مايو 17, 2024

كلنا شركاء: أحمد عمر- المدن
“إذا أردت أن تعرف ماذا يجري في دمشق الفارسية الروسية، علينا أن نعرف ماذا يجري في البيت الأسود”..

لا يجادل اثنان في أنّ مسلسل “صح النوم” مسلسل خالد، ليس له مثيل في تاريخ سورية البصري، وربما في دراما العالم العربي، واستغرب مراقبون سبب تكريم دريد لحام وإهمال نهاد قلعي، في عام 1976، كانت مفاجأة كبيرة لكل العاملين في الوسط الفني، والوسط الشعبي، عندما كرم رئيس سورية الفنان دريد لحام، وسام الاستحقاق السوري من غير نصفه الأول، فإن كان لدريد سهم فلنهاد سهمان، وسهم المؤلف هو سهم الصانع الأول، “تكموها” واضحة يا بي. الوسام كان للمؤلفة قلوبهم الجدد.
 للمسلسل نبوءات، واستشرافات للمستقبل، مثال ذلك المصالحات الوطنية التي كانت تجري في حارة “كل من إيدو إلو”.  تقوم مظاهرة في الحارة، وقد كانت المظاهرات يوما عادة يومية في سورية، فيخطفها غوار وأبو عنتر من أهل الحارة، ثم يتصدران المشهد، ويقبلان بعد مفاوضات مع أبي كلبشة بعلبتي دخان!
 الاستشراف الأهم نراه في إفراج أبي كلبشة الذي يمثل السلطان، والإيوان، والصولجان، عن غوار بعد أن حان موعد تقاعده الدستوري، فيمكر لتمديد الدستور مكراً، وقد رأيناه لاحقا في إفراج أبي كلبشة البريطاني عن معظم أفراد الجماعات الإسلامية المتشددة التي رباها في قواويش السجون، وكان دياب سرية وهو أحد خريجي كليات الأسد الراسبين، قد سماها “بأكاديميات التطرف”، واعتذر لنفسي ولمحبي عبد اللطيف فتحي، عن هذا التشبيه، فلا بد من تحرير الموضوع كما يقول الفقهاء.
أغرى أبو كلبشة غواراً بالهرب، فتأسى به أبو حافظ البريطاني، وأفرج بعفوٍ عام عن جميع عناصر المنظمات المتشددة، بعد اندلاع المظاهرات في عدة محافظات وأرياف سورية، والمتشددون هم ضحايا سياسة البعث أصلاً، وترك طلاً الملوحي في السجن متجاوزة سنوات حكمها الخمس، وكانت صبيةً على أعتاب الثانوية العامة، عندما اعتقلت، ولا بد أنها شاخت الآن، ولا نعرف كيف ستتخرج من الأكاديمية، وبأي رتبة علمية؟ وكانت تهمتها هي: كتابة رسالة للرئيس الأميركي توهن روح الأمة وتضعف الشعور القومي، فالرئيس وحده له الحق في مخاطبة زميل مثله، لا يحق لطلٍّ أن تطمح إلى الرئاسة، وهي أنثى، النظام ودي مستورا، والغرب عموما يحبّون الإناث لكن من غير غطاء للشعر، الشعر المستور عورة علمانية. فرحنا بشعور هؤلاء النسوة وخسرنا الحرية!

كثيرون يرون أن وسام الجمهورية الذي ذهب إلى غوار وحده، من غير نصفه الأول، أسبابه طائفية، كل الوقائع نفسرها طائفيا. في الجهة المضادة، يفسرونها بالمؤامرة الكونية، الفرق بين الطائفية والمؤامرة الكونية كالفرق بين الشبح وبين مرض السرطان، الذي يمكن مكافحته، أما شبح المؤامرة الكونية فلا يحاربه إلا واحد مثل غراندايزر أو داعش.
الجوائز والمناصب كانت حكراً على كائنات التوتسي السوري، من الغريب، بل من الطبيعي، أن يكون جميع النجوم من التوتسي (لا علاقة بالبيبسي)، حتى في الشِعر، أكثر المبرزين في الشعر في حقبة ما بعد ثورة الثامن آذار، كانوا من أبناء الأقليات! عدّ معي على سبيل الذكر والمثال لا على سبيل الحصر والاعتقال: أدونيس، الماغوط، نزيه أبو عفش، سليم بركات، وسليم هو المجدد التأصيلي الوحيد بين هؤلاء، فأقلية الكرد أقليّة قومية وليست مثل أقليات الطوائف، فثمت ما يجمعه الأقلية الكردية مع الأمة.
لاحقا رأينا مسلسلاً يحاول الجلوس مكان “صح النوم” في قلوب الجماهير، اسمه “ضيعة ضايعة”، وسنرى فوارق سبعة بين المسلسلين، وهي أكثر من ذلك، لكنها القافية يا بي، أهمها:

 إن مكان المسلسل هو ضيعة ضائعة، بينما كان مكان وقائع ” صح النوم” هو فندق ومقهى، والفندق أثبت من الضيعة الضائعة، وهو مكان عام، مثله مثل الشام التي كانت للجميع، الحارة الشامية ذابت تماماً، وحلَّ “الريف الجميل” في أم الطنافس الفوقا مكان حارة كل من أيدو ألو! واستبدلت بلهجة الشام لهجة مولدة اضطر المخرج إلى ترجمة كثير من مفرداتها للشعب السوري المغترب في بلده! التجمع في  المكان العام ممنوع إلا الريف البحري فله خصوصاية! تكموها واضحة يا بي.

الصراع في “صح النوم” صراع على حب الحسناء فطوم حيص بيص، وعلى السلطة والمال، ويمثله فندق “صح النوم”، أما صراع “ضيعة ضايعة” فهو صراع نكاية وحسد بين الشخصيتين المتصارعتين: أسعد خرشوف الذي حلَّ محل البورظان، وجودة أبو خميس الذي حلَّ محل غوار الطوشة، هو صراع حسد صرف، وتكتيكي، مثل بعض فصول الصراع السوري السوري الآن، الذي يسميه الغربيون “حرب أهلية” وهم مشتركون فيها، فهل حلَّ بو علي بوتين محل أبو عنتر، وأبو الفضل ترامب محل أبي رياح.
“صح النوم” دراما مسلسلة طويلة، هو حلقة في دراما الحارة الشامية. اقترحت يوما على دريد لحام إعادة غوار إلى المشهد البصري من تأليفي، وكانت فكرتي أن يستمر الصراع بين ابن غوار الطوشة وابن حسني البورظان على بنت فطوم، بمفارقات تقارب روح العصر، فغوار في “عودة غوار” الباهتة ليس غواراً، لا غوار من غير البورظان، لكن دريد كان قد شاخ بعد موت صانعه نهاد قلعي. لم يعد غوارا، إنه تكميل.
أما ضيعة ضيعة فهي دراما يومية، كل يوم بيوم، تشبه المرايا وبقعة ضوء لكن بشخصيات ثابتة. أضف إلى الفروق؛ جمال الحارة الشامية ووساعتها الإنسانية التي تضم اللهجات والأعراف والعادات، فترى في الحارة أبو شاكر الدوماني وسليم حانا السرياني، وتشم بأنفك التقاليد الشامية الأصيلة، فهي دراما توثق أجمل العادات والتقاليد. الحارة مجتمع، الضيعة منتجع.
وكنت صبياً أضيق بالأغاني المدسوسة في المسلسل، وأتشوق إلى الصراع والدراما والوقائع والمفارقات، وسيرى المشاهد ويسمع أنّ الممثلين في “صح النوم” كانوا يدندنون بأغاني عربية مثل أغاني ناظم الغزالي العراقي، وعبد الوهاب المصري الذي كانت موسيقى أغنية “النهر الخالد” شارة للمسلسل… ويميل كاتب السطور إلى أن غرض مسلسل “ضيعة ضايعة”، الحتمي الذي ساقته الوقائع السياسية هو: المحو والنسيان، وهو غرض كل الطغاة. الطغاة يخافون من الذكريات يا بي. (يا أبي).
البطلان في ثنائي ضيعة ضيعة عقيمان، لا ينجبان، ليس هذا وحسب، ومن المفارقات أن ينتهي المسلسل بتلويث الريف الجميل بسرطان الكيماوي والفضلات النووية في الحلقة الأخيرة، للنيل من خصم سياسي من الهوتو. تآمر مؤلفو مسلسل الضيعة الضايعة على أبطاله وقضوا عليهم، فصدقت فيهم نبوءة عبد الرحمن الكواكبي في أنّ الطغيان يدمر الأوطان.

 بينما نرى فطوم حيص بيص خصبة، فهي تنجب من ياسين بقوش، الذي سنراه يحكم حارة وادي المسك، كانت السلطة في سوريا تذهب إلى الدراويش والمبروكين والطيبين على الظاهر أمثال ياسين بقوش قبل سيادة الاستبداد، ونرى أمثلة واقعية في أحمد الخطيب السوري، وأحمد حسن البكر العراقي، ومحمد نجيب المصري.. وتبقى للتوتسي على الحقيقة.
لم أحب يوما مؤلفات الماغوط الدرامية فبينها وبين مؤلفات حسني البورظان فرق كبير، كالفرق بين الحصان والفدان، وبين البعير والكرِّ، فدراما البورظان تأليفاً: خصبة، ثرية، ولادة، أما مؤلفات الماغوط فتشبه اللصق والنسخ. المكان في “صح النوم” حارة، والحارة هي المدينة، والمدينة هي الحضارة، والفندق هو الناس كلهم: أسودهم وأبيضهم، عجميهم وعربيهم.. بينما نرى في “ضيعة ضايعة” المكان هو بيوت منثورة على البحر، وهو جميل ورومانسي، لكننا لسنا في معرض كتابة موضوع إنشاء في السياحة، فهو ضيعة، والضيعة من الضياع، جودة واسعد كانا أداتين في السياحة الداخلية بعيدا عن المركز، للنفي والتغريب… والتسويد أيضاً. 

 ضاع المكان حقاً بين الجزء الأول والثاني في ضيعة ضايعة، بسبب خلاف على أجرة البيت الأول، فأصحاب البيت أرادوا أجرةً أعلى، ورفض المنتج، وتلك مفارقة مهمة، فاختار المنتج “ضيعة ضايعة” المفيدة، من النافل القول إن الحارة نفسها صارت ضيعة ضايعة في باب الحارة التي رأينا فيها عمامة سوداء. المحو مستمر حتى في المكان نفسه.
بين عنواني المسلسل فرق، فالتشاكس كبير بين اليقظة والصباح في “صح النوم” والضياع والتشتيت والمسح في “ضيعة ضايعة”.
قضى نهاد قلعي بضربة كرسي على رأسه من أحد طلائع الشبيحة، وعاش دريد لحام متنكرا لكل الإرث الفني الذي ادّعاه، بل إنه أرسل التحية والولاء لأبي كلبشة الفارسي ورأى في روحه القداسة!
“لا يأخذ الله إلا الفاضلين”.

قضى نهاد قلعي لكنه بقي حياً، وعاش دريد لكنه مات. 

اقرا:
نهاد قلعي كاتب وممثل خلق نجوم الكوميديا السورية



المصدر: قضى نهاد قلعي.. وعاش دريد ميتاً

انشر الموضوع