مايو 11, 2024

عبد المجيد عقيل: كلنا شركاء
عندما ضرب جورج بوش الابن أفغانستان في إطار اجتثاث تنظيم القاعدة والحرب على الإرهاب، كانت غالبية الشعب السوري لا تتقبَّل تنظيم القاعدة وتعتبره متطرفاً وإرهابياً، ولكن الرأي السائد في سوريا كان أن أمريكا هي الشيطان الأكبر في العالم، وأنَّ حربها على الإرهاب هي ذريعة لتحقيق مصالحها، وأنها مستفيدة من الإرهاب ومساهمة في نشوئه أو تقويته وانتشاره. ما سوف أطلبه من القارئ وتحديداً الذي كان يجلس أمام التلفزيون سنة 2002 ويردد الكلام السابق هو طلب بسيط جداً: أرجو أن تسحبَ ما كنت تقوله عن أمريكا على نظام الأسد اليوم وتحلل الأمور بنفس المنطق!
ولأنَّ دعاية النظام الأساسية التي يعتمدها من أجل الحفاظ على بقائه هي تنصيب نفسه بديلاً وحيداً بحكم الأمر الواقع عن الإرهاب، ولأن جوهر استراتيجية النظام منذ بداية الحراك الشعبي كان يتمثل في إسقاط مانشيتة (الثورة على نظام القمع والاستبداد) واعتماد مانشيتة (الدفاع عن الوطن في مواجهة الإرهاب) كتوصيف رئيسي لما يحصل في سوريا أمام الرأي العام المحلي والعالمي على حدٍّ سواء.
ولأنه نجح في تصوير الأمر كذلك، وساقَ الظروف بالفعل في السنوات القليلة الماضية باتجاه أن يصبح الواقع مُصادِقاً لدعايته، ما هذا المقال إلا محاولة متواضعة مني لتسليط الضوء على عشر نقاط تؤكد أنه لا يمكن على الإطلاق لهذا النظام أن يفرض نفسه بديلاً عن الإرهاب أو حلاً للقضاء عليه، بل وعلى العكس تماماً وجوده اليوم لا يتجزأ عن وجود الإرهاب واستمراره واستعاره.
1) لا يمكنك أن تقصف المدنيين بالسلاح الثقيل لخمس سنوات كاملة، وتضربهم بالطيران والبراميل المتفجرة، وتقصف المدارس، وتقتل الأطفال، ومن ثم تدَّعي أنك تحارب الإرهاب، لأن ما سبق ذكره هو بحد ذاته يندرج تحت بند “إرهاب دولة state terrorism” حتى لو كان هذا المصطلح هو توصيف للواقع أكثر من كونه يندرج عنه عواقب حقيقية في السياسة الدولية.
2) عندما يقوم طيران النظام والطيران الروسي بقصف أحياء حلب الشرقية قصفاً وحشياً أهوجاً وأرعناً، وعندما يتساقط الشهداء من المدنيين كل يوم بما في ذلك النساء والأطفال، وعندما ترزح هذه الأحياء تحت حصار خانق، ووضع إنساني مأساوي، فإنَّ كل هذا يدفع الناس دفعاً للتطرف والجنون، ومن الطبيعي أن يهلل هؤلاء الناس لجبهة النصرة والحزب الإسلامي التركستاني وغيرها من المجموعات المتطرفة ليس انتماءاً لعقيدتها، بل لأن النظام رماهم رمياً في أحضان هذه المجموعات، وهو من جعل الناس ينظرون إليهم على أنهم المخلِّص الوحيد القادر على فك الحصار عنهم.
3) أصبحت النسبة الأكبر من أهل أحياء حلب الغربية على قناعة تامة بأن كل ما قام به النظام في السنوات الماضية من إجرام بحق الأحياء الشرقية لم يصب في خانة الدفاع عنهم وحمايتهم من الإرهاب، بل على العكس تماماً كانوا هم دائماً من يدفعون الثمن من القذائف العشوائية وجرات الغاز التي كانت تتساقط على أحيائهم، واليوم وبعد المعارك الأخيرة أصبحوا يدركون جيداً أن النظام غير قادر على حمايتهم، بل كل ما هو قادر عليه هو تحريض الناس على بعضهم البعض مناطقياً والتسبب في المزيد من القتل والمعاناة حتى للموالين له والمناطق الخاضعة لسيطرته، لكي يستمر في تقديم نفسه أمامهم على أنه أهون الشرين!
4) عندما ترتكز دعاية النظام على أنَّ ما يحاربه هو ليس جزءاً من شعبه، بل ميليشيات وفصائل جهادية متطرفة وإرهابية جاءت لتطبيق الخلافة الإسلامية وتصفية الطوائف الأخرى، ومن ثم يأتي ليضع على خط النار في مواجهتها ميليشيات جهادية متطرفة شيعية لا يخفي مشايخها ولا قنواتها الإعلامية التجييش الطائفي المرعب الذي يعتمدونه في التعبئة للمعارك، وأذكر على سبيل المثال لا الحصر أغنية “حلب شيعية” التي بثتها قناة النجباء العراقية والتي لها فصائل مقاتلة في سوريا في طليعة القوات المحاربة لجانب النظام، والكثير من الفيديوهات المنتشرة لمقاتلي تلك الفصائل في سوريا تصب الزيت على الجحيم الطائفي المستعر في البلاد. فإنَّ كل ذلك كفيل ليس فقط بأن يخجل النظام من نفسه ودعايته بمحاربة الإرهاب، بل وأن نوجه إصبع الإتهام له مباشرةً في القذف بسوريا وشعبها والمنطقة بأسرها نحو هولوكوست طائفي و”مرج دابق” جديدة قد تنتشر نارها على نطاق أكبر بكثير مما يتخيل أشد المتشائمين.
5) في الوقت الذي كان يطلق فيه بشار الأسد مراسيم العفو بحق المجرمين واللصوص وقطاعي الطرق ليسلطهم على رقاب الناس ويمارسوا البلطجة والتشبيح، كانت أعداد معتقلي الرأي في تزايد مستمر، كما أن تاريخ النظام حافل بمطاردة واعتقال واغتيال المفكرين والعقول وأحرار الرأي. كما ويعلم جميع السوريين ما مارسه النظام بحق المعارضة العلمانية واليسارية التي ملأت معتقلاته، فقد جاهد دائماً ليكون عدوه العلني الوحيد هم الإخوان المسلمون ليخير الناس بينه وبينهم، وجاهد للوصول إلى يوم يقول فيه للناس: إما أنا وإما التطرف الديني، أو إما أنا وإما الإرهاب!
إنه من البديهيات أن من يعتقل صوت العقل هو المسؤول الأول عن انفلات جماح الغرائز!
6) ورغم أني شخصياً قضيت سنوات أقرأ وأكتب في نقد عقلية التطرف الديني، وأدرك تماماً أننا بحاجة لمعالجة هذه العقلية وتفكيكها بالإشارة إلى مواضع الغلط، والخوض بجرأة في كل ما يقال على منابر المساجد، وفي الأزمة الفقهية الحادة التي يعيشها العالم الإسلامي، إلا إنَّ هذا ليس سوى نصف الحقيقة، ونصفها الآخر أن التطرف الديني أو غير الديني يترعرع وينمو ويكبر وينتشر في الأوساط التي يسود فيها الظلم والجهل والفساد والفقر والبؤس والقمع وغياب العدالة الاجتماعية. الظلم والغبن والقهر هو ما يجعل نظرة الإنسان للحياة كلها بما فيها نظرته وفهمه للدين تتحول من نظرة رحماوية تسامحية إلى نظرة ضيقة حاقدة. دولة العدالة والمساواة والقانون هي التي تحل هذه المشكلة وليس المزيد من القمع والفاشية! فالظلم هو أصل الشرور وأبو كل الشرور!
7) يفتخر النظام كثيراً بنموذج “الإسلام الشامي” الذي ساهم في إنتاجه واختار الشيخ البوطي رحمه الله وغفر له كعراب له، فالشيخ البوطي مبدئي حقيقةً فهو ينتمي للمدرسة الأشعرية التي تُعلي للغاية مفهوم “طاعة الحاكم” ويرتكز جزء كبير من الفقه الخاص بها على فكرة عدم الخروج عن الحاكم ولو كان ظالماً ولو جلد ظهرك وأخذ مالك. فقد كانت استراتيجية النظام هي تصنيع “إسلام درويش خانع مهادن” وليس إسلاماً تنويرياً عصرياً عقلانياً متمرس فقهياً للتصدي للطروحات التكفيرية المتطرفة، فالتنوير يعني تحرير العقل من كل صنم، ويعني رفع قيمة الحرية كقيمة مقدسة، فالحرية كل واحد لا يتجزأ، لكن أية موجة تحرر أو تنوير أو ثورة وعي في البلاد دينية كانت أو غير دينية تشكل تهديداً وجودياً حقيقياً لنظام القمع والاستبداد وتهدد بانهيار أركانه.
وعندما نتحدث عن داعش نعود لنتتبعها إلى بداياتها ونواتها الأولى في العراق ممثلةً بخلية التوحيد والجهاد التي كان يرأسها في ذلك الوقت أبو مصعب الزرقاوي، وقد كانت المخابرات السورية ترفدها بالمقاتلين من المساجين واللاجئين العراقيين في سوريا بعد تأهيلهم وتدريبهم، وكانت لذلك عدة أسباب طبعاً منها إغراق الأمريكي في المستنقع العراقي لثنيه عن متابعة طريقه إلى سوريا كما كان رائجاً في تلك الأيام، ومنها أن تبقى هذه الجماعة مخترقة من قبل المخابرات السورية لاستثمارها لصالحه عندما يتطلب الأمر…!
9) دعونا نتساءل لماذا لم يضرب الإرهاب سوريا قبل سنة 2011؟ لو كان ما يحصل في سوريا كما يشيع النظام هو حرب مجردة على الإرهاب، فإن هذا الإرهاب كان يجب أن يدخل بشكل مجرد وفي سياق منفصل عن الحدث السياسي الذي بدأ بعد انطلاق الحراك الشعبي، لكن سلوك النظام والحل الأمني والعسكري الوحشي هو الذي فتح الأبواب للإرهاب وخلَّق الظروف الملائمة له. بالتأكيد ليس النظام هو المسؤول الوحيد هنا، لكن من كان يطرح نفسه على الناس من موقع (أنا ربكم الأعلى) وينصب نفسه وصياً عليهم وعلى كلامهم وآرائهم وإعلامهم وتعليمهم وأفكارهم طيلة نصف قرن من الزمان يتحمل حكماً القسم الأعظم من الكارثة التي وصلت إليها البلاد.
10) النظام لم يُرسِّخ مفهوم الوطن، أبداً وإطلاقاً، بل هو رسخ مفهوم المزرعة وكرَّس الاستبداد والشمولية واحتكار الحكم ومقدرات البلد باسم الوطن، فوجود الوطن يشترط المواطنة والمساواة وسيادة القانون، وليس أن تكون قيمة المواطن مرهونة برضى المخابرات عنه ومدى قربه من السلطة وتزلفه لها، وإنَّ ما بُني على خطأ لا يمكن أن ينصلح وبالتالي لا يمكن أ، يستمر، وإنَّ النظام باغتياله لمفهوم الوطن من خلال تماهيه معه مسؤول وبشكل كبير جداً عن كل ما يجري اليوم من تفوق أصحاب المشاريع الجهادية على أصحاب المشروع الوطني الثوري.
إن كل سبب من الأسباب العشرة التي ذكرتها يصلح بحد ذاته ليكون محور بحث ودراسة، وآمل أن يكون ما كتبت مدخلاً ليقتنع الكثير من الناس بكذب وزيف دعاية النظام في كونه الحل وحبل النجاة لسوريا من الإرهاب، فنظام الأسد والإرهاب كُلَّان لا ينفصلان. يستمد كُلُّ منهما وجوده من وجود الآخر ويقوى كُلٌّ منهما بالآخر. والشعب السوري هو الضحية.



المصدر: عبد المجيد عقيل: عشرة أسباب تُكِّذب دعاية النظام في طرح نفسه بديلاً عن الإرهاب

انشر الموضوع