أبريل 24, 2024

الجزء الأول: هل حكايات “العباقرة المجانين” دقيقة؟ 

في ليلة 23 ديسمبر/كانون الأول لعام 1888، في آرل بفرنسا، كان فينسنت فان غوخ غاضباً لأن ذلك الرسام الزميل وربما الشريك الرومانسي بول غوغان كان على وشك المغادرة، فأخذ موساً وقطع أذنه اليسرى، ليس جزءاً منها فقط، بل كلها. سار فان غوخ حاملاً أذنه المقطوعة إلى بيت دعارة قريب، وقدّمها لعاهرة شابة تدعى غابرييل بيرلاتير. سرعان ما ألقت السلطات القبض عليه ووضعته في مشفى للأمراض العقلية. اشتهرت قصة تشويه أذن فان غوخ، وخُلدت في “صورة شخصية له مع ضمادة أذن وأنبوب تدخين” (1889). 

نربط بين فان غوخ والخلل العقلي والسلوك الجامح، ونُسقط هذه الصفات على فنه. هل رسم فان غوخ هلوساته حقاً؟ وبالمثل، هل ألّف بيتهوفن غريب الأطوار ونصف المجنون أصواتاً لم يستطع سماعها؟ 

ربما تساعدنا النوادر البسيطة في فهم القضايا المعقدة. لكن هل هذه الحكايات عن “العباقرة المجانين” دقيقة؟ أم أنها ضُخمت لأننا نحب القصة الجيدة؟ هل هناك حالة أعظم من الجنون والإبداع بين العباقرة المبدعين، أم أن قلة من الشخصيات المضطربة المعروفة تشوه نظرتنا؟ كما اقترحتُ في كتابي الجديد The Hidden Habits of Genius (Harper Colllins, 2020): الأمر معقد! 

قال تشارلز دودغسون على لسان أليس في مؤلفه “أليس في بلاد العجائب”: “أنت مجنون معتوه، فقدت عقلك تماماً، لكن سأخبرك سراً، كل الخِيرة مجانين”. تعود فكرة الفاصل الرقيق بين العبقرية والجنون على الأقل إلى اليونان القديمة. ربط أرسطو بينهما عندما قال: “لا عبقرية عظيمة دون لمسة من جنون”. لإعطاء المجاز القديم سياقاً حديثاً، تفكّر في كلمات روبن ويليامز الذي عجّل جنون ليوي بودي بانتحاره عام 2014: “أُعطيتَ حيزاً صغيراً من الجنون، إذا فقدته ستصبح لا شيء”. 

هل العباقرة أكثر عرضة للإصابة باضطرابات عقلية عن عامة الناس؟ أثناء بحثي لكتابي خلال 15 عاماً، نظرت في حياة حوالي مائة عبقري، من ألكوت إلى زولا. ما لا يقل عن ثلثهم -من بينهم مايكل أنجلو ونيوتن وبيتهوفن ولينكولن وتيسلا وكوساما وفان غوخ وولف وهيمنغواي وديكنسون وديكنز وتشرشل ورولينغ وبلاث وبيكاسو وغون ناش وكاين ويست- يظهرون بانتظام أو أظهروا شكلاً من أشكال الاضطراب العاطفي. الثلث نسبة كبيرة بالمقارنة بـ5 إلى 10% (تقدير تقريبي للغاية) بين عامة الناس. ليس لدى العباقرة عادة عدم اتزان، لكنهم يميلون إليه.  

يبدو أن الفنانين يتأثرون أكثر من العلماء. تشير الدراسات الحديثة إلى أن العلماء لديهم أدنى معدل لانتشار الأمراض النفسية (أعلى بـ 17.8% من عامة الناس)، ربما يعزي اتزانهم النسبي إلى حقيقة أن بروتوكولاً منظماً خطوة بخطوة يلعب دوراً غالباً ضمن خطوط محددة جيداً للبحث العلمي، ناهيك عن الدقة المطلقة التي ينطوي عليها التفكير الكمي. 

مع ذلك، يزداد معدل الاضطرابات المزاجية كثيراً بين الملحنين والسياسيين والفنانين، وأعلى نسبة انتشار بين الكُتّاب (46%) والشعراء (80%). ربما يختار المصابون باضطرابات قابلة للتشخيص مجالات مثل الشعر والرسم، تلك المجالات التي تبدو أكثر ملاءمة للذين يعانون من اضطرابات نفسية. ربما يستشعر المتأثرون أن الاضطراب النفسي هو المنبع الملهم للإنتاج المبدع، كما اشتهر فنان الراب كاين ويست بقوله: “يأتي الفن العظيم من الألم الشديد”. 

لنعد إلى فان غوخ. طرح الأطباء أكثر من مائة نظرية حول سبب حالة فان غوخ غير المتزنة، من بينها الاضطراب ثنائي القطب والفصام والزهري العصبي، والصرع الصدغي الناتج عن تناول الأفسنتين، والمياه الزرقاء تحت الحادة وصفرة المرئيات ومرض ميرنر. كما كان هناك عنصر وراثي قوي في المصير الأخير للرسام، فمن بين الأطفال الأربعة المولودين لآنا وثيودوروس فان غوخ، مات اثنان في مصحة عقلية (ثيو وويلهيلمينا)، وانتحر اثنان (فنسنت وكورنيليوس). 

في مايو/أيار عام 1889، لجأ فان غوخ إلى سان ريمي في فرنسا. وخلال العام التالي، أنتج بعضاً من أكثر إبداعاته تفضيلاً، بما فيها “Irises” كما رآها في الفناء في سان ريمي، و”The Starry Night”، التي رسمها أثناء تطلعه من نافذة المصحة. قال مؤرخ الفن نينكي باكر عن عمل فان غوخ الأخير “Tree Roots” الذي أنجزه بعد إطلاق سراحه: “يمكن أن تشعر في إحدى تلك اللوحات بحالة فان غوخ العقلية المعذبة أحياناً”. 

هل كان فن فان غوخ “المجنون” نتاج حالة عقلية معذبة كما هو مقترح أعلاه، أم نظرية فنية في غاية الوضوح؟ شُرحت العديد من الصفات المميزة لأسلوب فان غوخ -كصوره المتلألئة واختيار الألوان، والأنسجة ذات اللونين المتداخلين- كنظرية فنية في رسائل الأخ ثيو، قبل فترة طويلة من خلل فينسنت العقلي. كان فان غوخ مدركاً جيداً للخط الفاصل بين العقل والجنون. وكان يعلم متى يكون عاقلاً ومتى لا يكون. كما كتب إلى ثيو عام 1882: “بصفتك مريضاً، لست حراً للعمل كما ينبغي، كما لا تقدر عليه”.  

رسم فان غوخ للبقاء على الجانب “الآمن” من الخط. كتب عام 1883: “العمل هو العلاج الوحيد، وإذا لم يساعد، ينهار المرء”. بالتبديل بين الملاذ الآمن للعبقرية المنتجة والجنون المعطل، واصل فان غوخ الرسم حتى عجز عنه. في صباح يوم 27 يوليو/تموز 1890، تجول في حقل بالقرب من نهر الواز، وأطلق النار على نفسه. 

ربما تُكسب كلمات روبن ويليامز مرة أخرى سياقاً حديثاً لفان غوخ والعديد من الفنانين “غير المتزنين”: “ستأتي إلى الحافة وتنظر، وأحياناً ستخطو فوقها، ثم ستعود بعد ذلك محملاً بالأمل”.  

لكن يبقى السؤال: هل ينقل الجنون الفن البصري، أم أنه يتماشى معه ومستقل عنه؟ هذا ما سأتناوله في الجزء الثاني.

– هذا الموضوع مترجم عن مجلة Psychology Today الأمريكية. 

مقالات الرأي المنشورة في عربي بوست لا تعبر عن عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع

انشر الموضوع


اشترك بالإعلام الفوري بالاخبار الجديدة بالإيميل .. ضع بريدك