مارس 28, 2024

هناك أدلة على انحسار ظاهرة المناطق المحررة بطريقة تهدد وجودها؛ منذ منتصف 2013 تسير ديناميكية الصراع بشكل ثابت نحو القضاءعلى الجيوب لصالح مناطق النفوذ الأكبر المحيطة بها، ليصبح الصراع على  حواف هذه المناطق إلى أن تستقر، وليس ضمنها كما كان في السابق وبشكل أقل الآن، ولعل ذلك يرجع إلى عاملين، الأول: خروج بعض المناطق من مفهوم المناطق المحررة الذي عبر عنه سياسياً ائتلاف قوى المعارضة والثورة، حيث يخرج عن هذا المفهوم المناطق التي آلت إلى سيطرة داعش أو قوات سوريا الديمقراطية، والثاني: أن الداعمين عدموا الجدوى من الإمساك بالمناطق الذي تزداد كلفته على حساب تراجع القيمة السياسية للسيطرة على الأرض بعد الدمار الهائل الذي سببته سنوات طويلة من الصراع، فضلاً عن كون التهديد بخسارة الأرضي لا يأتي من قبل النظام وحسب بل من داعش التي لا تقبل بالتداول السياسي؛ إلى جانب عدم قدرة المسار السياسي على وضع حد للأزمة السورية، وهذا يعني أن تحولات جذرية ستغير من طبيعة وأهداف الصراع.

إذا استفاد النظام من ظاهرة انحسار المناطق المحررة لصالحه سيطرأ تغيراً في الشرعية بتلك المناطق، حيث تنتقل من الرموز التي تمثل حماية الأرض والنضال (قادة الفصائل المحلية، والمليشيات) إلى الرموز التي تمثل إعادة تأهيل البنى الفوقية والتحتية في المجتمع وتدوير عجلة الاقتصاد وتوفير الخدمات. أما في المناطق الحدودية التي بدأت تتخذ شكل كنتونات ستبقى القوى العسكرية المسيطرة الفاعل الأساسي إلى أن تثبت خطوط الجبهات ويتوقف إطلاق النار. 

استعادة النظام للأراضي المحررة سيغير التوجهات المحلية والعالمية من سياسة ” دعم الصمود” إلى سياسة “تمكين المجتمعات المحلية” في المناطق التي استعاد السيطرة عليها ، وقد يعني ذلك نشاطاً متزايداً للمنظمات الدولية في مناطق سيطرة النظام، دون أن يؤدي ذلك إلى اعتراف بشرعية نظام الأسد ودون أن الحاجة لنقل السلطة ، تكاثر المنصات السياسية “المعارضة ” وتطعيمها بشخصيات تنتمي إلى الفصائل المقاتلة لن تبقيها على خارطة الفاعلين طويلاً وهذا ما يزيد الإلحاح لإعادة النظر بالمقاربة الدولية والقرارات الأممية ذات الصلة في تنظيم المسار السياسي.

طبيعة الصراع في سوريا تحتم بدء عملية سياسية لا تكتفي بفكرة محاصصة بقايا الدولة بل تعيد إنتاجها وإلا فإن العواقب لن تكون في صالح أي من الأطراف ولن تحقق أية أهداف مرجوة حتى وإن انتصرت أطراف على أخرى انتصاراً واضحاً؛ ألم الانتكاسة الناتج عن استعادة سيطرة النظام على المناطق التي ثارت عليه ومآلات ذلك، يدفع المجتمعات المحلية إلى مراجعة الأولويات والتصورات التي انطلقوا منها لتحقيق آمالهم، لا تزال المجتمعات المحلية تخشى على أمنها وأن يؤدي عدم النجاح في إنجاز تغيير سياسي إلى سوقهم للخدمة العسكرية وإلى استمرار تركز السلطة والمال في نخبة النظام الضيقة، أما أولوية النظام لاتزال متمثلة بإستعادة فرض سيطرته على كامل الجغرافية السورية لا سيما التي تتركز فيها موارد النفط والغاز.

الأمر الذي يفرض عليه تحديات تحشيد المقاتلين وتوفير الحد الأدنى من الخدمات في المناطق التي لم تخرج عن سيطرته وفي المناطق التي أعاد السيطرة عليها. يضيف انحسار المناطق المحررة على النظام أعباء إضافية مثل الحاجة إلى تجنيد المقاتلين في المناطق التي أعاد السيطرة عليها في صفوفه وترميم البنى التحتية من أجل تدوير عجلة الاقتصاد التي دمرها الصراع، وفي هذا السياق يعاني النظام من كون إعادة سيطرته على مناطق جديدة يحتم عليه زيادة الاعتماد على دعم الحلفاء الذين يداولون دعمهم بشروط إقتصادية وسياسية مرهقة في ظل واقع تتراجع فيه قدرته على توفير الخدمات لاسيما بعد خسارته لموارد الطاقة وخروج محطات توليد الكهرباء عن الخدمة بسبب الحظر المفروض عليه. يواجه النظام واقع تنامي تعداد المليشيات الموالية لإيران، ومن تغلغل النفوذ الإيراني والروسي في مفاصل المؤسسات الأمنية والعسكرية، ولم تفلح محاولات النظام في ترميم النقص الذي أصاب جيشه ومليشياته بسبب الرفض الشعبي للتجنيد لا سيما في المناطق التي أعاد السيطرة عليها مؤخراً، الأمر الذي يضيف مخطرة جديدة تواجهه تتمثل في تراجع قدرته على ضبط التدخل الإيراني. تزيد السياسات القمعية للنظام مثل القتل الممنهج واستخدام العنف المفرط والتعذيب بالمعتقلات من أزمة الثقة بينه وبين الشعب وبينه وبين الدول التي يسعى إلى كسب دعمها وتأييدها، لا سيما أن تعطل مسار العملية السياسية يعطل معه التوصل لآليات مقبولة لتحقيق العدالة.

دلت شواهد كثيرة على أن انحسار ظاهرة المناطق المحررة يغير من قواعد العمل ويؤدي إلى إقصاء فاعلين لصالح فاعلين آخرين، من الملاحظ أن دول الجوار حددت نطاق تدخلها بالحفاظ على عمقها الاستراتيجي داخل المناطق السورية، وعمدت إلى تقليص فاعلية القوى الأخرى، مع تراجع ملحوظ باهتمامها بالمسار السياسي وقضايا انتقال السلطة؛ يضيق ذلك من فرص التدخل أمام المنظمات الدولية والعالمية لا سيما تلك التي تحمل أجندات لدعم البنيات المحلية الناشئة ودعم” المعارضة السياسية”. أما في المناطق التي يسيطر عليها النظام أصبح الاستقطاب شديداً بين النظام وحلفائه (روسيا، إيران، المليشيات الشيعية). أدت هذه القواعد إلى اقتراب الجغرافية السورية من الانتقال من ظاهرة المناطق المحررة إلى ظاهرة الكنتونات الناشئة لا سيما أن القواعد في هذه المرحلة آخذة في التركيز على تثبيت خطوط الجبهات وتحديد مناطق النفوذ ووقف إطلاق النار، وهذا يعني التخلي عن الجيوب. ففي المناطق التي تكون أكبر من جيب وأصغر من كنتون مثل الغوطة الشرقية تمثل ثنائية (حاجز – نفق) صفقة النخبة بين النظام والفصائل المحلية لوضع القواعد وتنظيم العلاقات، ريثما يحسم أمرها.

انشر الموضوع


اشترك بالإعلام الفوري بالاخبار الجديدة بالإيميل .. ضع بريدك