مايو 10, 2024

فواز تللو: كلنا شركاء
لماذا؟
خوفاً عليهم من انتقام وغدر أثناء مغادرتهم، ووفق سياسة بُحثت واتُفق عليها مع قائد ثوار داريا، وتقضي بعدم إطلاق تصريحات استفزازية من قبل المغادرين حتى إنجاز العملية، وهو ما التزم به المغادرون وفق ما عودتنا عليه أيقونة الثورة داريا، لذلك وبالاتفاق مع قائد ثوار داريا انتظرت خروج آخر مقاتل ومدني من داريا لأكتب، كانت سلامتهم همي في اتصالاتي معهم في الفترة الأخيرة وقد كان ذلك رأيهم، نعم الأرض غالية لكن الإنسان أغلى، الأرض يمكن استعادتها أما الإنسان فلا، ومن النبل والجهاد أن يستشهد الإنسان في معركة يأمل فيها النصر والأرض لكن استشهاده لا مغزى منه في حال تأكد عدم قدرته على الاحتفاظ بالأرض، ونتيجةً هذا الصمت المؤقت المقصود من قبل ثوار داريا غابت الحقائق بين بروبوغاندا وأكاذيب النظام الأسدي وحلفائه الإعلاميين من جهة، وتصريحات لوسائل الإعلام العربية وإعلام الثورة وناشطي الفيس بوك حيث كانت الإشاعات تنتشر وتتحول إلى حقائق موهومة متضاربة يطلقها من هم حسنو النية أو انتهازيون يدعون تمثيلاً أو علماً  من راكبي الثورة أو ما شابه، في تجاهل مستغرب من قبل وسائل الإعلام ولمدة خمس سنوات لإعلاميي وناشطي داريا المدنيين والعسكريين، داخل داريا أو المرتبطون بهم خارجها.
لذلك ولما تقدم، واليوم وبعد خروج آخر الثوار والمدنيين بأمان من داريا، وليعرف الجميع الحقائق الرئيسية خلال الأشهر الماضية أحياناً بعرض النقاط الرئيسية وتجاوز التفاصيل حيث لا يسمح الأمر بالإطالة ويمكن عرضها لاحقاً في مقالات لاحقة والاكتفاء هنا بعرض تفصيل ضروري لتوضيح الصورة، وأحياناً بتجاوز بعض التفاصيل لاعتبارات متفقٍ عليها؛ لذلك إليكم حقيقة ما حصل في داريا.
متى وكيف ولماذا بدأت فكرة الخروج داريا؟
وفق المعطيات العلمية كانت داريا ساقطةٌ عسكرياً منذ عام على الأقل كان صمودها حتى اليوم هو اللغز الذي لا يفسره إلا ما نعلم جميعاً من داريا كمثال وروح للثورة، فقبل عامٍ حيث بدأ الهجوم الكبير على داريا متزامناً مع التدخل الروسي وصمدوا لكن الحصار كان يضيق والموارد تقل بعد قطع طريق المعضمية بداية العام، ونتيجةً لصمودهم العظيم مثلت التهدئة “النسبية” قبل سبعة أشهر استراحة لصالح المحارب، لم يهادنوا بطريقة مذلة بل أنعم الله عليهم التهدئة بظرف سياسي مناسب رفضوا فيها محاولات النظام لجعلها مصالحة استسلام، قبل ثلاثة أشهر بدأ النظام وحليفه الإيراني وعملاؤه الهجوم الأخير الكبير وفق خيار “غروزني” المتمثل بتدميرها حجراً حجراً بقوة نارية غير مسبوقة بتغطية جوية وصاروخية ومدفعية غير مسبوقة وباستعمال كل الأسلحة (باستثناء الكيماوي والجرثومي) مع استخدام النابالم والعنقودي وكل ما عداه من محرمات غض العالم البصر عنها، وكان أن تقدم النظام تدريجياً حتى حوصر الثوار في أقل من كيلومترين مربعين في المناطق السكنية منذ شهر ونيف بدون أي موارد غذائية أو طبية والذخيرة تنفذ، وحتى المقاتلون لم يعد باستطاعتهم تغطية الجبهات، فسبعمائة مقاتل كانوا يواجهون خمسة آلاف مسلحٍ أسدي وإيراني بتغطية جوية ومدفعية للقوة العسكرية العظمى الثانية عالمياً، فكان المقاتل الثائر المصاب منهم يعود إلى الجبهات وجراحه لا تزال حية، اما 2500 مدني فقد كانوا في سبيلهم للفناء وقد حوصروا في أقبيةً لم تعد تحميهم من القصف بسبب استخدام الأسلحة عالية التدمير والنابالم الذي كان يمتد تأثيره حتى عبر فتحات التهوية.
رد فعل باقي قوى الثورة على ما يجري في داريا؟
منذ عام ونيف تم تجميد جبهة الجنوب في درعا والقنيطرة بمؤامرة دولية بعد أن تم وعلى مدى عامين تصفية العشرات من القادة العسكريين والاجتماعيين الشرفاء في حوران لتخلو الساحة من قائد يمكن الالتفاف حوله قد يطيح بالسياسة الحالية، فسحب النظام منذ عام تدريجياً جزءاً من قواته من درعا ليزج بها في داريا والغوطة الشرقية وهو الذي فقد إمكانية المناورة البشرية نتيجة تحلل جيشه النظامي واستنزاف تشكيلاته العسكرية “الطائفية” من حرس جمهوري وفرقة رابعة وميليشيات، أيضاً تلهى ثوار الغوطة في صراعهم الداخلي مما أراح النظام وسمح له بانتصارات نوعية هناك، وهكذا تركزت قوة النظام في داريا لذلك ومنذ بدأت الهجمة الكبيرة المتوحشة الاخيرة على داريا قبل ثلاثة أشهر أيقن ثوار داريا أن الاستمرار انتحارٌ مشرف لكن الاستسلام للنظام انتحارٌ مذلٌ، ولم يعد بالإمكان إلا الخروج من داريا تجنباً لانتحار مشرف لا معنى عسكري له إلا تكبيد النظام خسائر كبيرة إضافية لكن على حساب المدنيين المتبقين في داريا الذين سيكونون ضحايا مجزرة مؤكدة، أو انتظار المساعدة العسكرية بتخفيف الضغط من باقي جبهات الثورة القريبة في خان الشيح والدرخبية والقنيطرة ودرعا والغوطة الشرقية والجيوب في الغوطة الغربية.
التطورات الأخيرة الحاسمة مع قوى الثورة العسكرية والهيئات السياسية؟
خلال الأشهر الثلاث الأخيرة المترافقة مع بدء الهجوم الكبير ولمرات وفي اتصالات مباشرة مع كل من ذكرت من قادة وفصائل في تلك الجبهات؛ طلب قادة ثوار داريا منهم التحرك، وترافق ذلك بحملات لحث الجبهة الأكبر والأكثر راحة وقدرة وغير محاصرة أي الجنوب (درعا والقنيطرة)على التحرك من قبل ناشطين عبر حملات علنية (كنداء فزعة حوران الذي تم بطلب واتفاق مع قادة ثوار داريا، أو باتصالات غير معلنة من قبل بعض الثورين وهؤلاء القادة، لكن الاستجابة كانت صفراً من الجميع دون استثناء (في غرفة الموك وخارجها) بعد وعود ومماطلات بفتح جبهاتٍ ومعارك بمن فيهم قادة الفصائل الإسلامية، كما تواصل الثوار في الشهر الأخير مع قادة فصائل رئيسية في الشمال لتشميل داريا في اتفاقاتهم حول الأماكن المحاصرة لكن بلا جدوى، وهكذا وصل ثوار داريا إلى انهم باتوا وحدهم في المعركة العسكرية.
في الشهر الأخير وعلى المستوى السياسي، اتصل قادة الثوار بهيئة التفاوض للضغط عبر الأمم المتحدة وربط استئناف التفاوض بوقف الهجمة على داريا أو على الأقل رعاية وضمان اتفاق خروج الثوار من داريا بشكل آمن والمحافظة على وجود المدنيين إن أمكن في البلدة، وكان الرد بأن الأمر بيد الروس والإيرانيين مع إشارة ضمنية لعدم وجود نية لربط العملية السياسية والعملية التفاوضية بمصير داريا،  وهكذا أدرك الثوار بأنهم غير موجودين على الخارطة السياسية بل مجرد أيقونة يتغنى بها شعراء الثورة، أي المعارضات السياسية والطيبون على فيس بوك بانتظار نهايتهم ليتحولوا من وصمة عار على الجميع إلى ذكرى يتغنى بها الطيبون أو يتاجر بها الانتهازيون مجاناً.
لماذا استعجل النظام وحلفاؤه الاتفاق؟
عاود النظام الاتصال مراراً بهم منذ بدأ هجومه الكبير الأخير قبل ثلاثة أشهر مهدداً إياهم بالفناء، لكن  دون التوصل لاتفاق نتيجة إصرار ثورا داريا على عدم المصالحة وفق شروط النظام أو إصرارهم على عدم الخروج إلا وفق شروطهم ومنها مثلاً الاحتفاظ بسلاحهم الفردي مع ذخيرتهم وعدم التعرض للمدنيين بأي مسائلة، ومن الجدير بالذكر وجود تيارين لدى النظام، الأول يريد الاستمرار حتى تحقيق نصر عسكري كان مع عدم اكتراثه بخسائره الهائلة المتوقعة، وتيار آخر كان يريد تحقيق نصر معنوي بدون دفع مزيد من الثمان الباهظة مع احتمالات لتفاعل الأمر دولياً إن تم الاستمرار حتى النهاية بالخيار العسكري الذي سيكون باهظ الثمن داخلياً في أوساطه وباهظ الكلفة دولياً مما قد يعيق المخطط الأمريكي الروسي الإيراني بالتعاون مع النظام لما يجري يحضره ديميستورا من حل تفاوضي.
على التوازي ومنذ شهرين، بدأت الاتصالات ما بين الروس والإيرانيين (عبر حزبهم اللبناني) من جهة والثوار من جهة اخرى كلٌ على حدة، فالروس كانوا متلهفين لتحقيق هدنة مع جهة معتبرة تعطي المصداقية لـ “مركز حميميم لمراقبة الهدن”، والإيرانيون كانوا بحاجة لنصر معنوي لدى جمهورهم الذي يصرخ نتيجة ازدياد خسائرهم، وجاءت معركة فك حصار حلب الأخيرة لتدفع الأطراف الثلاثة، الأسدي والروسي والإيراني للبحث عن نصرٍ معنوي يقدموه لجمهورهم، وهكذا استثمر ثوار داريا هذه الظروف لفرض شروطهم في مشرفٍ بعد التأكد من خذلان الجميع وعدم جدوى الاستمرار بالتمسك بالأرض حتى الانتحار كما أسلفت في المقدمة.
كيف أدار ثوار داريا عملية التفاوض سياسياً وعسكرياً؟
لم يظهر ثوار داريا للنظام استعجالاً لأي اتفاقٍ على حساب الهدف منه، وقاتلوا كما لو كانوا سيقاتلون حتى النفس الأخير وقد كانوا مصممين على ذلك إن لم يكن هناك من بُدٍ بخسائر لن ينساها النظام أبد الدهر، ومع أن الدائرة كانت تضيق عليهم استمروا في قتال بطولي أصاب النظام باليأس من انتصار سهل، وعلى التوازي اشتد التنافس بين الأسدي والروسي والإيراني في نسبة أي اتفاق مع ثوار دواريا لنفسه، وهو ما استثمره الثوار بحنكة مع تصاعد التنافس تصاعدت الضغوط الشديدة على النظام الأسدي من قبل الروسي والإيراني للوصول إلى اتفاق سريع مع الثور برعاية كل منهما ينسبه لنفسه كراعي وضامن وهو ما أزعج النظام الباحث عن رد اعتباره كجهةٍ صاحبة سيادة ما دفعه للمسارعة عبر مبعوثيه الذين سمح لهم الثوار أخيراً بدخول داريا للتفاوض بعد محاولات سابقة عديدة رفضها الثوار، فكان أن دخل مفاوضو النظام بتفويضٍ مفتوحٍ لإنجاز الاتفاق بأي طريقة، وخلال يومين فقط توصل الطرفان لاتفاقٍ حقق الثوار من خلاله ما يريدون كاحتفاظهم مثلاً بسلاحهم الفردي أثناء المغادرة وهو ما كان يرفضه النظام بشدة، ثم تم تنفيذ الاتفاق خلال اليومين التاليين بدلاً من أربعة أيام التالية باستعجال كبير من قبل النظام الأسدي عكس ما يروج له كذباً من أن الثوار كان مستعجلين، وبإصرارٍ من النظام على إظهار مصداقيته في كل لحظة وبكل وسيلة إعلامية كضامن للاتفاق مشدداً على مصداقيته بدون أي تجاوزات من قبل أنصاره على المغادرين، ومشدداً على أنه كان الراعي والضامن والمنفذ والطرف الوحيد للاتفاق دوناً عن حلفائه الروس والإيرانيين، وبعيداً عن الأمم المتحدة التي حاول الثوار إدخالها كضامنٍ للاتفاق لكنها رفضت (وقد رفضت سابقاً التدخل وتركت داريا لمصير بالفناء تمنته لها) واكتفت بعد إلحاحٍ من الثوار بالعمل كمراقب فقط وإن بشكل ضعيف جداً وشكليٍ متخليةً عن أي دور إيجابيٍ لها.
أخيرا وليس آخراً، داريا – السفر الثاني الثورة والعودة؟
في المقال التالي “داريا – السفر الثاني الثورة والعودة” سأشرح الخطوط الرئيسية للاتفاق وكيف جرى التنفيذ بخطوطه الرئيسية وما رافقه مع بعض التفاصيل التي تشير إلى ما لم يكن أحد ليتصوره، مع ذكر العديد من الارقام التي تعطي صورة لحقيقة ما جرى خلال أربع سنوات في داريا وصولاً إلى لحظة الخروج النهائي وكيف يرى ثوار داريا العودة، حقائق الثورة فالخروج التي ستفاجئ الكثيرين بعد أن كادت تضيع وسط التهويل والتخوين والبكاء ونظريات المؤامرة ونشر ما هب ودب من أخبار من طرف معسكر الثورة، أو نتيجة بروبوغاندا الأكاذيب التي نشط عليها النظام وحلفاؤه من جهة أخرى، وكل ذلك وسط صمت حكيمٍ مقصودٍ من قبل ثوار داريا.
فواز تللو – سياسي وباحث سوري
برلين – ألمانيا 27/8/2016



المصدر: فواز تللو :داريا – السفر الأول الصمود والخروج

انشر الموضوع