أبريل 25, 2024

بملامحها الخليجية المميزة وحجاب قصير منمق مع الملابس الغربية، كانت طبيبة الأسنان السعودية ليلى أبو الجدايل “تصول وتجول” بابتسامة عريضة بين أبناء جلدتها المشاركين في برنامج “إعداد القيادات” الذي تُنظِّمه جمعية مسك الخيرية في بوسطن الأميركية بين عامَيْ 2016-2017، وهذا الجهد كان جزءا صغيرا من جهودها التي دفعت دوما المؤسسات النسوية السعودية ووسائل الإعلام للاحتفاء بالمُبتعثة القيادية أبو الجدايل التي “بيّضت وجه المملكة” في الولايات المتحدة بنشاطها وعطائها العلمي والخيري.

في هذه الأيام أيضا تُنشر صور واسم أبو الجدايل، لكن على نقيض ما عكف الإعلام السعودي على الترويج له، فصاحبة المهنة الإنسانية الراقية كانت واحدة ضمن مجموعة من عملاء سريين سعوديين جُنِّدوا للتجسس على ضابط المخابرات السعودية السابق سعد الجبري الذي بات الآن أكثر المطلوبين السعوديين خارج المملكة لولي العهد السعودي محمد بن سلمان، حيث يواصل الأمير اكتساح معارضيه لتعزيز قوته وإزالة التهديدات أمام خلافته النهائية لوالده، وقد عملت أبو الجدايل من أجل تحقيق أمنية ابن سلمان بالتخلص من الجبري حين تودّدت لابنه “خالد” المشارك في البرنامج آنف الذكر بهدف معرفة مكان أسرته في الولايات المتحدة قبل سفر فرقة الاغتيالات السعودية “النمر” في أكتوبر/تشرين الأول عام 2018 لمحاولة اغتياله، وهي خطوة تأتي ضمن سلسلة كبيرة من المحاولات للتخلُّص من الجبري الذي ترك المملكة في العام 2017، وصبر على تهديدات عدة للنيل منه حتى قرّر الآن عقب اعتقال اثنين من أبنائه مواجهة ابن سلمان في محكمة واشنطن الفدرالية التي أصدرت في سابقة نوعية مؤخرا أوامر استدعاء قضائية بحق ابن سلمان و13 شخصا آخرين من ضمنهم أبو الجدايل.

ليلى أبو الجدايل (مواقع التواصل)

بدأت رحلة صعود حارس الأمن والمخابرات السعودية سعد الجبري البالغ من العمر 61 عاما في العام 1999، حين انغمس ضابط المخابرات الحاصل على الدكتوراه في الذكاء الاصطناعي من جامعة إدنبرة في اسكتلندا في كواليس الاستخبارات السعودية، وبقي لعقدين من الزمن يترقى بصمت فيها، تارة يشغل منصب وزير دولة، وأخرى رتبة لواء في وزارة الداخلية، وثالثة عضو مجلس الشؤون الأمنية والسياسية.

ذاع صيت الجبري، اليد اليمنى لـ “وريث العرش” السابق الذي أُطيح به عام 2017 محمد بن نايف، كرجل مخابرات قوي خارج نطاق المملكة، فالخبير في مجال مكافحة الإرهاب نجح في بناء علاقات متينة مع وكالات المخابرات العالمية، حتى أضحى يُعرف بأنه صاحب الفضل في تلقين تنظيم “القاعدة” درسا قاسيا ساهم في إيقاف العديد من هجمات التنظيم الإرهابية على الأهداف الغربية، وقد عمل الجبري الذي قاد برنامجا تجريبيا لإعادة تأهيل المتطرفين جبنا إلى جنب مع ابن نايف الذي لُقِّب بـ “أمير مكافحة الإرهاب” حتى اعتُبر رجل المخابرات الأهم بالنسبة للأميركيين.

سعد الجبري (الجزيرة)

محطة الانهيار الأعظم التي أضحى فيها الجبري بين أميرين قويين متنافسين بدأت منذ أصبح ابن نايف وليا للعهد عام 2015، أو بالأحرى منذ اعتلاء الملك سلمان العرش وانكباب ابنه محمد نحو السيطرة على منافذ الحكم في السعودية، في هذه الأثناء كان الجبري محسوبا على ولي العهد السابق ابن نايف كرجله الناصح الأمين وكاتم أسراره، فيما كان المسؤول الرفيع في وزارة الداخلية عبد العزيز الهويريني منافسا شرسا للجبري يميّزه ثقة ابن سلمان به، وقد أخذ ثلة من المعارضين لابن نايف ورجاله يأججون الصراع تحت ذريعة أن الجبري عضو في جماعة الإخوان المسلمين، لذا سرعان ما حُسِم الصراع ضد الجبري الذي لن ينسى له ابن سلمان معارضته لحرب اليمن التي اعتبرها مُكلِّفة وغير مضمونة النتائج، ففي أواخر العام 2015 بالتحديد، كانت الطريق قد مُهِّدت لإقالة الجبري من منصبه حتى بدون علمه، وقد أُشيع أن القشة التي قصمت ظهر البعير هي أن الجبري في سبتمبر/أيلول من العام 2015 التقى برئيس وكالة المخابرات المركزية آنذاك جون برينان خلال رحلة إلى العاصمة الأميركية واشنطن وحذّره من أن ابن سلمان كان يُشجِّع التدخل الروسي في سوريا، وقد وشت موسكو بهذا اللقاء لابن سلمان الذي لم يؤخر انتقامه من الجبري، فيما قال برينان نفسه إن سبب الإطاحة بالجبري هو أن “سعد شخص لا يمكن السيطرة عليه”.

في المحصلة، دفعت الحنكة السياسية التي يتمتع بها ضابط المخابرات السعودي الجبري إلى إدراك حقيقة أن ابن سلمان يقود المملكة نحو الهاوية، وأنه قد يصبح في أي وقت ضحية “لعبة العروش” بين ابن سلمان وابن عمه “ابن نايف” الذي واصل تقديم المشورة له بعد إقالته، وبالنسبة للجبري فإن تاريخه وحلفه مع ابن نايف من الطبيعي أن يمنح ابن سلمان ورقة للانتقام منه، لذا قرّر الجبري الإفلات من سطوة ابن سلمان وبناء على ذلك غادر المملكة في العام 2017 نحو الولايات المتحدة، إلا أنه سرعان ما شعر بأنه غير آمن في ظل إدارة ترامب التي تدعم ابن سلمان بشكل كبير، ليُقرِّر الانتقال إلى كندا وتلحق به غالبية أسرته.

الأمير محمد بن سلمان والأمير محمد بن نايف (الأناضول)

تحقّقت نبوءة الجبري بعد نحو شهر من فراره، وتحديدا في 20 يونيو/حزيران 2017، حيث أطاح ابن سلمان بابن عمه “ابن نايف” واحتل مكانه وليا للعهد، ثم وضعه تحت الإقامة الجبرية في أحد القصور، وخلال هذه المعركة الداخلية لم ينسَ ابن سلمان الجبري الذي أصبح على رأس قائمة المطلوبين لإدارته، لأنه يعي مدى أهمية رجل أعطاه جهاز الرقابة التابع لوزارة الداخلية مفاتيح أسرار المملكة وملفات الفساد وطريقة عمل الديوان الملكي، والأخطر أن ذاكرة الجبري من الأماكن القليلة التي تحتفظ بالمعلومات الأكثر حساسية عن ابن سلمان.

ولأنه يدرك مدى الخطر الذي يُشكِّله رجل انغمس لعقود حتى أخمص قدميه في العديد من القضايا الحساسة، حيث وُصِف بأنه يعرف “مكان دفن الجثث” في المملكة العربية السعودية، لجأ ابن سلمان بعد فشله المتكرر في استدراج الجبري للعودة إلى السعودية إلى إلحاق تهم الفساد بالجبري أسوة بالمنافسين الآخرين له الذي جعل الفساد غطاء لملاحقتهم، وقد ارتكزت حملة التشهير بالجبري على إنفاقه مليارات الأموال التشغيلية لإثراء نفسه عندما كان مسؤولا عن صندوق وزاري خاص بالإنفاق على القضاء على الإرهاب، فخلال 17 عاما أشرف فيها الجبري على الصندوق تدفق 19.7 مليار دولار، حمل الجبري مسؤولية إنفاق 11 مليارا دون وجه حق، وهو ما اعتبرته الحكومة السعودية سرقة من الخزينة العامة، فيما يؤكد الجبري أن صرف الأموال كان “بتفويض لا جدال فيه من الملك عبد الله”، كما قدمت السعودية طلبا في العام 2017 لمنظمة الشرطة الدولية (الإنتربول) لاعتقال الجبري وتسليمه بتهم الفساد، لكن الإنتربول اعتبر الطلب السعودي ذا دوافع سياسية، بل أشار الإنتربول إلى انتقائية حملة ابن سلمان ضد الفساد في الاعتقالات الشهيرة في فندق ريتز كارلتون في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2017 والتي استهدفت “نخبة رجال الأعمال والإعلام”.

بالعودة إلى أيام الترتيبات الأخيرة لتنصيب ابن سلمان الولاية وتنحية ابن عمه ابن نايف، حضر الجبري بقوة في دائرة اهتمام الأمير السعودي، فاتصل به وعرض عليه العودة للبلاد لشغل منصب راقٍ في السلطة، وبرغم أن ما سبق لم يكن مفاجئا للجبري فإنه في الغالب لم يكن يتخيل أنه أول مَن يبحث عنه ابن سلمان بعد ساعة واحدة فقط من تنصيبه ولي عهد جديدا، ففي هذه الأثناء التي كان ينفطر فيها قلب الجبري على اثنين من أبنائه لم يستطع إخراجهما من السعودية، تفاجأ بمنع أبنائه من السفر حين دفعهما إلى الذهاب إلى المطار على عجل، لينضمّا مع شقيق الجبري وأقارب آخرين إلى آلاف المحظورين تعسفيا من السفر بأمر من جهاز أمن الدولة، وقد بقيت سارة (20 عاما) وعمر (21 عاما) ينتظران تأشيرات الطلاب الأميركية في السعودية بعد سفر عائلتهما، وخلال فترة وجودهما وقعا تحت طائلة تطهير ابن سلمان للعائلة، فجمّدت السلطات السعودية حساباتهما المالية ثم كرّرت السلطات استدعاءهما للاستجواب على مكان والدهما وأنشطته.

عمر وسارة الجبري (الجزيرة)

تستذكر عائلة الجبري المقيمة في كندا الآن الجهد الكبير الذي بذلته الأم نادية، زوجة الجبري، في محاولة إشعار ولديهما بالطمأنينة خلال الاتصال الهاتفي ومكالمات الفيديو اليومية معهما، وأن وصولهما إلى كندا هي مسألة وقت، يقول شقيقهما خالد: “كانت أمي تقضي ساعتين على الأقل في اليوم على الهاتف مع سارة، وآخر اجتماع خُصِّص للاحتفال بعيد ميلاد سارة العشرين”، وحسب ما قاله خالد فإن سارة التي أسعدتها هدايا عيد الميلاد: “كانت خائفة، أخبرت أبناء عمومتها أنها خائفة لكنها لم ترغب في إخبار أمي”.

بعد أسبوع واحد فقط من اعتقال ابن نايف (التاسع من مارس/آذار 2020) أقدمت السلطات السعودية التي كانت قد جرّبت كل وسائل الضغط على الجبري على اعتقال أبنائه عمر وسارة، وفي هذه المحاولة لقصم ظهر الجبري داهمت عشرات السيارات والمسؤولين من السلطات السعودية يوم 16 من مارس/آذار منزله وصادروا إلكترونيات ووثائق.

احتفظ الجبري بصبره على اعتقال أبنائه كرهائن لما يُقارب خمسة أشهر، استنزف فيها الوسائل المتاحة لفك قيد أبنائه من قبضة ابن سلمان، لكن مسؤول المخابرات السعودي الأول قرّر مؤخرا أن يُقاضي ابن سلمان علنا في المحكمة الجزائية الأميركية لمنطقة كولومبيا بموجب قانون حماية ضحايا التعذيب من غير الأميركيين، رُفِعت دعوى قضائية في المحكمة واتُّهِم فيها ابن سلمان بمحاولة قتل الجبري، وذلك بالتحديد في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول 2018، أي قبل مقتل الكاتب السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في تركيا بأسبوعين، ويتهم الجبري في دعوته ابن سلمان بإرسال فريق إلى مطار أونتاريو بكندا يحمل معدات الطب الشرعي حاول الدخول باستخدام تأشيرات سياحية لقتل الجبري بأمر من ولي العهد السعودي بعد أن فشل الفريق في الوصول إليه في الولايات المتحدة، لكن السلطات الكندية كانت قد اكتشفت أمرهم ومنعتهم من الدخول لأراضيها، وجاء في الدعوى أن الفريق “حمل حقيبتين من أدوات الطب الشرعي، مع كامل أفراد الطب الشرعي ذوي الخبرة في تنظيف مسارح الجريمة، وحاول المدعى عليهم في فرقة النمر دخول كندا سرا”. وتُضيف دعوى الجابري أنهم “فرقة موت خاصة مكوّنة من نحو 50 عنصرا من المخابرات والجيش والطب الشرعي جُنِّدوا من مختلف فروع الحكومة السعودية بمهمة واحدة: الولاء للأهواء الشخصية لابن سلمان”.

في وقت نُقِل فيه الملك سلمان إلى مستشفى في العاصمة الرياض يوم 20 يوليو/تموز الماضي، قاد الذباب الإلكتروني السعودي عاصفة على تويتر لتشويه سمعة ولي العهد السابق ابن نايف، حيث لا يزال يشعر ابن سلمان الذي يُعَدُّ التالي في ترتيب ولاية العرش لوالده أن عليه مواصلة إزاحة شخصيات عدة تُهدِّد طموحاته بالوصول إلى سدة الحكم.

نالت تلك الحملة أيضا بشكل شرس من الجبري “الهارب” و”الفاسد” كما وُصِم في هاشتاقات الحملة، حيث وجد ابن سلمان فرصة لكسب جولة سحق جديدة ضد معارضيه قبل موعد الانتخابات الأميركية في نوفمبر/تشرين الثاني القادم، كونه يخشى فوز المرشح الديمقراطي جو بايدن الذي توعّده بدفع ثمن مقتل خاشقجي وإنهاء مبيعات الأسلحة للرياض، وهو أيضا التوقيت المناسب للجبري الذي تحرّك لتوكيل شركة ضغط في واشنطن من أجل إطلاق سراح أقاربه وتحريك المشرّعين الأميركيين الذين لا يزالوا يُقدِّرون الجبري كرجل مخابرات، حيث يصفه مسؤولون أميركيون بأنه “شريك مهم لعمليات المخابرات الأميركية التي قامت بتحديث قدرات مكافحة الإرهاب في السعودية بعد هجمات 11 سبتمبر، وقمع القاعدة في المملكة وطاردها إلى اليمن”، كما نسبوا له الفضل “في الإشراف على شبكة من المخبرين الذين كشفوا مؤامرة عام 2010 من قِبل القاعدة في شبه الجزيرة العربية لإرسال قنابل مخبأة في خراطيش طابعة الكمبيوتر على طائرات شحن أميركية متجهة إلى شيكاغو، مما أدّى إلى إنقاذ مئات الأرواح”، بل إن أربعة من أعضاء مجلس الشيوخ قالوا في رسالة وجهت لترامب في 7 يوليو/تموز الماضي إن الولايات المتحدة لديها “التزام أخلاقي بفعل ما في وسعها للمساعدة في تأمين حرية أطفاله”.

في نهاية المطاف، يؤمن الجبري الذي تطالب دعوته المدنية بتعويضات عقابية من ابن سلمان وفريقه أن مسألة اعتقال هؤلاء غير واردة، لكنه يريد تحقيق هدفين موجعين بالنسبة لابن سلمان، أولهما تهديد علاقاته بواشنطن وبالأخص مع دوائر الاستخبارات التي يُهمّه لأقصى درجة الحفاظ عليها، وذلك لأن ملف الدعوى سيصدع تلك العلاقات المتوترة بأدلة تورط ابن سلمان في مقتل خاشقجي، ويخص الهدف الثاني إيقاع الضرر بسُمعة ابن سلمان كقائد تمكّن منه “جنون العظمة” لحد لا تقف أمامه أي اعتبارات، فقانون الضرر بالأجانب الذي لجأ إليه الجبري يُسلِّط الضوء على أصحاب “الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان”.

وقد بدأ الجبري يجني ثمار تحرُّكه بشكل عاجل ومفاجئ، حيث أصدرت المحكمة في قرار نوعي كما أسلفنا أوامر استدعاء قضائية بحق ابن سلمان مع 13 آخرين للرد على اتهامات الجبري بمحاولة اغتياله واختطاف عائلته خلال 21 يوما، وهي خطوة تعكس جدية المحكمة في التحرُّك لعقاب فريق ابن سلمان، وأهمه إمكانية حجز أموالهم في أميركا ودول العالم، ودفع ابن سلمان للرد على الدعوى.

مزيد من الأخبار http://www.qamishly.com

انشر الموضوع


اشترك بالإعلام الفوري بالاخبار الجديدة بالإيميل .. ضع بريدك