مايو 15, 2024

د. يحيى العريضي: كلنا شركاء
“السوريون مختلفون” عبارة قالها أحد كبار القلوب والعقول بعد الإنفصال في بداية الستينيات من القرن المنصرم. وقتها- رغم الألم-  لم يكن وجودهم أو بقاؤهم بالميزان، كما هو اليوم. اليوم، آخر هموم العالم حياتهم وحياة بلدهم. اليوم السوريون مختلفون قي كل شيء، وعلى كل شيء، وحول كل شيء. لن أتعمق في بحث الأسباب ؛ لأن ذلك سيعمق ويعقد ما يمكن أن يتم ترميمه من اجل عودتهم وعودة بلدهم إلى الحياة. سأنظر في أوجه الإختلاف ، في مواضيعه، في زوايا الرؤية؛ وفي البحث عن طرق للحد أو التخفيف من الفجوات بينهم.
هناك الخلاف الكلّي في مواضع والنسبي تجاه أخرى؛ وهناك قضايا لا خلاف عليها بينهم، كيفما وأينما كانت أو تموضعت زاويا رؤيتهم. أرى أنه إذا جعلنا من الصنف الثالث( أي النقاط التي لا خلاف عليها) أهدافاً لا بد من تعزيزها والبناء عليها؛ ومن النقاط التي عليها اختلاف نسبي قضايا لا بد من التركيز عليها بحثاً وتفكيراً وتمحيصاً لإجلاء غيومها وكدرها وتدرناتها المصطنعة؛ ومن تأجيل نقاط الخلاف الكلي إلى لحظة قوة السوري وتسلحه بمزيد من نقاط التفاهم ، نكون قد ساهمنا بعودتنا جميعاً وبلدنا إلى الحياة.
لا يختلف سوريان على أن لا قيمة للإنسان بلا كرامة، وأن الوطن جزء أساسي من كرامة الإنسان؛ وأن سجن السوري ليس وطناً ولا المقبرة وطناً ولا تركيا أو لبنان أو الأردن أو أوروبا وطناً للسوري. ما من سوري يريد أن يرى مَن يتحكم بقرار الموت والحياة والسيادة في سوريا سعودي أو إيراني أو قطري أو أفغاني أو أمريكي أو روسي أو لبناني أو عراقي أو أوربي. وبالتأكيد- حتى الموالون للعظم لبشار الأسد- لا يريدون أن يكون سيدهم ومن حوله مجرموا حرب يُساقون إلى المحاكم الدولية لأنهم رأوا ان بقاءهم يستلزم إلغاء الآخر. ليس هناك من سوري لا يتمنى أن يتحرك بحرية وأمان في كل بقعة من أرض سوريا.
يختلف السوريون في موقفهم تجاه الخارجي الذي تدخل في سورية؛ تتناقض سردياتهم تجاه الآخر تناقضاً مطلقاً: بعضهم يرى في تدخل “حزب الله” مهمة مقدسة كجزء من /المقاومة والممانعة/ للوقوف في وجه “المؤامرة الصهيونية التركية الأمريكية الخليجية” التي تستهدف النظام المقاوم والممانع وظهير المقاومة التي تقف في وجه إسرائيل؛ وهذا الفريق يرى في التدخل الإيراني والروسي الهدف ذاته. وفي الضفة الأخرى هناك من يرى أن كل تلك التدخلات لحزب الله وإيران وروسيا كانت من اجل الحفاظ على نظام قاتل مستبد لا يقبل أن يقول له أي مواطن سوري “لا”.
يختلف السوريون وينقسموا إلى ضفتين متناقضتين تجاه معالجة ما حدث وأسبابه وطرق معالجته. لا أحد في ضفة النظام ومع سرديته يقبل بأن النهج العنفي الذي اختطه النظام لنفسه في ردع وقمع الحراك السوري السلمي في أوله لم يكن مناسباً ولم يكن مبرمجاً لأن النظام في عقيدته الأساسية مبني على المواجهة الدموية مع أي تحدٍ داخلي يواجهه. ولا أحد من هؤلاء يقبل بأنه لم يكن هناك مؤامرة سعودية-تركية صهيونية – أمريكية على ضرب سورية. عندما كثّف النظام حال من يقاومه بمقولة “الإرهاب” وساق بها لتلتقي مع الهاجس العالمي من الإرهاب، اشترى هؤلاء المقولة وساقوا بها وكأنها منزّلة. كان ذلك بالنسبة لهم وصفة إعجازية سحرية، دفعت العالم للاختيار بين نظام سيدهم والإرهاب. تلك المواقف وتلك السرديات أضحت صخوراً متكلسة يصعب تفكيكها. إن ركز السوريون على الخوض في هذه المسائل، لن يصلوا إلى أية حلول داخلية؛ بل سيزداد الشرخ وستكون شرذمة بلدهم تتم بيدهم لا بيد أحد.
من هنا لا بد من الارتحال قليلاً نحو ضفة الآخر. هناك من هم بين الضفتين؛ احياناً يُطلق عليهم صفة الرماديين؛ لا ينجو هؤلاء من تقريع سكان الضفتين. من هنا لا بد بعد محاولة اقتراب الضفاف من بعضها البعض من أن يتم التركيز على ما لا خلاف عليه. لا يأتينا الروس محتلين، لو لم يكن هناك إرادة ما عند صاحب البقاء على كرسي الدم حتى لو زالت سوريا؛ وهذا لا مصلحة لأحد به. ولا يتراخى الأمريكيون الطامعون بإضعاف بلدنا من أجل إسرائيل مع الروس، لو لم يكونوا على ثقة بأن الروس سيقومون بما يتمنى الأمريكيون أنفسهم القيام به لو لم يتبرع الروس لأغراضهم وغاياتهم القيام به. وما إيران مغرمة بأمننا والحفاظ على أرواحنا امام مطامحها بنشر أفكار الثورة الإسلامية. ولا تركيا مغرمة تاريخياً بالسوريين لتقف هذا الموقف، فهاجسها الكردي فوق كل اعتبار لحياة أي سوري. وما الدول العربية –الخليجية تحديدا أو الأردن بذاك الإيثار تجاه حياة سوريا وأهلها لتقف هذه المواقف منّا؛ كان هاجسها إعطاء دروساً لشعوبها وجعلنا ممثلة يُتَّعضُ بها. ما معنى تلك الحنيَّة الإسرائيلية على جرحى الثوار ليأتي نتنياهو ويعودهم في مشافي إسرائيلية أُسعفوا إليها؟ هل فكرنا بكم كان فاعلاً بالنسبة لإسرائيل ذلك الشعار الوحشي الذي أطلقه النظام: ” أحكمها أو أدمرها”؟ من هو الأسد ليكون “هو” أو “سوريا”؟ هل فكر من هم على ضفته بانه من المستحيل ان يكون إنسان أغلى من ثلاثة وعشرين مليون إنسان وبلد بظهرهم؟ متى كانت ثلة لا يتجاوز عددها المئة معضمها قاصر معرفياً وحتى أخلاقياً لتنطق باسم مَن نشدوا الحرية ووقف الاستبداد والدكتاتورية؟! كما التونسي أو الليبي أو أي قاعدي أتى ليقيم مملكة الله في سوريا لا مكان له فيها؛ لا مكان لميليشيات حزب الله وإيران وطائرات بوتين التي تدمر مدارسنا ومشافينا.
لا منطقة رمادية في سوريا، ولا محايدة تجاه القتل والدمار من أي جهة كانت، وخاصة من طائرات ومدافع وصواريخ دفع السوريون دمهم ودموعهم لشرائها لاسترداد حقوقهم المغتصبة من قبل إسرائيل. لا يحق لنظام أن يوقع على صك استسلام لبوتين كي يبقى في السلطة. بوتين لن ينجي النظام ولا الموالاة، ونلاحظ أن مجرد انحسار تغطيته الجوية يكون الاندحار والهزيمة أمام الآلة الحربية الأخرى. السوري الذي تهمه كرامته ووطنه وعودتهم إلى الحياة لا يريد كل هؤلاء.
السوريون مختلفون؛ صح، ولكن لا بد لما يجمعهم ولعقولهم أن تكون أقوى مما يفرقهم. لو كان بشار الأسد ومن يختبئ في ظلاله قابلين للبقاء بعد كل ما حدث ليبقوا، ولو كانوا إلا استمراراً للنزف السوري ليبقوا، ولو كانوا إلا مصدراً لعار أبدي ليبقوا، ولو كان هاجسهم إلا البقاء حتى ولو عم الدمار (شعارهم يروي الحقيقة: “نحن او الدمار”) ليبقوا.
بقدر خلافاتهم وتباعدهم وبقدر الدم والدمار ، السوريون يمتلكون من الصفح والسماح والقدرة على التفكير بسمو أمام الهدف الأكبر {عودة سوريا وأهلها إلى الحياة الكريمة} ليقولوا كلمتهم، وليوقفوا كل قول.
اقرأ:
د. يحيى العريضي: الطحّان والكلاّس
د. يحيى العريضي:الحقائق مخاليق عنيدة لا بد من مواجهتها



المصدر: د. يحيى العريضي: السوريون مختلفون…. كفى!

انشر الموضوع