أبريل 23, 2024

كلنا شركاء: هاف بوست عربي

جريمة اغتصاب وقتل ارتكبها شخص واحد قد يدفع ثمنها مئات الآلاف من العائلات التي ساهم بعضها في بناء هذا البلد العربي.

فعندما بدأ اللاجئون السوريون في التدفق إلى لبنان قبل 6 أعوام فراراً من حرب بلادهم، وجد نحو 1000 منهم الملاذ في قرية مسيحية صغيرة هي “مزيارة”، الواقعة وسط جبال الصنوبر شمال البلاد.

لكن الترحيب الذي لقيه هؤلاء ظل محله حتى اكتُشفت في الشهر الماضي (سبتمبر/أيلول 2017) جثة ريا شدياق (26 عاماً)، ابنة أحد أغنى رجال أعمال القرية، ممدَّدة في غرفة بمنزلها، بعدما تعرضت للاعتداء والاغتصاب، ومن ثم الخنق بكيس بلاستيكي، وقد اعترف حارس منزل العائلة، سوري الجنسية، بجريمة القتل، فاعتُقل وأُدين بتهمة القتل.

لكن موجة الغضب العارمة التي تلت هذه الجريمة انتشرت حتى عمت لبنان كله، لتكشف الحزازيات الحادة والتوتر الخفي بين لاجئي لبنان السوريين البالغ عددهم مليون سوري، ومضيفيهم أهل البلد- توترٌ يهدد بتجديد انقسامات لبنان الطائفية الهشة من الأساس، حسب تقرير لصحيفة واشنطن بوست الأميركية.

القلق يتصاعد

وفيما تغلق أوروبا وأميركا أبوابهما نتيجة لأعداد اللاجئين المتزايدة، خصوصاً السوريين منهم، بات العبء أثقل على كاهل دول مثل لبنان الحدودي الذي ينال القسط الأكبر من اللاجئين.

وتستضيف دول الجوار السوري نحو 5 ملايين لاجئ مقارنة بـ18 ألفاً في الولايات المتحدة الأميركية ومليون لجأوا إلى أوروبا، ومع استمرار الحرب في سوريا التي تشارف دخول عامها الثامن دونما نهايةٍ للقتال تلوح على الأفق أو تسوية سلمية تضمن رجوع الناس بأمان- فإن القلق يتصاعد من أن اللاجئين لن يعودوا إلى ديارهم أبداً.

ومن بين دول الجوار مجتمعةً تحظى تركيا بنصيب الأسد، حيث بها قرابة 3.2 مليون لاجئ سوري مسجلين في أنظمة الأمم المتحدة، لكن لبنان الصغير هو الذي يعاني أشد المعاناة، فمع وجود لاجئيه الفلسطينيين من قبلُ والبالغ عددهم 450 ألفاً، فقد بات مجموع اللاجئين فيه يشكل ربع سكان البلاد، أي أنه أعلى تركيز للاجئين في العالم.

عودوا لبلادكم فنحن عنصريون!

مقتل شدياق لمس وتراً حساساً في اللبنانيين، الذين يشعرون بأنهم يحملون عبئاً أثقل من طاقتهم في أزمة اللاجئين العالمية، وتتصاعد في لبنان الدعوات والنداءات الآن لإعادة اللاجئين إلى بلدهم بغض النظر عن أحوال وظروف الداخل السوري.

فالبطريرك المسيحي الأعلى في لبنان بشارة بطرس الراعي، وصف وجود اللاجئين في بلاده بأنه “لا يُطاق”.

أما وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل، فقد افتخر يوم الأحد 8 أكتوبر/تشرين الأول 2017، في تغريدة له على تويتر، بـ”العنصرية اللبنانية” وأن العنصرية اللبنانية تريد لجميع اللاجئين المغادرة، حيث تابع على تويتر: “كل أجنبي قابع على أرضنا من غير إرادتنا هو محتلّ، من أي جهة أتى”.

من جهتها، ناشدت الأمم المتحدة اللبنانيين الابتعاد عن “الانتقام الجماعي الناتج عن حادثة مأساوية واحدة”، حسبما قالت ميراي جيرار، التي تترأس وكالة غوث اللاجئين الأممية في لبنان.

لكن المناشدة جاءت متأخرة بالنسبة لسوريي “مزيارة”، الذين أُمروا بمغادرة القرية، سواء كانوا لاجئين أو غير لاجئين بعد مقتل شدياق، في سابقة يخشى كثير من السوريين أن تتكرر في مناطق لبنان المختلفة.

لكن التوتر تجاه السوريين موجود قبل مقتل شدياق

وكان التوتر بين اللاجئين السوريين واللبنانيين موجوداً قبل مقتل شدياق بأشهر طويلة، فقد تدفق السوريون على كل حدب وصوب في البلاد واتخذوا من المباني غير مكتملة البناء سكناً لهم، كما سكنوا في مرائب السيارات ومراكز التسوق المهجورة والمستودعات وآلاف المخيمات المؤقتة التي عمت فجأة المناطق الريفية.

لكن جميع هؤلاء السوريين، بمن فيهن سكان المخيمات، يدفعون إيجارات لأصحاب الأراضي، وبهذا أسهم السوريون في الاقتصاد اللبناني مثلما اعتمدوا واعتاشوا عليه أيضاً. وعلى مدار الأعوام الـ5 الماضية، قدمت الأمم المتحدة للبنان مساعدات وصلت قيمتها 4.2 مليار دولار.

وقد وجد بعض السوريين فرص عمل، أغلبها مهن يدوية صغيرة الأجر، لا يحبها اللبنانيون، مثل قطف الفواكه والعمل في البناء، فهي مهن وأعمال لطالما اضطلع بها اللاجئون المهاجرون من الدول الأخرى على الدوام عقوداً خلت من قَبل الحرب السورية.

لكن المساعدات الدولية بدأت تضمحل مع انكماش الاهتمام الدولي بالحرب السورية، ما فاقم الصعوبات على رأس السوريين. كما ضربت الحرب اقتصاد لبنان، ومشاعر الاستياء والكراهية آخذة في التزايد ضد اللاجئين، الذين يرى اللبنانيون أنهم سرقوا الوظائف اللبنانية وأسهموا في انخفاض وتدني الأجور.

قصة مقتل شدياق

“مزيارة”، واحدة من المناطق التي لها تاريخ طويل في تشغيل العمال السوريين، ومن سكان القرية البالغ عددهم فوق الـ5000 نسمة، ثمة 2000 لبناني هم أنفسهم مهاجرون يعملون في نيجيريا ذات الاقتصاد النفطي المزدهر، وقد أنفق هؤلاء نقودهم في بناء فيلات فاخرة ببلدتهم الصغيرة، منها ما بُني على طراز هَرَم، ومنها ما بُني ليحاكي نموذج طائرة Airbus A380.

أما العمالة السورية، فقد أوكلت إليها وظائف بناء هذه المنازل، ومن هؤلاء، الرجل الذي اتُّهم بقتل شدياق. الشرطة اللبنانية ذكرت الأحرف الأولى من اسم الرجل “ب.هـ”، وأنه تم توظيفه قبل عام من بدء الحرب السورية؛ كي يعمل في أحد منازل آل شدياق، وهو قصر منيف فاخر بأعمدته وحوائط مزيَّنة بعاج الفيلة.

ثم بعد الانتهاء من بناء القصر، احتفظت العائلة بالمواطن السوري ليكون حارساً للقصر، حسبما أفاد به أفراد من العائلة، وتصادف في الساعات الأولى من صباح يوم 22 سبتمبر/أيلول أن الحارس كان وحده بالقصر مع ابنة عائلة شدياق. وفي إفادته للشرطة، قال المتهم إنه هدد المجني عليها بسكين طالباً منها المال، فلما أجابته بأن لا مال لديها، ربطها واغتصبها ثم خنقها، حسب محضر الشرطة.

الصدمة التي أحدثتها جريمة الغدر هذه، هزت “مزيارة” ونواحيها وأبعد منها بكثير. يقول الأب يوسف فضول الذي أقام قداساً على روح شدياق في كنيسة مزيارة المارونية الأسبوع الماضي: “لقد وثقت العائلة به سنوات، فكانت هذه فعلته”.

لا فرق بين سوري وسوري جميعهم في “مزيارة” سواء

ومع أن المتهم لم يكن لاجئاً رسمياً؛ بل من العمالة المهاجرة، فإن القرية صبت جام غضبها على جميع السوريين الذين يقطنونها، فمزيارة قرية مسيحية بأكملها، فيما معظم اللاجئين السوريين هم من المسلمين السنّة- فروقات دينية وثقافية كانت أحدثت حزازات وإشكالات من قبل.

يقول الأب فضول: “إننا لسنا غاضبين من الشعب السوري؛ بل غاضبون من أعداد الناس الذين ألقوهم علينا، فهؤلاء الذين جاءونا لم يعيشوا من قبلُ في مجتمع متحضر، فليست لديهم آدابنا الاجتماعية ولا سلوكنا المتحضر”.

ويضيف جورج كركر، مختار القرية، شكوى ألفتها الآذان، قائلاً: “عائلاتهم كبيرة، فلديهم 4 زوجات و17 طفلاً، فيما نحن ليس لدى عائلاتنا سوى طفلين اثنين. هم يقودون دراجاتهم النارية في أرجاء القرية ليلاً؛ مما يقلق راحة الأهالي، ويعقدون اجتماعات كبيرة لا نعرف عما يتحدثون فيها”.

بعد القداس الجنائزي لروح شدياق، خرج أهالي مزيارة في مسيرة عبر القرية، بعضهم حاملاً لافتات تطالب السوريين بالمغادرة، فلاذ بعض السوريين بالفرار ليلتها حينما أدركوا أن الأجواء متوترة ضدهم، فيما تأخر آخرون يومين بالمغادرة بعدما حددت البلدية لهم موعداً أقصى لمغادرة مزيارة، حسبما قال المختار كركر.

وتحدث إلى الـ”واشنطن بوست” الخضري بولس دب، صاحب دكان خضراوات في القرية، قائلاً: “بصراحة، لو لم يغادروا لقتلناهم جميعاً، فالقرية كلها ضدهم؛ بل لبنان كله ضدهم”.

مدججون بالسلاح

وقد وصلت بعض السوريين إشاراتٌ تحذيرية، كمصطفى، تاجر السيارات السوري، الذي انتقل إلى مزيارة بعد اشتعال الحرب السورية هو وأكثر من 20 فرداً من عائلته الممتدة ليلحق بأخ له كان يعمل في القرية نفسها.

وقد طلب من الصحيفة الأميركية الاكتفاء بذكر اسمه الأول فقط؛ خوفاً على سلامته، حيث تحدث مصطفى عن قيام شرطيين محليين بالمرابطة خارج منزله مساء جنازة شدياق والتهجم على ابنه بضربه على وجهه مرتين، ثم عادت الشرطة بعد منتصف الليل بصحبة عشرات من شباب القرية مدججين بالسلاح حسب قوله، وهددوه بأن عليه المغادرة قبل الفجر، فما كان من العائلة إلا أن لملمت أغراضها في عجالة واستقلت سياراتها وتوجهت إلى بلدة مختلفة يعيشون بها الآن.

أما السوريون الآخرون في مزيارة، فقد اختبأوا ولزموا السكون والاختفاء بضعة أيام؛ أملاً في انحسار موجة الغضب؛ منهم ياسمينة (26 عاماً) التي وصلت مزيارة مع أهلها عام 2012 بعد مقتل أخيها في حرب سوريا، فحصلت على وظيفة جيدة الأجر بصالون محلي لتصفيف الشعر، كما أنجبت أختها في القرية طفلين، فيما ارتاد ابن أختها الأكبر المدرسة المحلية.

ثم استدعاها ربّ العمل ليخبرها بضرورة مغادرة مزيارة؛ حرصاً على سلامتها، فهرعت ياسمينة وعائلتها للملمة أغراضهم في شاحنة وغادروا إلى منزل أقرباء لهم يبعد 64 كيلومتراً.

وكانت المجني عليها، شدياق، واحدة من زبائن ياسمينة، التي تذكرها فتقول: “كانت ذات شخصية محبَّبة لا تعامل الناس معاملة تمييزية. أنا حزينة لكل ما جرى، فقد كنت أحب عملي وأحب مزيارة، فالناس كانوا لطفاء جداً، ولكن بعدما صار، طفح بهم الكيل منا”.

حظر تجول

بعدما تفرق السوريون في أنحاء البلدات المجاورة عمَّ الخوف أوساط اللاجئين في لبنان، فقد طلبت بلدية ناحية واحدة على الأقل من سكانها السوريين المغادرة كذلك، فيما فرضت بلديات أخرى مجاورة لمزيارة حظر تجول ليلي على السوريين.

تقول خلود الصايغ، التي تعيش في كوخ بكرم زيتون خارج قرية مرياطة المسلمة السنّية: “لقد قالوا لنا إن الأمر حرصٌ على سلامتنا في حال جاء لبنانيون لمهاجمتنا. الناس هنا لطفاء ولا يريدون لنا الأذى”.

وعقّب محمد، اللاجئ من محافظة إدلب السورية الذي يعيش في مدينة طرابلس (شمال لبنان) والذي يتنقل بين مخيمات اللاجئين السوريين لبيع الخضراوات، قائلاً: “بالطبع، الكل خائف، فنحن نخشى أن يأتي أحدهم ويقتل سوريّاً ما قد يشعل حرباً أهلية”.

إن الخوف من أن وجود السوريين قد يشعل نزاعاً أهلياً في لبنان، المنقسم أساساً على طوائفه، لَيعزز قلق اللبنانيين من أن هؤلاء الواصلين الجدد باقون، فلم ينسَ أحدٌ أن تدفق الفلسطينيين عام 1948 أسهم في إشعال حرب لبنان الأهلية التي دامت 15 عاماً بين مسلميي ومسيحيي لبنان قبل 30 عاماً.

وفي مقهىً وسط مزيارة، جلس 3 رجال مسنّون يلعبون الورق، قالوا للصحيفة الأميركية إنهم يفضلون عدم التحدث بأمر التوتر الأخير الذي ساد بلدتهم.

وختم أحدهم، وهو رجل أشيب الشعر اضطر قبل 4 عقود إلى الهرب من بيته في طرابلس ليسكن مزيارة منذ حينها: “من الأفضل ألا نقول شيئاً عن الواضع الراهن، فهناك أطياف كثيرة ولا نعرف ما قد يحدث بعدها”.

المصدر : كلنا شركاء

انشر الموضوع


اشترك بالإعلام الفوري بالاخبار الجديدة بالإيميل .. ضع بريدك