مايو 12, 2024

خلال انعقاد الدورة التاسعة والأربعين لمجلس حقوق الإنسان في المقر الأوروبي للأمم المتحدة في جنيف يوم 1 مارس 2022، بادر سفير أوكرانيا ودبلوماسيون من عدد كبير من البلدان الأعضاء في المجلس بالانسحاب من قاعة الاجتماعات عندما بدأ تشغيل رسالة الفيديو المسجلة مُسبقًا لسيرغي لافروف، في خطوة احتجاجية على غزو موسكو لأوكرانيا. ©Keystone / Salvatore Di Nolfi

في جنيف، وبعد أن دفعت الحرب في أوكرانيا الغرب إلى استبعاد روسيا من بعض المنتديات الدولية، يتطلّع الدبلوماسيون إلى توجيه رسالة قوية تُدين الغزو الروسي لأوكرانيا، لكن البعض يخشى أن تكون هذه الاستراتيجية محفوفة بالمخاطر على الصعيد الدبلوماسي وأن تؤدي إلى شلل المؤسسات الدولية.

هذا المحتوى تم نشره يوم 31 مارس 2022 – 09:00 يوليو,

خلال شهر فبراير الماضي، تبدّل المناخ الهادئ عادةً في الأوساط الدبلوماسية في جنيف الدولية بشكل جذري نتيجة الغضب العارم تجاه روسيا. فلقد شكّل الغزو الروسي لأوكرانيا في جميع المنظمات الدولية في جنيف والبالغ عددها ثمانية وثلاثين منظّمة، مصدر قلق عميق. ومع استمرار الحرب الدائرة رحاها، تتفاقم عزلة روسيا واستبعادها من حضور العديد من الاجتماعات. فلقد تم استبعاد هذه الدولة من بعض محادثات منظمة التجارة العالمية، كما فقدت صفة مراقب في المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية (سيرن). ومؤخراً قررت منظمة العمل الدولية تعليق تعاونها معها حتى وقف إطلاق النار.

ونقلت وكالة الصحافة الفرنسية (فرانس برس) عن السفير البريطاني سيمون مانلي بعد قرار منظمة العمل الدولية قوله: “إن عزلة روسيا تتفاقم، وحان الوقت لوضع حد لهذا العدوان الهمجي الذي يتعارض مع جميع قيم منظمة العمل الدولية”.

من جهة أخرى، أكد دبلوماسي أوروبي في بعثة الاتحاد الأوروبي لدى الأمم المتحدة في جنيف لـ  SWI swissinfo.ch أن ممثلي البعثة يرفضون في الوقت الراهن عقد اجتماعات ثنائية مع نظرائهم الروس.

ويثير هذا الواقع المستجد مسألة كيفية التعاون المستقبلي مع روسيا في جنيف الدولية؛ فروسيا هي عضو دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وتضطلع بدور هام في معظم المنظمات الدولية. وإذا استمر الاستقطاب في المفاوضات المتعددة الأطراف على هذا النحو، فهناك خطر يُنذر بتوقف المحادثات الجارية وتلاشي إمكانية إجراء أية صفقات تجارية.

مقاطعة دبلوماسية هادئة

داخل مجلس حقوق الإنسان، وهو إحدى هيئات الأمم المتحدة، يُعتبر أن وجود روسيا كعضو منتخب يطرح إشكالية. وتدعو بعض الدول الأعضاء في الأمم المتحدة إلى جانب ثلاثين منظمة غير حكومية إلى استبعاد روسيا من عضوية هذا المجلس.

يقول مارك ليمون، مدير مجموعة الحقوق الكونيةرابط خارجي وهي مجموعة تفكير مستقلة لحقوق الإنسان: “من الواضح أنه جرت العديد من المحادثات بشأن استبعاد روسيا من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة… وفي هذا الإطار، كان هناك دعم بدرجة معقولة من قِبَل المملكة المتحدة وعدد قليل من دول الاتحاد الأوروبي، ومارست المنظمات غير الحكومية ضغوطاً كبيرة من أجل تعليق عضوية روسيا من المجلس. إن وجود دولة عضو في مجلس حقوق الإنسان تقوم بارتكاب انتهاكات جسيمة ومنهجية لحقوق الإنسان هو بمثابة أمر يدعو للسخرية لأن من شأنه أن يقوض إلى حد كبير مصداقية المجلس”.

ويعتبر أولئك الذين يدافعون عن قرار الاستبعاد بأن عدم اتخاذ هذا القرار من شأنه أن يضع مصداقية المجلس على المحك.

“ما هو الأثر المترتب على تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان؟ هذا الأمر سيكون جيّداً لأنه سيُظهر أن مجلس حقوق الإنسان يدافع عن مبادئه. وأعتقد بصدق أن هذا هو الأمر الوحيد الذي ستأخذه روسيا بعين الاعتبار”.

ولكن القول أسهل من الفعل؛ فعلى الرغم من تصويت الأغلبية الساحقة من أعضاء المجلس لفائدة إنشاء لجنة تحقيق بشأن حالة حقوق الإنسان في أوكرانيا، وهو التحقيق الأكثر صرامة الذي يُجريه المجلس، إلا أن هذا الأمر لا يعني أن تعليق عضوية روسيا سيولّد ذات الزخم.

إن إدانة الغزو الروسي وتعليق عضوية روسيا هما أمران مختلفان؛ فتعليق عضوية روسيا في المجلس يُوجب تصويتاً بأغلبية ثلثي أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقد يبدو الآن أمراً قابلاً للتحقيق، ولكنه، ووفقاً لمصادر دبلوماسية، من غير المرجّح أن يتحقق في الوقت الراهن.

يقول السفير الروسي لدى الأمم المتحدة في جنيف، غينادي غاتيلوف خلال مؤتمر صحفي له: “لن أقول إننا معزولون. نحن هنا مع عدد من البلدان التي تدعم موقفنا. اسمحوا لي أن أذكر الصين والهند وعددا من البلدان الأخرى”. فقط روسيا وإريتريا صوتتا ضد لجنة التحقيق في وضع حقوق الإنسان في أوكرانيا. وامتنعت كل من الصين والهند عن التصويت، وهما من أكبر حلفاء روسيا.

ويزعم غاتيلوف أن العديد من الدول تعرضت لضغوط من الولايات المتحدة وحلفائها، دفعتها لاتخاذ موقفها في دعم أوكرانيا.

ويضيف الدبلوماسي الروسي قائلاً: “ولكن هذا لا يعني أن هذه الدول تتفق كليّا مع سياسات الولايات المتحدة وحلفائها”.

محتويات خارجية

تصاعد الشعور بالامتعاض

أثار الغزو الروسي لأوكرانيا ردود فعل في منظمة التجارة العالمية. ففي 15 مارس الجاري أصدر 14 وفداً، من بينهم وفود الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والمملكة المتحدة واليابان، بياناًرابط خارجي يُدين العدوان العسكري الروسي على أوكرانيا، ويعتبره “انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة”. وتم الاتفاق من قبل الوفود على تعليق وضع الدولة الأولى بالرعاية (اختصارا: MFN) بالنسبة لروسيا، وكذلك تعليق تقدم مساعي روسيا البيضاء للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية. وللعلم، تُعدّ “الدولة الأولى بالرعاية” أحد مبادئ نظام التداول المتعدد الذي يضمن تجارة متساوية لجميع الأعضاء.

في اليوم التالي، ردّت الدبلوماسية الروسية في بلاغٍرابط خارجي لها بالقول: ” تعرب روسيا عن انزعاجها الشديد من التطورات ذات الصلة في منظمة التجارة العالمية، والتي تمهد الطريق لتفكيك كامل للنظام التجاري متعدد الأطراف القائم على احترام القواعد”.

ويتخطى تجميد العلاقات الدبلوماسية المستوى الرسمي؛ فقد تم طرد روسيا من المشاركة في مجموعة التنسيق التابعة لمنظمة التجارة العالمية للدول المتقدمة. ويعتبر كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بأن الحفاظ على القيم الأساسية لمنظمة التجارة العالمية هو أمر بالغ الأهمية، وبالتالي لن تضم هذه المجموعة غير الرسمية في صفوف أعضائها بعد اليوم روسيا.

ووفقاً للمتحدث باسم بعثة الاتحاد الأوروبي لدى منظمة التجارة العالمية، فإن”طرد روسيا من تلك المجموعة ليس بالطبع ذا طبيعة رمزية. ومن الناحية العملية، لا يُوجد تأثير مباشر لهذا الأمر على التجارة. المسألة هنا لا تتعلّق بالرسوم الجمركية. ولكنها مسألة داخلية خاصة بمنظمة التجارة العالمية”، على حد قوله.

مجموعة تنسيق للبلدان المتقدمة

هناك أربع مجموعات إقليمية في منظمة التجارة العالمية: مجموعة أفريقيا، مجموعة أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، ومجموعة آسيا النامية، ومجموعة البلدان المتقدمة. وتقوم مجموعة البلدان المتقدمة بتنسيق ترشيحات أعضاء المجلس ورئيس اللجنة، بما في ذلك تلك التي يتم التناوب عليها سنوياً بين أعضاء البلدان المتقدمة والنامية. يشارك ممثلو المجموعة في اجتماعات الغرفة الخضراء حيث تجري مباحثات بين عدد محدود من الدول يتم خلالها تبادل الآراء بشأن المسائل المطروحة وتقريب وجهات النظر بين الأطراف بغية التوصل إلى اتفاق.

وتتكون هذه المجموعة من 11 وفداً بما في ذلك سويسرا، ولكنها لا تشمل الصين. أما الدول الأعضاء فيها فهي كل من أستراليا وكندا والاتحاد الأوروبي وأيسلندا واليابان وليختنشتاين ونيوزيلندا والنرويج وسويسرا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة. كما كانت روسيا أيضاً دولة عضوة منتسبة.

End of insertion

إضعاف مبدأ دبلوماسية تعددية الأطراف

ولكن البعض يعتقد أن عزل روسيا لن يؤدي إلا إلى إضعاف الأمم المتحدة والمنظمات متعددة الأطراف الأخرى.

ويحلل أندريه ليبيش، الخبير في الحرب الباردة، والأستاذ السابق للتاريخ الدولي والسياسة في معهد الدراسات العليا في جنيف، هذا العزل قائلاً: “إن القيام بوضع الحرب الدائرة في أوكرانيا في منظور عالمي لا يخدم مصالح الغرب على الإطلاق”. ويعتقد ليبيش أن محاولة طرد روسيا من جنيف الدولية لن تحقق أي فوائد للغرب على المدى الطويل، لأن روسيا تلعب دوراً مهماً على الصعيد العالمي.

كما يوضح أن عزل روسيا لن يؤدي إلا إلى إعاقة عمل المنظمات الدولية، وإضعاف مبدأ الدبلوماسية متعددة الأطراف. وفي هذا السياق، يقول إن “انسحاب أعضاء الأمم المتحدة خلال خطاب لافروف كان نهجاً خاطئاً”.

وبالنسبة لمنظمة التجارة العالمية، التي تنظم بعد ثلاثة أشهر المؤتمر الوزاري المزمع عقده في يونيو، والتي بدأت فعلياً تفتقر إلى الزخم السياسي في غياب روسيا، فإن خطوة عزل روسيا ستجعل من الصعب التوصل إلى توافق في أعلى هيئة لصنع القرار.

وقد امتدت إدانة الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا لتشمل اجتماعات المنظمات الدولية الأخرى في جنيف، حتى لو لم تكن هذه المؤسسات ذات صلة مباشرة بتبعات هذا الغزو، أو لم يكن الوضع في أوكرانيا على جدول أعمالها. ففي اجتماع اتفاقية التنوع البيولوجي في المركز الدولي للمؤتمرات في جنيف، والذي بدأ في 14 مارس، حصلت مشاجرة بين ممثلي أوكرانيا ونظرائهم من الروس حول الحرب الدائرة في أوكرانيا. كما ندّدت عدة دول غربية في بياناتها الافتتاحية لاجتماعاتها بالعدوان الروسي على أوكرانيا.

وفي 8 مارس الجاري، قرر مجلس المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية (سيرن)، المكوّن من 23 دولة عضو، دعم الجهات المتعاونة الأوكرانية في النشاط العلمي، وعلّق عضوية روسيا كعضو مراقب، كما أعرب عن عدم رغبته في التعاون مع روسيا في المستقبل.

ماذا يعني مركز “العضو المراقب”؟

تساهم الدول الأعضاء، مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا وسويسرا والمملكة المتحدة، في تمويل التكاليف الرأسمالية والتشغيلية لبرامج المنظمة الأوروبية للأبحاث النوويةرابط خارجي، وتكون ممثّلة في مجلس المنظّمة المسؤول عن اتخاذ جميع القرارات المهمة بشأن المنظمة وأنشطتها. لكن الدول التي ينتمي كل منها إلى المنظمة بصفة عضو مراقب (تشمل كلا من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة واليابان، وكانت تشمل أيضاً قبل تاريخ 8 مارس من العام الحالي روسيا) تمتلك الحق في حضور الجلسات المفتوحة للمجلس، ولكن ليس لديها حق التصويت على القرارات المتّخذة. وتشارك الدول الأعضاء المُنتسبة مثل الهند وباكستان وأوكرانيا في اجتماعات مجلس المنظمة الأوروبية للبحوث النووية وفي أشغال اللجنة المالية ولجنة السياسة العلمية. ويتمتّع مواطنو هذه الدول بإمكانية الحصول على عقود قصيرة الأجل للعمل في منظمة “سيرن”، كما يحق للشركات الصناعية في هذه الدول المشاركة في المناقصات لإبرام عقود عمل مع المنظمة.

End of insertion

ونتيجة للوضع الحالي، يُمكن للعمليات التي تقوم بها المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية أن تتأثر سلبيّاً، ذلك أن السواد الأعظم من العلماء المشاركين في مشاريع “سيرن”رابط خارجي، ومنهم أولئك العاملين على أبحاث أقوى مُسرّع للجُسيمات في العالم، مصادم الهدرونات الكبير  (يُشار إليه اختصارا بـ LHC)، هم من الروس.

في الأثناء، تم تشديد الإجراءات وقد يطرأ بعض التأخير على مشاريع المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية (سيرن). وفي 25 مارس، تم تعليق أو إلغاء مشاركة علماء في مشاريع وفعاليات مشتركة مع روسيا وروسيا البيضاء. حتى الآن، شارك أكثر من ألف ومئة عالم من النساء والرجال يقدُمون من سبعة وعشرين مؤسسة أكاديمية وعلمية روسية في برامج المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية.

وقال متحدث باسم المنظمة لـ SWI swissinfo.ch: “إن التأثير العلمي قيد الدراسة حاليًا وسنهدف على تقليل التداعيات على باحثينا وعلى العلم” عموما.

التاريخ يُعيد نفسه أم يُكتب من جديد؟

وفي حين أنه من السابق لأوانه تقييم تأثير الحرب على مؤسسات الأمم المتحدة، فإن التوترات تذكرنا بما حدث قبل الحرب العالمية الثانية؛ ففي ثلاثينيات القرن العشرين، ومع غزو اليابان لمنشوريا والغزوات التي قامت بها ألمانيا النازية وإيطاليا في عهد موسوليني، وغزو فنلندا من قبل الاتحاد السوفياتي، انسحبت أو طُردت بعض الدول الأعضاء التي تمّ عزلها دبلوماسيّاً من عُصبة الأمم في جنيف، وهي المنظمة التي سبقت الأمم المتحدة.

في 14 ديسمبر 1939، أطردت عُصبة الأمم الاتحاد السوفياتي ردًا على غزو القوات السوفياتية لفنلندا المجاورة في 30 نوفمبر من نفس العام. ©United Nations Archives at Geneva

ومع عدم قدرة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة على اتخاذ الاجراءات الآيلة لوقف الحرب في أوكرانيا أو حتى فرض وقف لإطلاق النار، بسبب الفيتو الروسي، يبدو أن الأمم المتحدة قد فشلت في تحقيق هدفها المتمثل في الحفاظ على السلام الدولي. لقد فرض الغرب عقوبات اقتصادية قاسية على روسيا لكن ذلك، لم يردعها حتى الآن، عن مواصلة الحرب. أما المناخ السياسي العالمي فيشهد توتّراً يذكّرنا بالتوتر الذي كان قائماً قبل قرن تقريباً.

ويقول ليبيش الخبير في الحرب الباردة: “إن القوى التي تُمارس حق النقض داخل مجلس الأمن الدولي لن تتخلى عن حقها هذا في الأمم المتحدة. ونحن ما زلنا عالقين في براثن نتائج الحرب العالمية الثانية. لقد مضى أكثر من سبعين عاماً على نهاية الحرب العالمية الثانية، لكننا ما زلنا نعيش كما لو كنا في أعقاب تلك الحرب”.

ويضيف “لقد لعب الاتحاد السوفياتي دوراً مهماً في الأمم المتحدة في جنيف، مما مهّد لانتهاء الحرب الباردة. أعتقد أن الحرب في أوكرانيا لا يمكن أن تنتهي إلا بالتفاوض بين أوكرانيا وروسيا”.

مقالات مُدرجة في هذا المحتوى

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد:

انشر الموضوع