أبريل 20, 2024

علي العبدالله: المدن
جددت عملية “درع الفرات” (عملية عسكرية مشتركة بين قوات تركية وكتائب من الجيش السوري الحر بتغطية جوية أميركية) ضد “داعش” في ريف حلب الشمالي الشرقي، وطلب واشنطن من “قوات حماية الشعب” الانسحاب الى شرق نهر الفرات، السجال العربي الكردي على خلفية ارتياح المعارضة السورية، السياسية والعسكرية، للدعم التركي والأميركي للجيش السوري الحر، ولرفع الغطاء الدولي والاقليمي، وخاصة الاميركي، عن عمليات “قوات سوريا الديمقراطية” غرب نهر الفرات، واعتباره نهاية لمشروع حزب الاتحاد الديمقراطي(الكردي) لاقامة كيان كردي على طول الشريط الحدودي التركي السوري، والجزم بانتهاء ذلك المشروع، ورد القيادة السياسية والعسكرية للحزب المذكور، واعلاميين وكتاب كرد، على الخطوة التركية واعتبارها احتلالا لاراض سورية من جهة، وتتفيههم لعملية طرد “داعش” من مدينة جرابلس واعتبارها “مسرحية” هزيلة من جهة ثانية.
عكس السجال السياسي والاعلامي النزعة الثأرية والكيدية المسيطرة على طرفي الصراع، وغياب العقلانية والعملانية عن المواقف المعلنة آيته ذهاب الطرفين الى حدود قصوى في العداوة، والى تعميق الخلاف والقطيعة بربطهما المواقف بصراعات تعتبر وجودية بالنسبة للطرفين، فالمساجلون العرب يبرزون علاقة الكرد باسرائيل، وهي ما هي بالنسبة للعرب، والمساجلون الكرد يربطون العرب بتركيا، وهي ما هي بالنسبة للكرد، والسير خلف تصورات رومانسية بائسة. ذكرني الموقف بقول صديق كردي: “نحن (الكرد) والعرب والفرس والترك مطبوخون في طنجرة واحدة”. والنقطة الأخطر في السجال ارتكازه على النظرية الصفرية: ربح طرف يعني خسارة الطرف الآخر، وهو توجه شديد الخطورة لانه يفتح على حروب لا تنتهي، في ضوء عوامل الصراع (القوى البشرية والمكان والزمان) من جهة، واستثمار قوى اقليمية ودولية في طرفي الصراع من جهة ثانية، ما يرتب ليس خروج القضية عن سياقها المحلي فقط بل وعن اهدافها المحلية في النهاية وتكريس حالة مركبة من المواجهات الدامية والاستقطابات والتبعيات الدائمة لقوى خارجية لتوفير الدعم والحماية.
لقد تأسست حالة التوتر الراهنة على اجتماع عاملين، أول: غياب مبادرات وتوجهات سياسية جادة ومرضية لايجاد حل للتعدد القومي في سوريا، كذلك هو الحال في تركيا وايران، يقود الى تطمين الشعب الكردي على حقوقه ومستقبله ويفتح على ردم الهوة بين اطراف الصراع المحلية واخراج الخلاف من دائرة الاستثمار الاقليمي والدولي، ما وضع الكرد أمام خيارات محدودة ودفعهم لركوب الصعب والبحث عن ظهير اقليمي ودولي لخياراتهم الخاصة. وثان: اطلاق حزب الاتحاد الديمقراطي(الكردي) لمشروعه السياسي الخاص دون انتظار نضوج الحل السياسي للصراع في سوريا وعليها، وطرحه ضمن التسويات التي ستنشأ، وتحديده لجغرافية هذا المشروع في ضوء تصورات حزب العمال الكردستاني للصراع مع النظام التركي، بحيث يشكل الكيان الكردي الذي يستهدفه المشروع محددا وقيدا على الخيارات التركية في ذاك الصراع. ما دفعه الى السعي للسيطرة على أراض الوجود الكردي فيها قليل، ان لم يكن معدوما، تحت ذريعة وصل كانتون عين العرب/كوباني بكانتون عفرين، وهذا قاده الى انتهاز انشغال المعارضة بالقتال على اكثر من جبهة والتمدد على حسابها، والى القيام بعمليات تطهير عرقي لتوفير شروط سيطرة كاملة واستقرار دائم، ما أثار هواجس ومخاوف المعارضة السورية والبيئات العربية المحلية وزاد في حدة التوتر بين العرب والكرد، والتركمان والكرد، (عبّر انكار كثير من الكرد لحجم وطبيعة الوجود التركماني في سوريا عن حدة العداوة وعن التخوم التي يمكن ان تبلغها، وهذا تعبير واضح عن لاعقلانية سياسية) وبروز قطيعة نفسية وشعورية بينهم.
تكمن صعوبة التعاطي مع القضية في استبطان اصحاب العامل الأول(العرب الترك والفرس) حالة رفض صارم للآخر المختلف قوميا، والاستهانة بتطلعات بقية الشعوب المنضوية في الكيان الوطني(اعتبر قيادي يساري كبير موقف العرب والفرس والترك نابعا من عنصريتهم، اعتقد انه جانب الصواب بدليل ان العنصرية لا تظهر في التعامل اليومي بين المواطنين العاديين مع بعضهم بعضا، وان الالفة والتعاون بينهم، بما في ذلك المصاهرة، تدحض هذا التقدير)، رفض انتجه الوضع الراهن بمعطياته السياسية والاقتصادية والعلمية، التي تشير الى تدنى مكانة دول وشعوب الكيانات الثلاثة في اللوحة الدولية، وتضاده الصارخ مع صورتها عن ذاتها، كونها صاحبة امجاد عظيمة على خلفية الدور المحوري والمهيمن الذي لعبته في مراحل تاريخية مديدة وتمحور مخيالها حول هذه الامجاد، والتعبير عن رفض حالتها الراهنة، وتواضع مكانتها في مختلف المجالات، بعملية نفسية قائمة على التركّز حول الذات ونكران المماثلة في الحقوق والواجبات مع شعوب كانت ومازالت في نظرها أقل شأنا منها (قال مثقف وقيادي في حزب ناصري كبير: “ان بدنه يقشعر عندما يسمع كلمة كردي”).
موقف يعكس وجود رضّة عميقة في الذات الوطنية والقومية تدفع الى التصرف والتعاطي مع الموقف بتجاهل تام للواقع المعاش ومستدعياته وبناء مستقبل مزدهر واحتياجاته(الرضّة الكردية أخذت شكلا آخر قائم على البحث في جذور مشاهير الفقهاء والفلاسفة والشعراء والفنانين القومية والاعلان عن انتماء اسماء وازنة منهم الى الامة الكردية، علما ان تفوق الافراد ونجاحهم لا يرجع الى كونهم كردا او عربا او فرسا بل يرجع الى اجتهادهم الشخصي) يدفعها هذا المزاج الى التعاطي مع الصراع عند مستوى الوقائع الميدانية ورفض النظر في مستواه الحقيقي والحقوقي ما رتب غياب رؤية سياسية مستقبلية تستهدف حل الصراع في ضوء المستوى الثاني والدخول في عملية سياسية للاتفاق على عقد اجتماعي جديد يقوم على الرضا يجنب كل الأطراف خسائر كبيرة متوقعة في حال استمرار النظر الى الصراع من مستوى الوقائع وعلى قاعدة المعادلة الصفرية. صحيح ان القيادة السياسية والعسكرية لحزب الاتحاد الديمقراطي، وكذلك قيادة “قوات سوريا الديمقراطية”، وجدت نفسها في موقف لا تحسد عليه بعد الموقف الأميركي الذي عكس رفض واشنطن للمستوى السياسي في مشروع الحزب، خاصة وان دعمه العسكري أشعر قيادة الحزب السياسية والعسكرية بواقعية الفرصة وضخّم تصوراتها ودفعها الى التغول على محيطها وجوارها والتعامل باستعلاء وعدائية مع الخصوم كردا وعربا وتركمانا، وانها وجدت نفسها أمام موقف أكبر من قدراتها على المواجهة، وان تصعيد عمليات حزب العمال الكردستاني داخل تركيا لا يشكل رافعة لاحتواء الموقف الجديد، ولن تكون كافية لتغيير توازن القوى بما يسمح بمتابعة المشروع بنسخته الأصلية، خاصة في ضوء التفهم الاقليمي والدولي للخطوة التركية، لكنه (الموقف) لا يعني بأي حال انتهاء المشروع وازاحته عن التداول المحلي والاقليمي والدولي بالمطلق، كما ذهبت اصوات عربية وتركية، مع امكانية اعادة النظر في حدوده وبنيته، وان الصراع لم يحسم ولم ينته، وينذر بانفجارات غير محمودة العواقب، وهذا يستدعي من أطراف الصراع المحليين اعادة نظر بمواقفهم والتعاطي مع القضية بواقعية وعملية، والجنوح الى تفاهم على قاعدة المستوى الثاني: طبيعة الصراع وحقيقته، تفاهم قاعدته الاعتراف بالآخر والمعاملة بالمثل، فالحالة بحاجة الى موقف رسالي لا الى موقف وظيفي، تتخذه قيادة تنظر الى الصراع من منظور مستقبلي قائم على السلام والامن والاستقرار لتحقيق ازدهار لشعوبها لا الى اداء واجب آني بحدود وظيفة محددة بالوقائع القائمة.
اقرا:
علي العبدالله: هنا حلب



المصدر: علي العبدالله: المسؤولية التاريخية

انشر الموضوع


اشترك بالإعلام الفوري بالاخبار الجديدة بالإيميل .. ضع بريدك