مايو 11, 2024

ماجد كيالي: الحياة
لم يكن حدث داريا، حيث تمّت عملية تهجير قسري لمن تبقى من سكانها تحت التهديد بخطر الإبادة، مجرّد مأساة إنسانية فقط، ولا مجرّد فعل سياسي يستهدف إخراج جماعة ما من دائرة الصراع ضد النظام فحسب، فعلى أهمية هذا وذاك فما جرى يكشف عن دلالات أعمق وأعقد وأخطر بكثير.
ما حدث في داريا يكشف، أولاً، طبيعة السلطة في سورية، التي كفّت عن كونها دولة، أو التي التهمت أو احتلت الدولة، منذ عقود. والحال فإن كل تصرفات وإشارات «الدولة الأسدية» تبيّن أنها تحتقر الدولة، بما هي دولة مؤسسات وقانون ودستور، وقد استطاعت هندستها أو تحويلها من النظام الجمهوري، إلى النظام الوراثي، ومن كونها ملكاً عاماً إلى كونها ملكاً خاصّاً بعائلة، أي ليس لطائفة (على ما يدعي البعض) ولا لطبقة ولا لإثنية، وهو ما تم اختزاله والتعبير عنه في شعار: «سورية الأسد إلى الأبد». ومعلوم أن فكرة الجمهورية تأسست على الاعتراف بالمواطنة، وتبعاً لذلك فهي تحيل السيادة للشعب، عبر ممثليه، فيما قامت النظم الاستبدادية، في أوضاعنا، على مصادرة فكرتي الوطن والوطنية، مع إلغاء مكانة المواطن، ومصادرة حقوق الشعب.
ثانياً، تأسيساً على ما تقــدم نلاحظ أن الدولة الأســـدية لم تستول على الدولة، أو نظام الحكم فقط، على ما تفعل النظم الديكتاتورية عادة، بل استولت أيضاً على الفضاء العام المجتمعي، أو بالأصح همّشته أو محته، إلى حــد كبير، حتى لم يعد يظهر منه إلا ما تريده وتبيحه، أو ما يخدم شرعيتها واستمرار وجودها. فالدولة الأسدية ليس فقط أعاقت تطوّر الدولة إلى دولة مؤسسات وقانون، بمعنى الكـــلمة (وهذا ليس له علاقة بالديموقراطية) بل أطاحت، أيضاً، إمكان تحولها إلى دولة مواطنين أفراد، أحرار ومتساوين ومستقلين، وبالتالي قطعت امكان تكوّن الجماعات السورية، باختلاف مكوناتها الدينية والمذهبية والأثنية والعشائرية، على شكل مجتمع.
المشكلة في هذا الوضع الشاذ أنه أبقى السوريين في حيّز الهويات القبلية المغلقة، الأثنية والطائفية والمذهبية والعشائرية، ولم يسمح لها، في ذات الوقت، بالتبلور والتعبير عن ذاتها، أي أنها أبقيت مجالاً لتلاعبات وتوظيفات السلطة، وضمن ذلك وضعها في مواجهة بعضها.
ثالثاً، تأتّى عن إخراج السوريين من دائرة المواطنة، بالمعنى الحقوقي والسياسي، وحرمانهم من التكوّن كشعب، أو كمجتمع، حرمانهم من حقوقهم الفردية، وتالياً حرمانهم من السياسة، فهذه سورية الأسد، وهؤلاء عليهم أن يعيشوا على هذا الأساس، وباعتبار أن العيش في هذه «السورية» بمثابة منّة من النظام، ينبغي أن يكونوا شاكرين لها، وأن يكونوا طوع املاءاتها ومتطلباتها، وفي مقدمة ذلك نسيان أنهم مواطنون وأن لهم حقوقاً.
رابعاً، في كل ذلك تتبدّى الدولة الأسدية إن في رؤاها عن ذاتها أو في تصرّفاتها وسياساتها، بمثابة دولة احتلال، أو أقله بمثابة سلطة خارجية، إزاء شعبها، أو ما يفترض أنهم شعبها، ولعل هذا ما يفسّر انعدام حساسيتها ليس السياسية أو القانونية فحسب، وإنما حتى الأخلاقية، إزاء قتلها مواطنيها، بالبراميل المتفجرة والصواريخ الفراغية وبالكيماوي، أو في المعتقلات تحت التعذيب، وكذا محاصرتهم الى حدّ الجوع، وتشريد الملايين منهم. هكذا ليس مهماً لهذا النظام أن يُفرّغ البلد من معظم السوريين، أو أن يتحول العيش فيه إلى مأساة أو كارثة، وكأنه ضرب بقنبلة نووية، المهم أن يبقى النظام، فهذه سوريته، التي لا يرى لأحد سواه حقاً فيها. المشكلة هنا أن النظام لا يهمه أن يشاركه الروس والإيرانيون، وحتى الأميركيون أو الطليان، في سورية، في حين أنه يقاوم ويمانع ذلك من شعبه، إلى حد استعداده خوض حرب إبادة ضده. هكذا تبدو الدولة الأسدية مكشوفة وهشة ومرنة ومنفتحة إزاء الخارج، وضمن ذلك إسرائيل، ومحجوبة وصلبة وقاسية ومغلقة إزاء الداخل.
في السرديات أو التوهّمات التي تم ترويجها، والتي عشنا عليها لعقود، كنا نسخر من ادعاء الأنظمة أن إسرائيل لم تنتصر عليها بدليل بقائها أو صمودها، على رغم أنها انهزمت عسكرياً، لكن ما يجري هذه الأيام يبيّن أن تلك الأنظمة كانت جادة في ذلك، وأن هذا حقاً ما يجري. والحال فليس مهماً تهجير معظم أهل البلاد، وخراب عمرانهم، في سبيل بقاء النظام، أو بقاء طغمته في الحكم، ولعل هذا يفسّر شعارات كـ «سورية الأسد إلى الأبد، أو «سورية الأسد أو لا أحد» أو «سورية الأسد أو لتخرب البلد».
الطامة الكبرى أن هذا الأمر لا يتوقف على النظام وحلفائه الروس والإيرانيين، إذ هذا يشمل إسرائيل وربما الإدارة الأميركية، والأنكى أنه يشمل كيانات «يسارية» و»قومية» و»علمانية» و»مقاومة»، لا تريد أن ترى في سورية شعباً، فعندها هذه سورية الأسد فقط!
في الحقيقة، وفي غضون العقود الماضية للدولة الأسدية، تم ابتذال عديد الأفكار التي تبينت عن مدى تلاعب هكذا أنظمة بشعارات مثل: الوحدة والحرية والاشتراكية، لكن فكرة الوطن أو الوطنية تبدو أكثرها تعرضاً للانتهاك والابتذال والتحوير والتوظيف. وكما قدمنا فنحن هنا نتحدث عن وطن من دون مواطنين، وعن وطنية من دون حقوق مواطنة، وفوق هذا وذاك عن نظام اختصر الوطن والوطنية بذاته، أو بشخص الرئيس، واختزل السيادة بطواعية السوريين لأهوائه وسلطته والرضوخ لشرعيته؛ بغض النظر عن تآكل هذه السيادة إزاء الخارج.
القصد أن ما حصل في داريا، من تهجير قسري، حصل قبلها في اليرموك والتضامن والتقدم والحجر الأسود وبابا عمرو، وفي القصير ويبرود والزبداني، ويخشى ان يحصل في المستقبل أيضاً، في المعضمية وفي حي الوعر بحمص، فهذا تحصيل حاصل لهذه الدولة الاستبدادية، التي قابلت ورود غياث مطر بالقصف وبقتله تحت التعذيب، وقابلت التظاهرات السلمية بالبراميل المتفجرة، والتي رفضت خروج المقاتلين من داريا وحدهم، إلى إدلب، وإنما بخروج كل أهالي داريا من نساء وأطفال وشيوخ من مدينتهم المدمرة، متوعدة بدفنهم أحياء إذا لم يرضخوا. «سقف الوطن» أيضاً تبدى بكامل فضائحيته وانكشاف عاره ووحشيته وغربته في صورة المرأة التي دفنت تحت سقف بيتها الذي كان تعرض للقصف، كأن هذا أبلغ دلالة على سقف الوطن.



المصدر: ماجد كيالي: دلالات حدث داريا والحوادث الأخرى

انشر الموضوع