مايو 18, 2024

علي العبدالله: المدن
لم يكن استخدام الروس لقاذفاتهم الاستراتيجية من طراز توبوليف (تي يو-22 إم3 باكفاير – سي) بعيدة المدى وسوخوي (سو 34)، انطلاقا من قاعدة “نوجة” الجوية في غرب محافظة همدان، واطلاق صواريخ كاليبر المجنحة من بارجة في البحر الابيض المتوسط في قصف أحياء مدينتي حلب وادلب، تعبيرا عن قوة وقدرة بل عن غيظ على خلفية انهيار خططهم، هم وحلفاؤهم: ايران وميليشياتها الشيعية وقوات النظام السوري، في تحقيق مكاسب ميدانية حاسمة في مدينة حلب تقلب التوازنات العسكرية وتضع المعارضة امام خيار محدد: قبول الحل المعروض أو تجّرع مرارة الهزيمة.
قبل أيام من اطلاق حملتها الوحشية باستخدام قنابل قاذفاتها الاستراتيجية وصواريخها المجنحة واستهدافها الاسواق والمشافي والسيارات المدنية على الطرقات كانت تنتظر نبأ قبول المعارضة والسكان المهزومين الاستسلام والخروج من الممرات “الانسانية” التي حددتها لهم. لكن ما أتى جواب مختلف قلب الطاولة على معديها وادخلهم في حالة هستيريا تجلت في رفع وتيرة القصف بكل صنوف الاسلحة والذخائر المحرمة دوليا(الفسفور الابيض والنابالم والقنابل العنقودية والفراغية وغاز الكلور).
امتدت ردة فعل موسكو على الهزيمة المدوية لقوات حلفائها أمام مقاتلي جيش الفتح في معارك جنوب وجنوب غرب مدينة حلب الى الداخل الروسي باقالة سيرغي ايفانوف، رئيس ديوان الرئاسة وزميل بوتين في الـ ك . ج . ب، تمت اقالته على خلفية دوره في دفع روسيا الى مزيد من التدخل في سوريا، بما في ذلك التدخل البري، لما لهذه الهزيمة من انعكاسات سلبية على صورة القوة الروسية، بعد مرور حوالي عام على تدخلها المباشر في الحرب، وعلى دورها في ادارة المعركة في سوريا وسعيها لاقناع العالم بقدرتها على ملء الفراغ الذي خلّفته واشنطن في الاقليم، وأثر ذلك كله على محاولتها المحمومة لانتزاع موقع دولة عظمى في النظام الدولي. وهذا أثار مخاوف ايران من نكوص روسي آخر واعادة تجربة الشهور الماضية في خان طومان حيث قاد عدم مشاركة الطائرات الروسية في المواجهة هناك الى خسارة قوات الحرس الثوري والميليشيات الشيعية للاراضي التي كانت سيطرت عليها في بداية التدخل العسكري الروسي المباشر، وكان عليها(ايران) ان تدفع لموسكو ثمن مواصلة القصف مسبقا بفتح قاعدة “نوجة” في محافظة همدان للطائرات الروسية، بذريعة التخفيف من تكاليف الغارات ومن الزمن الذي تستغرقة الغارات التي كانت تنطلق من مطار موزدوك في أوسيتيا الشمالية في جنوب روسيا، بينما الواقع انها منحتها مكسبا جيو سياسيا هاما، له انعكاسات جيو استراتيجية كبيرة، ثمنا للابقاء على موقفها الداعم للحملة الايرانية على مدينة حلب، في ضوء استشعارها  الخطر على معركة حلب التي تعتبرها “مصيرية”، كان امين عام حزب الله بدوره قد اعتبرها كذلك في خطاب له وبشّر بكسبها، فالقوات الإيرانية، من حرس ثوري وميليشيات شيعية متعددة الجنسيات، تلقت صفعة قوية هناك حيث لم يكتف جيش الفتح بفك الحصار عن الاحياء الشرقية التي تسيطر عليها المعارضة بل وواصل هجومه معلنا عن نيته تحرير المدينة بالكامل، خاصة وانه بانتصاره الكبير قد رفع الروح المعنوية لمقاتليه وحاضنته الشعبية، وانه بسيطرته على الكليات العسكرية قد حصل على اعتدة عسكرية وذخائر تمكنه من خوض معارك طويلة، وتحرره من ضغوط “الأصدقاء” التي سبق ولعبت بتطورات المعارك عبر التحكم بتقديم الاسلحة والذخائر قبل المعارك وخلالها، فلم تجد(ايران) بديلا عن الاستعانة بالطائرات الروسية “كي تستمر العملية العسكرية ضد الارهابيين عبر إطلاق حملة جديدة واسعة النطاق تهدف إلى إبادتهم تماماً” كما اعلن علي شمخاني، الأمين العام لـ “المجلس الأعلى للأمن القومي”، ودفع ثمن ذلك مقدما ليس باعطاء موسكو حق استخدام قاعدة “نوجة” الجوية فقط بل وابداء الاستعداد لتقديم مزيد من القواعد اذا تطلب الموقف ذلك، كما اكد وزير الدفاع حسين دهقان، خارقة بذلك المادة 146 من الدستور الايراني، ما أثار رد فعل شخصيات سياسية ونواب (20 نائبا) وقلق المواطنين على استقلال بلادهم وسيادتهم الوطنية، ما دفع مصادر ايرانية رسمية الى الاعلان عن “ان دعوة روسيا للتدخل في الحرب في سوريا جاءت من المرشد الاعلى، باعتباره القائد العام للقوات المسلحة الإيرانية، حمله مستشاره للشؤون الدولية علي اكبر ولايتي قبل أيلول من العام الماضي وسلمه شخصياً الى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين”، وذلك لوقف الانتقادات والاعتراضات الداخلية وقطع الطريق على النقاش حول الموضوع والتوسع فيه.
لكن لم هذا الاصرار الإيراني على خوض معركة حلب؟.
أختلفت تقديرات المحللين بين من ربط الموقف بالميثولوجيا الشيعية ومن ربطه بالمتغيرات السياسية وتقديرات طهران للاحتمالات والمخاطر التي تنتظرها وبمحاولة احتوائها وتطويقها بتوريط روسيا في مخططها واجندتها. ينطلق اصحاب الموقف الأول من ان أهمية حلب بالنسبة لايران لا تكمن في تاريخها او في موقعها الجغرافي او دورها الاقتصادي وانما في علاقتها بسردية ايرانية تتعلق بنظرتها الى ذاتها ودورها في قيادة الشيعة وحمايتهم والمطالبة بحقوقهم ورفع مظلوميتهم التاريخية والراهنة، وما يرتبه ذلك، بنظرها، من مسؤولية لاستعادة كل المواقع التاريخية التي شهدت مواقع شيعية أو كانت يوما شيعية او تحت سيطرة الشيعة، وفي مقدمتها المقامات الشيعية المقدسة، وقد سبق وحددت المواقع التي تعتبرها جزءا من السردية الشيعية في الجغرافيا السورية، لحلب فيها مكانة بارزة لوجود “مشهد النقطة”، مقام يزوره الشيعة من كل بلدان العالم لقداسته لديهم، فيها (تقول الرواية الشيعية إن يزيد بن معاوية أمر بان يطاف برأس الحسين(عليه السلام) في الامصار حتى يتأكد انصاره بزوال دعوته بمقتله، وانه خلال مرور الرأس في حلب، بعد فترة من مصرعه، وفي مكان المزار الحالي، وضع على صخرة فنزف نقطة دم على تلك الصخرة، ولما قامت امارة بنى حمدان الشيعية في حلب بنى علي سيف الدولة الحمداني مقاما على الصخرة سنة 351 هجري وغدا اسم المقام “مشهد النقطة”. وقد وسّع صالح نورالدين المكان عام 585 هجري ببناء مسجد حمل نفس الاسم “مسجد النقطة”. وقد دمر المغول المقام ونهبوه ورممه الظاهر عندما ملك حلب سنة 660 هجري، وكان آخر ترميم وتجديد له قد تم عام 1960 قامت به جمعية “الاعمار والإحسان الإسلامية” الجعفرية) لذا فانه غدا لزاما على ايران، وفق سرديتها عن دورها في قيادة الشيعة، استعادة هذا الموقع، حتى لو اقتضى ذلك ابادة سكان المدينة والتضحية بارواح آلاف المقاتلين الشيعة، لتؤكد صدقها وجديتها في الدفاع عن مصالح الشيعة من جهة ولاستثمار المعركة في شدّ عصب الطائفة وتجييشها خلف المشروع الايراني من جهة ثانية.   
وأما اصحاب الموقف الثاني(السياسي) فمنهم من رأى ان للكرم الإيراني مع روسيا اسبابا سياسية واضحة تتعلق في هواجسها ومخاوفها من اتفاق روسي أميركي لا يأخذ مصالحها بعين الاعتبار، ومن رأى انه لقطع الطريق على التقارب الروسي التركي وما يمكن ان ينجم عنه من تحولات في الموقف الروسي في سوريا، خاصة وهي تعلم انه لا يتطابق مع رؤيتها للوضع في سوريا بالاساس، واحتمال تبنيه خيارات لا تتطابق مع تصوراتها لمستقبل سوريا والاقليم.
واضح ان ايران تستغل حاجة القيصر الى نصر في سوريا ليتمكن من تحقيق بعض اهدافه السياسية والاستراتيجية من أجل الاحتفاظ بالتأييد الشعبي الروسي لقيادته خاصة وروسيا على ابواب انتخابات نيابية، فعملت على اغوائه ليواصل الرقص على اشلاء السوريين وبلادهم المدمرة.
اقرا:
علي العبدالله: بين الرقة ومنبج



المصدر: علي العبدالله: هنا حلب

انشر الموضوع