مارس 28, 2024


عمر قدور: المدن
على الأرجح هي براءة اختراع تُسجل لحلب “المحاصرة” في موضوع إحراق إطارات السيارات للتعمية على طيران النظام، بينما كان مقاتلو مناطق الحصار ومقاتلو جيش الفتح من الجهة المقابلة يشنون هجوماً واسعاً على تحصينات ميليشيات حزب الله والحرس الثوري والنظام. الأمر الأهم هنا لا يتعلق بالفاعلية العسكرية لإحراق الإطارات، بقدر ما يتعلق بتضامن الأهالي مع المقاتلين، ويزيد من أهمية هذا العامل ما يُعرف أصلاً عن عدم تورع الطيران الروسي وطيران النظام عن القصف العشوائي، ما يعني استعداد أولئك المدنيين للتضحية بأنفسهم فداءً لمدينتهم ولمساعدة المقاتلين الذين يدافعون عنها. من الجهة الأخرى، قبل يومين من إطلاق الدخان الأسود، تناقلت وسائل الإعلام احتفالات موالي النظام في حلب بإحكام الحصار على الجزء المحرر منها، وتناقلت وسائل التواصل الاجتماعي تحريض أولئك الموالين على إبادة المناطق المحاصرة وعدم إبداء أي قدر من الرحمة تجاه أهاليها، وهي رسالة يُفهم منها عزم النظام على الاستمرار بمخطط الإبادة المنهجية. لكن عجلة الاحتفالات تعثرت، ومساء الهجوم على مواقع النظام بادرت مذيعة من مذيعات النظام، سبق أن اشتُهرت بأخذ صور سيلفي مع قتلى من قوات المعارضة، إلى حضّ الموالين على الدفاع عن حلب، ولم تستثنِ استغاثتُها الأطفال في عمر العشر سنوات الذين دعتهم إلى حمل السلاح. الثابت، مرة أخرى، في هذه التقلبات السريعة أن النظام ساقط فعلياً، ولولا القوى المحتلة الحليفة، وأيضاً لولا الرعاية الدولية، لكان قد انهار منذ زمن طويل. فالهجوم الحالي لا يملك أصلاً عنصر المباغتة، وقبل أيام نبّه ناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي إلى أن من يدبّر هجوماً واسعاً بغية فك الحصار لا يعلن عنه مسبقاً، وأكثر من ذلك لا يعلن عن خطته العامة المقسمة على مراحل. فأن تسقط تحصينات ميليشيات حزب الله والحرس الثوري والميليشيات العراقية، المدعومة بغرفة عمليات روسية، مؤشر يدل على عجز تلك القوى مجتمعة حالما يُتاح للجهة المقابلة دعم معقول لا يصل إلى عتبة التكافؤ في النوع والكم، ويُعوَّض شحّه بإرادة المقاتلين من أبناء الأرض. لكن الحصافة تقتضي عدم الانسياق وراء أوهام إسقاط النظام كلياً في حلب، فمثل هذه الخطوة دونها إرادة دولية حازمة، وقدرة على ترجمتها بوقف إمدادات الفصائل المقاتلة وقت الحاجة. نجاح جيش الفتح في فك الحصار من جهتي الغرب والجنوب يعني عملياً محاصرة النظام في بقعة محدودة جداً من حلب، وبالتالي انقلاب الموازين حتى في اتجاه الريف الشمالي والعودة إلى الوضع الذي كان سائداً قبل سنتين من الآن. عملياً، هذا يعني إنهاء مفاعيل الاحتلال الروسي، وهو قرار لا يُتوقع الشروع به من قبل إدارة أوباما في أشهرها الأخيرة. لذا قد يكون الهجوم الحالي ورقة ضغط على القوى المحتلة من أجل إجبارها على تقديم تنازلات سياسية، أو إنسانية تخص القسم المحاصر من حلب، بمعنى عقد صفقة تخفف من وطأة الحصار دون فكه. في كل الأحوال، لأسباب تتعلق بالداعمين الكبار تأخر هذا الهجوم، وكان من الأجدى القيام به قبل حصار القسم المحرر من حلب. هذا التحفظ لا يلغي آثاره الإيجابية، إذا أدى إلى التخفيف عن حوالي 300 ألف مدني محاصر، ولا يلغي بخاصة ما أثبته أهالي تلك المناطق من تلاحم مع مقاتليهم، التلاحم الذي ينبغي فهمه على الصعيد الدولي بعدم استعدادهم للعودة إلى حكم الأسد على رغم الإبادة المنهجية التي هدفت إلى تركيعهم خلال سنوات.  ولا بأس في القول بأن حلب ليست واحدة، أو القول بوجود موالين للنظام فيها، فهذا الانقسام ينبغي تحري أسبابه بدل تجاهله، أو رميه على بعض الأقليات فيها. بل هو انقسام يلغي الفكرة القديمة التي أشاعها النظام عن حلب كمدينة مُحافَظة فحسب، فالأحياء التي يسيطر عليها النظام فيها ما هو محافظ وما هو غير محافظ، وكذلك هي الأحياء التي خرجت عن سيطرة النظام. أما القسمة “الطبقية”، حيث يسيطر النظام على السكان الأكثر ثراء، فهي قسمة متوقعة لسببين، أولهما وجود شريحة مستفيدة أصلاً من النظام، وهي شريحة مختلفة تماماً عن البرجوازية التقليدية التي حطمها حكم البعث، وثانيهما عامل الخوف لدى شرائح أخرى رأت الدمار الذي ألحقه النظام بالمناطق المحررة. يُضاف إلى ما سبق أخطر ما ينبغي تلافيه، وهو قيام فصيل محسوب على المعارضة بقصف عشوائي بما يُسمى مدفع جهنم لمناطق سيطرة النظام، ووقوع ضحايا مدنيين جراءه، فمسؤولية من يقاتل النظام مستمرة في التأكيد على الإبقاء عليه وحده مع حلفائه في مرتبة من يستهدف المدنيين أو لا يكترث بحيواتهم. الحق أنه انقسام غير استثنائي، بما فيه النعرة التي يحملها بعض أبناء المدينة إزاء ريفها، إذ يمكن ملاحظة مثل هذا “الفلكلور” عند معظم الشعوب، بشرط عدم الاستثمار فيه سياسياً كما فعل ويفعل النظام وموالوه. ومن الضروري ملاحظة أن هذه النعرة هي من جانب واحد، فحين كانت مناطق سيطرة النظام تحت الحصار لم تُمنع عنها المواد الغذائية، وعندما قام فصيل بإغلاق المعبر بين الطرفين قوبل بالمظاهرات وبحملة إعلامية اضطرته إلى العودة عن قرار الإغلاق. قد يكون ضرورياً التنويه بأن أحياء كاملة تسيطر عليها المعارضة سكانها من أبناء المدينة القدماء، لتبديد تلك الصورة عن الانقسام بين المدينة والريف. ومع أن التاريخ لا يشفع لأحد، إلا أن أبناء حلب يسترجعون دائماً حادثتين بالغتي الأهمية في سرديتهم عن مدينتهم، الأخيرة منهما في عام 1822 عندما ضربها الزلزال الكبير وأدى إلى هلاك ودمار ما يقرب نصفها، ثم أعيد بناؤها. أما الأقدم فهي الكارثة التي حلت بالمدينة بعد مقاومة عنيفة أبدتها إزاء التتار بقيادة تيمورلنك؛ يقارن أهالي حلب ما حل بمدينتهم وما حل بدمشق التي فتحت أبوابها لتيمورلنك، فاستباحها أيضاً، ليستخلصوا تطابق النتائج مع الدرس المستفاد مما قبلها.  




الخبر كاملا هنا: عمر قدور: حلب بين تيمورلنك وتيمورلنك

انشر الموضوع


اشترك بالإعلام الفوري بالاخبار الجديدة بالإيميل .. ضع بريدك