مايو 11, 2024

كونفوز: ترجمة محمد غيث قعدوني- السوري الجديد
“داريا” مدينة مُحاصَرة أو كانت كذلك، تقع في ريف دمشق وتقطنها الطبقة الوسطى العاملة ، وتُعَدُ مركزاً زراعياً حيث تَشتَهِرُ بِعِنَبِها الشهي. وخلال السنوات القليلة الماضية، تحولت “داريا” إلى أيقونةٍ للثورة السورية والصمود الثوري رغم أفظع الظروف التي عاشتها، لم تتوقف المدينة عند هذا الحد، بل أصبحت الآن أيقونة لكارثةٍ أكبر تمثلت باستسلامها لنظام الأسد  في الخامس والعشرين من الشهر الحالي.
ولداريا تاريخ طويل من النشاط الاجتماعي والسياسي يرجع لما قبل اندلاع الثورة في سوريا عام 2011، حيث تظاهر أهلها احتجاجاً على قمع الاسرائيلين للانتفاضة الفلسطينية الثانية ومن ثم ضد الغزو الأمريكي للعراق. ولن يدرك كل من يعتقد أن نظام الأسد يمثل تياراً شَعبياَ معادياً للصهيونية والامبريالية، مدى شجاعة ما قام به أهل داريا آنذاك. كانت المظاهرات المستقلة في سوريا عملاً غير قانوني بكل معنى الكلمة حيث تصلُ عقوبتها للسجن والتعذيب حتى و لو أن تلك التظاهرات كانت موجهة ضد الأعداء المفترضين للبلاد. وتزامناً مع تعاطيه للمسائل الخارجية، ركز النشاط في المدينة على قضايا داخلية وأخذ طابع حملاتٍ ضد الفساد وأخرى لتجميل المدينة.
يدينُ إرثُ المشاركة المدنية وبشكلٍ كبير لعالم الدين “الداراني”  “عبد الأكرم السقا” والذي عَرَفَ طلابهُ على العمل “الإسلامي التحرري”. تم اعتقال السقا مرتين نتيجة لذلك
وكذلك لرائد الإصلاح النابذ للعنف “جودت سعيد” . شددَ “جودت سعيد” على عدة أمورٍ من بينها  حقوق المرأة وأهمية التعددية والحاجة للدفاع عن الأقليات.
في العام 2011، كانت “داريا” واحدة من أهم المُختَبَرات لاختبار امكانية “المقاومة السلمية”. وفَعَلَ الناشط “غياث مطر” المعروف بـ “غاندي الصغير”، مبادئ “السقا” و”سَيد” وذلك عن طريق تشجيع المتظاهرين على تقديم الورود وزجاجات المياه للجنود المُتَجَمعين لإطلاق النار عليهم. وكعادته، رد النظام بعنفٍ شديد. وجرى اعتقال الناشط “غياث مطر” البالغ من العمر 26 عاماً والذي كان يعمل خياط ملابس، في سبتمبر/أيلول من العام 2011. بعد أربعة أيام على اعتقاله، عاد “مطر” إلى عائلته وزوجته الحامل، جثةَ هامدة قد مُثِلَ بها.
منذ البداية ورغم إثارة النظام لمبدأ “فَرِق تَسُد”، رفضت الحركة الاحتجاجية في “داريا” الاستقطاب الطائفي، وكما هو الحال في “درعا وحمص” انضم مَسيحِيو المدينة إلى الاحتجاجات وقرعت أجراسُ الكنائس تضامناً مع الشهداء. ونجحت المدينة في الحفاظ على التسامح بين أبنائها لا سيما مع بداية ظهور “السلفية” و”الجهادية” في أنحاء مختلفة من البلاد.
لم تعرف الآلة القمعية للنظام أي شكلٍ من إشكال التسامح، ففي الخامس والعشرين من شهر أغسطس/آب عام 2012، وعلى مدار أسبوع تقريباً، ارتكبت قوات النظام مجزرة مروعة في “داريا” حيث أعدمت ميدانياً العديد من الرجال والنساء والأطفال أو قتلتهم داخل منازلهم. قٌتِل حوالي 300 شخص في حدٍ أدنى، بينما ترجح توقعات بأن العدد يصل إلى ألف.
في تلك المرحلة، أصبح من الواضح أن جهاتٍ خارجية سوف تزيد من معاناة أهل “داريا”، حيث دخل الصحفي البريطاني “روبرت فيسك” برفقة جيش النظام إلى المدينة الغارقة بالدماء وأجرى لقاءات مع بعض الناجين من المجزرة بحضورِ قاتليهم، ثم وصف “فيسك” الثوار بأنهم “مُرتكبي المجزرة”. ورفضت لجان التنسيق المحلية في داريا التي لم يسمع بها أحد من قبل ، رواية “فيسك” حول فشل محاولة لتبادل الأسرى. و في كتابها الرائع بعنوان “يوم أن جاؤوا إلينا”، تسرد الصحفية الأمريكية “جانين دي جيوفاني”، زيارتها الشخصية في أعقاب المجزرة ولقاءها المدنيين وليس الجنود. التقت “دي جيوفاني” مع عدد من السكان المحليين ولم تتوصل إلى أي دليل كان لرواية “فيسك” للأحداث التي جرت في المدينة. ومع ذلك، يُصِرُ الأخير على روايته من بين تلك التي تفضل لومَ ضحايا نظريات المؤامرة، على قول الحقيقة.
لم تُثني هذه المجزرة من عزيمة الثوار،إذ أنه  وبحلول شهر نوفمبر من العام 2012، كانت المدينة تحت السيطرة الكاملة لسكانها وعناصر الجيش الحر المدافعين عنها. ردَ النظام ث بفرض حصارٍ تام استمرَ حتى استسلام المدينة قبل أيام.
أدت سياسة ” الرُكوع أو الموت جوعاً” إلى قطع الكهرباء والماء والاتصالات عن “داريا” ناهيك عن إغلاق محيطها ومنع الغذاء والدواء من الدخول. فشلت الأمم المتحدة بإيصال المساعدات الإنسانية ورضخت للأسد “المُتَجَيِر” رغم صدور عدة قرارات تقول أن موافقة النظام ليست مطلوبة لإيصال المساعدات. و دخلت القافلة المساعدات الأولى والوحيدة إلى المدينة في حزيران الماضي حيث بدت أنها “ضَحِكُ” على لِحى سكان المدينة الذين يعانون من سوء التغذية.  وخلت القافلة من المواد الغذائية حيث كانت الشاحنات شبه فارغة وتحتوي على “ناموسيات” وغذاءٍ بديل عن حليب الأطفال فقط.
تزامناً مع الظروف السيئة التي تعيشها ورغم  تعرضها للقصف المستمر، استطاعت “داريا” تحقيق منجزات ملحوظة، حيث شَكَلَ أهلها “مجلساً محلياً” قام بدوره بتأمين الخدمات من بينها المستشفيات الميدانية ، المدارس، مطعماً للفقراء ، وحتى  إنشاء مكتبة تحت الأرض. كان هذا المجلس يخضع لإدارةٍ وفق المعايير الديمقراطية. كان الأعضاء الـ 120 في المجلس يختارون هيئتهم التنفيذية عن طريق تصويتٍ يُجرى كل ستة شهور، بينما يتمُ اختيار رئيس المجلس بانتخابات عامة.
على غير العادة وبشكلٍ مثيرٍ للاهتمام، فقد أطاعت ميليشيات الجيش الحر المدافعة عن المدينة أوامر المدنيين فيها. وكان لنساء داريا دور مِحوري في تأسيس أحد أكثر المشاريع الإعلامية إثارة  للإعجاب في سوريا الحُرة وهو عبارة عن صحيفة مطبوعة ومتوفرة باللغة الإنكليزية وتدعى “عنب بلدي”.
ووصفت “رزان زيتونة” وهي شخصية ثورية مهمة ومُؤسِسَةُ لجان التنسيق المحلية، “داريا” بهذه الكلمات 🙁 داريا كانت نجماً ساطعا قبل الثورة، ونجماً أثناءها. ما بناه شباب وصبايا المدينة، اقتضى منهم جهداً هائلاً أسفر عن نموذج مصغر لسوريا المستقبل التي نحلم بها. لم يتوقف حراك المدينة عن إدهاشنا لحظة. في داريا كان المتظاهرون أول من حمل الورود والماء للجيش الذي أمعن في قتلهم. في داريا فقط، جرى توزيع هدايا العيد لأطفال الشبيحة أسوة بأطفال الشهداء. في داريا بقيت عبارات المواطنة وشعارات التعايش ترفع حتى عندما كان البلد كله يسقط في براثن اليأس بعد كل مجزرة جديدة.).
وصمد هذا النموذج الذي يُقتدى به، أمام أربع سنين من القصف بكل أنواع الأسلحة، من آلاف البراميل المتفجرة والقنابل، والغازات السامة.
و استهدف القصف، خلال الأسابيع القليلة الماضية، الأراضي الزراعية في المدينة وإحراق المحاصيل وهي آخر مصدر  للغذاء. وفي التاسع عشر من الشهر الحالي، تم تدمير المستشفى الميداني الوحيد في المدينة بعد قصفه بقنابل النابالم. ويحظر القانون الدولي استخدام قنابل حارقة من هذا القبيل ضد التجمعات السكنية. وأمطر الأسد تحت الرعاية الروسية،  المدنيين في مناطق شتى من سوريا  بالأسلحة الحارقة من بينها الفوسفور الأبيض والثيراميت والقنابل العنقودية وكلها أسلحة مُحَرَمة. ويوم الخامس والعشرين من الشهر الحالي، أي بعد أربع سنوات تماماً من مجزرة العام 2012، سقطت مدينة “داريا”  مُستَسلِمة بيد قوات النظام .
وبصمودها، أظهرت “داريا” للمهتمين أن آفاق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في سوريا حيةُ و صحية. لم يُملِ أحدُ على سكان المدينة أن ينتظموا ديمقراطياً، حيث فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم لأنهم كانوا مقتنعين به ونجحوا رغم الظروف المُرعبة التي تحيط بهم. مَثلَ حَراكَ أهل داريا نظرة لمستقبل ممكن من الديمقراطية، والتعددية والسِلمية التي  قد تعودُ بالنفع على العالم كله بيد أن المجتمع الدولي الذي لا يملك من اسمه نصيب، كان قد ساهم في هزيمة هذه الرؤية.
وتأتي روسيا وإيران على رأس قائمة الدول المُتَهمة، حيث قَوَت هجماتهما الإمبريالية ، الجهاديين والفاشيين الأسديين على حدٍ سواء. و لكن كان للولايات المتحدة دورها هي الأُخرى. و يعزو الكثيرون سقوط داريا إلى ركود الجبهة الجنوبية والذي استمر أشهراً حيث يتواجد تحالف لميليشيات الجيش الحر، ،الشيء الذي خفف الضغط عن جنود النظام وجعلهم يركزون على المدينة المُحاصرة. كما ويمكن إرجاع سبب ركود الجبهة الجنوبية إلى مركز العمليات العسكرية في الأردن المعروف اختصاراً بـ”موك”  التي أوقفت تزويد المال والسلاح استجابةَ لضغوطاتٍ أمريكية. وفي الوقت الذي جعلت فيه السياسة الأمريكية من الجبهة الجنوبية وهي عبارة عن تشكيل ديمقراطي ووطني، جبهة واهنة، إلا أن “جيش” الفتح وهو أكبر فصيلٍ جهادي في الشمال السوري،تمكن من كسر الحصار المفروض على حلب. وليست السياسة الأمريكية بهذا الخصوص شائنة أخلاقياً فحسب، بل هي حمقاء بشكل لا يصدق، وفقاً للأولويات الأمريكية والمُفترضة المعادية للجهاديين.
إن هذا الاستسلام هو كارثة أولاً وقبل كل شيء لسكان “داريا”، إذ أنه بموجب الاتفاقية سيتم نقل المقاتلين من المدينة إلى محافظة إدلب، والمدنيين إلى مناطق أُخرى من ريف دمشق، ويُعتَبرُ هذا آخر مشهدٍ لوحدة المدينة وأهلها، و حلقة أُخرى من التطهير العرقي.
ما حدث في داريا يعكسُ فشلَ العالم أجمع.، حيث لَعِبَت الدول القوية وهيئات الإغاثة الحكومية والإعلام الحكومة المُخادع ، دوراً في هذه المأساة. إن إبادة الديمقراطية السورية يعني استمرار صعود الفاشية والجهادية، ناهيك عن استمرار تدفق اللاجئين، حيث سيدفع الجميع ثمن ذلك.
اقرا:
152 شخصية ثورية يطالبون بوقف المفاوضات بعد تهجير داريا



المصدر: كونفوز: داريا.. قصة ثورة بدأت قبل الثورة، وانتهت قبل نهايتها

انشر الموضوع