أبريل 26, 2024

عمر كوش: الحياة
تثار قضية تمثيل المعارضة السورية مع بوادر كل استحقاق تفاوضي حول حل سياسي مرتجى في سورية، سواء في جنيف أم في غيرها من المدن التي عرفت تجاذبات ومماحكات دولية وإقليمية حول القضية السورية. لكن الأمر نفسه تكرر بشكل فاقع قبل الذهاب إلى الجولة الرابعة من مفاوضات جنيف3، حيث جرى تصوير مسألة تمثيل المعارضة في وفد واحد وكأنها أهم من القضية السورية نفسها، وركّزت عليها الدول الخائضة والغائصة في الملف السوري، كي تعتّم على حيثيات عملية التفاوض ومرجعياتها. وسلطت وسائل إعلامها الضوء على خلافات أطياف المعارضة السورية بحسب العاصمة التي تؤوي مجموعة من المعارضين حوّلتهم إلى منصة لها، في تناثر وافتراق لا ينمان عن موجبات تمثيل القضية السورية وتسخير ممكنات الدفاع عنها، بوصفها قضية شعب ضربته كارثة كبرى، بل انتصاراً لما تريده عاصمة المنصة، أو استثماراً شخصياً، ذاتوياً ورغبوياً، يجري توظيفه خدمة لأجندة دولة المنصة التي يتموضع فيها معارض مفتون بصورته التلفزيونية، المنخورة من الداخل، والتي لا تستطيع إخفاء نرجسية فاضحة، على الرغم من تغليفها بلباس أنيق، وربطها بربطات عنق ذات ألوان زاهية.
ووسط زخم المماحكات حول تمثيل المعارضة السورية، جرى تناسٍ مقصود لما قد تحمله الجولة المقبلة من مفاوضات جنيف، إضافة إلى تناسي بعض قاطني المنصات أن الأهم هو أن أي وفد سيمثل المعارضة في جنيف أو سواها، عليه أن يمثل القضية السورية، بوصفها قضية شعب ابتلي بنظام مستبد جلب الكوارث على البلد وناسه، ما يعني أن الأهم هو طرح مطالب الشعب السوري الذي ثار لنيل حريته وكرامته الإنسانية، وليس الظهور أمام الكاميرات لإظهار شخصية تحابي دولاً تمثل سلطات احتلال لسورية، والتهافت للحصول على موقع للذهاب إلى جنيف رضوخاً لمصالح دول، أو بوصفه أمراً واقعاً، حتى قبل معرفة تفاصيل ما سيتم التفاوض عليه. وليس جديداً القول إن أطياف المعارضة السياسية السورية كلها، لا تمتلك موقفاً موحداً ومحدداً حول المراد من المشاركة في مفاوضات جنيف، وإن كانت الهيئة العليا للتفاوض هي من شكل وفد المعارضة، فذلك لأنها صاحبة التمثيل الأوسع سياسياً وعسكرياً، إلى جانب أنها شكلت بناء على تكليف دولي للمملكة العربية السعودية، التي دعت مختلف أطياف المعارضة للاجتماع في الرياض في العاشر من كانون الأول (ديسمبر) 2015.
وكان أعضاء من المنصات المتناثرة بين العواصم قد دعوا إلى اجتماع الرياض وانضموا إلى الهيئة العليا للتفاوض، ثم آثروا الخروج منها، ليس لرغبة لديهم، بل على الأرجح لرغبة لدى من بنوا لهم المنصة، لكنهم ومع كل استحقاق تفاوضي يطالبون من جديد بالانضمام إلى وفد المعارضة وقيادته.
ومن المؤسف أن تناثر المنصات يخفي ولعاً شخصياً بعدم القبول بالعمل الجماعي، وفق منطق وتقاليد وأعراف العمل المؤسساتي، بل هو ولع بالفردية، ممزوج بسلوك أناني مرضي وحب للظهور والتصدر، وهي أمراض ورثتها شخصيات معارضة من النظام الأسدي المستبد. وبات حديث منصات المعارضة يسيطر على المشهد السياسي، أو هكذا أريد له أن يكون، حيث عمل ساسة دول على تلميع صور شخصيات تابعة لها، حتى تناثرت المنصات ما بين منصة القاهرة، التي تضع قدماً في المعارضة وعينها على النظام، ومنصة موسكو التي يتزعمها من كان وفياً للروس منذ أن منحوا عائلته حصرية تجارة الفرو إبان الاتحاد السوفياتي المندثر، ومنصة حميميم التي تشكلت تحت قبة قاعدة عسكرية للمحتل الروسي، وأعضاؤها معارضون للمعارضة الممثلة بالهيئة العليا للتفاوض، ويحتمون بـ «حضن الوطن»، الذي يعني حضن النظام الأسدي الذي يتسع فقط لآل الأسد وشبيحته والميليشيات التابعة لنظام الملالي الإيراني، ثم آثر بعضهم ممن لم تحتضنه قواعد إحدى هذه المنصات للارتهان إلى منصة بيروت، التي شيدها «حزب الله» اللبناني بعدما أوغل في دماء السوريين خدمة لنظام الأسد، وتنفيذاً لأوامر ومخططات نظام الملالي الإيراني.
هكذا يبدو المشهد السياسي للمعارضة السورية ومدعيها عشية الذهاب إلى الجولة الرابعة لمفاوضات جنيف3، وهو مشهد لا ينقصه الانقسام والتفتت، لكن ما يثير التوجس لدى قطاعات الشعب السوري، هو أن أصحاب المنصات لم يولوا أي اهتمام بالوضع الكارثي الذي ضرب سورية والسوريين، ولم يتحدثوا عن تحديد المتطلبات الاستراتيجية، التي يجب انتهاجها قبل الذهاب إلى طاولة التفاوض، إلى جانب مناقشة وتحديد الشروط التي ينبغي أن تتوافر لنجاح المفاوضات، المأمول أن تنتهي برحيل نظام الأسد والدخول في مرحلة انتقالية، تفضي إلى سورية جديدة، دولة مدنية، ديموقراطية وتعددية تتسع لجميع السوريين. وعليه، فإن المطلوب هو وضع أسس واضحة ومحددة للمفاوضات، تنهض على منظور انتقالي سياسي حقيقي، لكن المشكلة هي أن التفاهمات الروسية- التركية ما زالت غامضة في ظل غياب كامل للطرف الأميركي، المشغول بمعارك الرئيس دونالد ترامب الداخلية، ولا أحد يعرف تماماً ما الذي يريد الساسة الروس من مسار جنيف، خصوصاً أن المؤشرات الصادرة عن الكرملين لا تشي بأن لديه رغبة في الدخول في مسار انتقال سياسي حقيقي، ينهي الكارثة السورية ويزيل ثقل وتبعات نظام حكم الاستبداد الأسدي. والسؤال الذي يطرح نفسه هو ما الذي ستحمله مفاوضات الجولة المقبلة، في ظل تجربة السنوات الست من عمر الأزمة التي لم يقدّم فيها «المجتمع الدولي» شيئاً يوقف الحرب التي يخوضها النظام السوري ضد غالبية شعبه، وبدعم مطلق من الروس ونظام الملالي الإيراني، في حين أن الشعب السوري ترك وحيداً في المواجهة.
ولا يختلف كثيرون من السوريين على تفضيل حل سياسي يخلّصهم من المجازر ومن الكارثة التي سببتها حرب النظام وحلفائه، فالناس في الداخل السوري أرهقتهم المجازر والجرائم، ولا يثقون بما يقول أصحاب المنصات، لأنهم ينامون ويستيقظون على وقع قصف براميل الطائرات والغازات السامة والصواريخ ومختلف أنواع المدافع والراجمات، ومع ذلك فإن غالبية السوريين تختلف كثيراً حول أي حلّ سياسي يعيدها إلى الوراء، أي إلى استبداد حكم آل الأسد، بأبده وإنجازاته وممانعته المزيفة. وهناك تخوف من أن يلجأ النظام إلى التفاوض، بوصفه لعبة لشراء الوقت. وهي لعبة يجيدها تماماً، مثله مثل رصيفه الإسرائيلي، الذي مارس هذه اللعبة عقوداً طويلة مع الفلسطينيين، وتفاوض معهم مع أجل التفاوض فقط، أي من أجل إطالة أمد احتلاله. والخوف من أن تتكرر اللعبة من أجل إطالة أمد احتلال آل الأسد لسورية.
وهناك حديث متشعّب ومفعم بالشكوك يدور حول الجولة الرابعة من مفاوضات جنيف3، وما إذا كانت الأمم المتحدة تمتلك سبل ومقومات نجاحها في إيجاد حل سياسي للقضية السورية، فبحسب الساسة الروس، يبدو انعقاد جولة التفاوض أمراً قائماً بحدّ ذاته، وكأنه منفصل عن أي مسار سياسي، ولا مؤشرات على نقل القضية السورية من طور الحرب إلى الحل السياسي، بعد أن بلغ الوضع حداً بات من الضروري معه القيام بإجراء دولي يساعد على الخروج منه، ما دام الحل العسكري مستحيلاً ووقف إطلاق النار غير ممكن في ظل خروقات النظام وميليشيات نظام الملالي الإيراني، وبالتالي لن يكون نجاح مفاوضات جنيف ممكناً من دون حد أدنى من تفاهم دولي على حل مقبول إقليمياً، ومقبول في الوقت ذاته لدى غالبية السوريين. ولا معنى لاتفاق روسي- تركي من دون رعاية وضمانات أممية، لأن ما يريده الروس هو استثمار تدخلهم العسكري السافر إلى جانب نظــــام الأسد وميليشيات نظام الملالي، لذلك راحوا يحشدون أدواتهم الديبلـــوماسية والاستخبارية والعسكرية للضغط على ساسة طهران ونظام الأسد، وتوظيف تفاهماتهم مع الأتراك لفرض تسوية في سورية خلال الفترة المقبلة.
ويأتي كل ذلك ليس فقط في ظل المتغيرات الميدانية التي أحدثتها آلتهم العسكرية في سورية، بل في ظل الغياب الكامل للإدارة الأميركية، إضافة إلى العجز الأوروبي المرتبط أساساً بحالة الغياب الأميركي، إضافة إلى عدم فاعلية الطرف العربي منذ بداية الأزمة السورية إلى يومنا هذا.وعلى رغم عمومية الاتفاق الروسي- التركي على وقف إطلاق النار الذي لم تحترمه ميليشيات نظام الملالي الإيراني وميليشيات الأسد، فإن موسكو ماضية في جمع الطرفين التركي والإيراني على توافقات محددة في آستانة وسواها، على رغم التناقض في طريقتي النظر والتعامل من القضية السورية.
المشكلة ليست في ذهاب أصحاب المنصات إلى جنيف، سواء ضمن وفد واحد أو وفدين أو أكثر، بل في توفير فرص ومكنات نجاح الحل السياسي، خصوصاً أن الساسة الروس يريدون ضرب مرجعية جنيف، التي تعني مرجعية الأمم المتحدة، إضافة إلى أن تاريخهم لا يشهد بأنهم ساهموا في حل النزاعات المسلحة والحروب بالطرق السلمية، بدءاً من أفغانستان ثم حرب الإبادة التدمير في الشيشان وتدمير غروزني، ومروراً بالحرب ضد جورجيا، ووصولاً إلى ضم شبه جزيرة القرم وفصل القسم الشرقي من أوكرانيا.


المصدر: عمر كوش: منصات المعارضة السورية ومفاوضات جنيف… والوقت الضائع

انشر الموضوع


اشترك بالإعلام الفوري بالاخبار الجديدة بالإيميل .. ضع بريدك