درسوا ملفي وإضبارتي لديهم ووجدوني رجل وطني “بعد اعتقالهم لي لسنوات”!!!، وزاد بأن ما يجري في تونس ومصر لا يمكن أن يجري في سوريا لأن “القيادة العليا” والشعب في خندق واحد لمواجهة المؤامرات, والقيادة الحكيمة لديها من مشاريع الإصلاح والتطوير والتحديث ما يكفي لجعل سوريا “سويسرا العرب”، وأن العدو الصهيوني يرصد حركات المعارضة السورية وهناك معلومات مؤكدة رصدتها أجهزة القيادة العليا تؤكد أن الصهاينة سيفتعلون أزمة ومشاكل بين الشعب السوري، وأنهم أرسلوا عملاء يحملون أسلحة قناصة متطورة جدا ليلاً نهاراً لقتلكم كمعارضة إذا نزلتم الشارع للتظاهر!!! وبالتالي “إيقاع الفتنة بيننا كأجهزة أمنية وبينكم كمعارضة ومواطنين يجب علينا حمايتكم”, وأن الأجهزة الأمنية المختصة تراقب كل اتصالاتنا ونشاطنا في الفيس بوك وتويتر وغيرها ثم أخرج ورقة مطبوعة فيها ” بوست عالفيس بوك لمقال لصحفية سورية تعيش في الخارج كتبت فيه قبل أيامٍ تعليقاً أنتقد فيه النظام، وأن “الأمن يراقب الناس خوفاً عليهم، والأولى بالمراقبة أنتم كمعارضين خوفاً عليكم لأنكم تتهورون أحيانا بشكل غير مدروس ووطني!!!”، وطلب مني التواصل مع زملائي المعارضين الأشاوس لحثهم على عدم قبول مبدأ التظاهر بالشارع، وعدم دفع الجمهور السوري للتهور لأن “الأمور ربما ستسير عندها لما لا يحمد عقباه!!!”.

أعطاني رقم هاتف خاص به وأعلمني أنهم “بخدمتنا دوماً ليلاً نهاراً خوفا على الشعب!!!” والعميد رئيس القسم السياسي بجانبي صامتاً صمت القبور يستمع ويهز برأسه إشارة لدقة وصحة وتأييد ما يقوله رئيس الفرع، وهكذا قال له العميد رئيس الفرع آمراً “أكتب للقيادة العليا أن المعارض فلان الفلاني مواطن شريف ووطني ويقبل بالحوار ويؤيد خطوات وتوجهات القيادة العليا لمعالجة الأمور السياسية والاجتماعية  في سوريا وأن الشعب والمعارضة والقيادة في خندق واحد ضد ما يحاك من مؤامرات على سوريا العروبة, وأن حركات الشغب في تونس والانتفاضة التي يقوم بها الشعب المصري ضد كامب ديفيد!!! لن يكون لها تأثير على الشارع السوري المؤمن بثقة بقيادته العليا”.

هززت برأسي وخرجت بعد الاستماع لمحاضرة تكررت أمامي مئات المرات بصيغ متهالكة أحفظها غيباً، وعدت لمنزلي وتابعت التواصل والكتابة بعكس ما سمعت، مثلي مثل كثير من المواطنين السوريين … ولم تمض إلا أسابيع … ثم كانت ثورة.

المصدر : كلنا شركاء

انشر الموضوع


اشترك بالإعلام الفوري بالاخبار الجديدة بالإيميل .. ضع بريدك