مايو 3, 2024

د. موسى الزعبي: كلنا شركاء
تعرف حقائق الأمور والأشياء بأضدادها، فتوصيف موضوعي واستقراء واقعي لتشريع ثلاث دول بالعالم تعرف أنها دول ذات مرجعية دينية، وانعكاس ذلك على السلم العالمي والاجتماعي والتطرف والإرهاب، بمقارنة مرجعية كل من إسرائيل (مع تحفظنا على لفظة دولة)، وإيران، والمملكة العربية السعودية، وهنا نصف مرجعية الحكم والمجتمع، وليس الأنظمة وشخوصها وأدواتها وسياستها الخارجية.
فإسرائيل تستند بنظام حكمها على شرعية التلمود والعرق السامي بالتمييز العنصري والعرقي بأن اليهود شعب الله المختار، وبقية الشعوب خَدما لهم، وفلسطين ملكهم، وأرض الميعاد لهم؛ لذلك أقاموا كيانهم بتهجير شعب آمن واحتلال أرضه، واحضار اليهود حول العالم للإقامة على أرضها، علاوة على دعاية الهولوكوست والمظلومية ، وكله بناء على معتقدات دينية راسخة بشرعيتهم، ويعلمونها لطلابها وأطفالهم منذ نعومة أظفارهم، وما يرشح حول عنصريتهم تجاه عرب 48 غيض من فيض.
أما إيران ونظام الملالي فهم ليسوا بعيدين بشرعيتهم عن مظلومية الهولوكوست لدى اليهود بادعاء النسب لآل البيت ومظلومية الحسين الذي تخلى عنه شيعته كما تخلى اليهود عن أنبيائهم وقتلوهم، وذلك لأخذ الشرعية بالمطالبة بدم الحسين سبط النبي لخدع واستمالة أتباعهم وعوامهم الجهال لتنفيذ مشروعهم بالهلال الشيعي، أو دولة فارس، ويعتمد مخططهم على العنصرية بمقت العرب حتى لو كانوا شيعة كما في شيعة الأحواز العربية المحتلة، إضافة لحقد طائفي أعمى، فإيران قبل ثلاثة قرون كان ثلثاها تقريباً سُنة، والبقية خليط بين شيعة وزرادشتية ومزدكية ومانوية وغيرها، ولكن تم تغيير عقيدة أغلبهم بالقوة بحرق البيوت واضطهاد من لا يغير دينه وملاحقته، حتى أصبح تعداد السنة أقل من الثلث، وبعض الدراسات تشير إلى 8% فقط، ومع ذلك تجد شتى أنواع التمييز ضدهم، فليس مسموحاً لهم بناء حتى مسجد أو تسلّم منصب رفيع، وما حصل بالعراق ويحصل اليوم بسوريا واليمن من تجييش طائفي وعرقي وقتل للأطفال والنساء والأبرياء دون ذنب فقط لمجرد خلاف مذهبي، علاوة على التجييش بالإعلام بقتل السنة أو الوهابية تورية لكي لا يدخلوا بصدام مع الأمة كاملة، ويعلمون أطفالهم على ذلك الحقد، كما يحجون لقم حيث قبر وتمثال أبي لؤلؤة المجوسي، قاتل عمر بن الخطاب، الذي هزم كسرى فأي دين خطر هذا على البشرية جمعاء حيث صلاتهم وتعبدهم هو الدماء والقتل؟
أما المملكة العربية السعودية فتستند شرعية الحكم فيها إلى التشريع الإسلامي، وهي شرعية تمثل روح الشعب والمجتمع وليست مستوردة من الشرق أو الغرب، وهي شرعية تدعو بمبادئها الأساسية لاعتبار البشرية جمعاء مشتركة بالوجود والمصير والتآخي بناء على المشترك الإنساني، وليس التمييز العرقي والطائفي، وأن معيار الأفضلية بين البشر يكون بقدر ما يقدمونه للإنسان والحضارة البشرية من خير بقوله تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ“.
وبالتالي هي دعوة محبة وسلام بين البشر وتكامل للحضارات وليس صراعاً للحضارات، كما ادعى هيغل وهنتغتون، وهي دعوة سبقت عصر التنوير بأوروبا المتمثلة بالثورة الفرنسية، وحرب الاستقلال بأميركا بألف سنة، فمن بالأحرى أن يكون الأصل بالسلام ومن يكون الفرع؟
فبينما كانت أوروبا على موعد بالقرن الثامن عشر مع الثورة الفرنسية التي نادت بالحرية والعدالة والمساواة للتخلص من قيود العصور الوسطى أو عصور الظلام بنظامها الإقطاعي، واستعباد الإنسان ومحاربة العلم، التي بشر فيها كل من فولتير وجاك روسو ولوثر وغيرهم؛ حيث كانت الثورة الفرنسية علامة فارقة بالتاريخ الأوروبي بشعاراتها، ولا تزال فرنسا والغرب عموماً حتى هذا اليوم يتغنون بها وبمفكريها ومصلحيها الاجتماعيين الذين بشروا فيها، فهل ممنوع علينا الاعتزاز بتاريخنا وعلمائنا؟
وبالتزامن مع انطلاق عصر التنوير بعد الثورة الفرنسية بأوروبا كان الشرق على موعد مع مفكرين وعلماء؛ حيث كانت أغلب مناطق شبه الجزيرة العربية تعاني من انتشار الجهل والأمية، وانحراف الفطرة الطبيعية، والخرافات والسحر والشعوذة، وعبادة القبور، وعودة بعض الأخلاق الجاهلية، والسطو على طرق الحج، وغياب الأمن والأمان، فقبائل تأكل قبائل، وقبائل تبقر بطون قبائل، ومن هؤلاء العلماء كان محمد بن عبد الوهاب، الذي قاد ثورة سلمية لم تزهق نفس واحدة فيها على كافة الأصعدة، لتصحيح ما اعترى الجزيرة من وعكة بمجال الدين والأخلاق، مستمداً ذلك من نور التشريع الإسلامي، متبعاً خطوات من سبقوه أمثال ابن تيمية الذي قاد ثورة فكرية وعقدية مماثلة منذ قرابة ثمانية قرون ضد التدهور الأخلاقي والسياسي والديني، الذي سبب الوهن للبلاد الإسلامية والعربية، وجعلها مستباحة للأعداء التتار وغيرهم، فشحذ الهمم ووضع الأمة على المحجة البيضاء، وتمت هزيمة التتار بعين جالوت وعودة الاستقلال والسيادة والحرية السياسية والدينية.
والمطلع على المرجعية الشرعية التي تحكم المجتمع السعودي اليوم يرى هذا التسامح الديني الذي قلما تجد مماثلاً له حتى بالدول المتقدمة، فهناك حوالي عشر ملايين مغترب بالسعودية من جميع الأيديولوجيات والطوائف ينعمون بتعايش سلمي وحرية دينية وحقوق إنسانية كاملة.
وهناك هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي سبقت الفكر الأوروبي بتشكيل الأحزاب المعارضة لنقد الخطأ وتقويمه وإصلاح أي خلل فيه وجعلت ذلك شرطاً لخيرية الأمة وتقدمها بقوله تعالى: “كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ“.
فقانون جاستا هو شماعة للنيل من أي بلد يخرج عن الإملاءات الأميركية وغايته الابتزاز الاقتصادي على المدى القريب، كما صرح ترامب بحملته الانتخابية، ولكن غايته البعيدة والأساسية استهداف التسامح الديني الذي يقوده المجتمع السعودي لمحاربة المرجعية الشرعية لهذه البلاد التي نقلته من المجتمع القبائلي إلى مفهوم الدولة، حسب المعايير الحديثة، فلا يوجد قانون سماوي أو وضعي يجرم بلداً أو نظاماً إذا خرج منه بعض الأشخاص المتطرفين، فلا تزر وازرة وزر أخرى، ولو كان الأمر كذلك فعلينا فتح سجلات الكثير كستالين وماوتسي تونغ الذين قتلوا مائة مليون، والبوسنة والهرسك وإبادة الهنود الحمر بحرب الاستقلال الأميركية وهيروشيما ومجازر اليهود بفلسطين وفضائح الجنود الأميركيين بغوانتانامو وبسجن أبو غريب التي عزتها إدارة بوش لتصرفات فردية وبرأت أميركا منها فكيف لا تعامل غيرها بالمثل؟
فدراسات علماء النفس والاجتماع بالغرب التي تمت بالنصف الثاني من القرن المنصرم تؤكد أن أهم أسباب التطرف والإرهاب هو الظلم والجهل والسيكولوجية الشخصية والدين السطحي، وأن العدل والتعليم والثقافة الصحيحة والفهم الصحيح للدين يحد من انتشار الإرهاب والتطرف، وهذا ما يؤكده الواقع الذي تعيشه الدول التي تقوم على مرجعية مستمدة من روح الأمة والمجتمع، وأن أغلب من ينتمون للتنظيمات الإرهابية وخاصة داعش هم مراهقون يتسمون بالجهل غرر بهم الإعلام المعادي، وخاصة الإيراني؛ حيث عشرات القنوات الإعلامية تحرض على قتل أبناء الخليج ليل نهار فقط لمجرد خلاف بالاعتقاد، مما شكل ردة فعل لهؤلاء الشباب، وعلى أميركا ومنظمات حقوق الإنسان معالجة الأسباب لا الأعراض وذلك بإيقاف بث هذه القنوات، وليس دعم من يقف وراءها كما جاء بتوصيات معهد راند بعد أحداث سبتمبر/أيلول بالانتقال من محاربة الإسلام من الخارج إلى دعم المتطرفين والمنحرفين بداخله وآخرها مؤتمر غروزني.
فالبشرية متساوية بحق الحياة، والخلاف الديني يحكم به الله يوم القيامة، ولا يحق لأحد قتل أي إنسان لمجرد خلاف بالدين كما تفعل إيران وداعش، يقول تعالى: “إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد“.
والمؤسف أن بعض المحسوبين على الكتاب والمثقفين بحسن نية أو جهل يتأثرون بالإعلام ويهاجمون شرعية مجتمعاتهم وأنها سبب بذور الإرهاب، مما جعل الأعداء يزداد تطاولهم على بلادهم مع حملات إعلامية ضد رموز المجتمع، إضافة لغياب الدور الفاعل للعلماء صمام الأمان لهذه المجتمعات وأنظمتها، وذلك بالترويج للفكر الليبرالي ودعمه الذي يتصادم مع شرعية المجتمع السعودي، ولا يؤمن لا بمرجعية دينية ولا اجتماعية ولا بنظام ملكي، ويهدف للعودة للنظام القبلي بعباءة الليبرالية، وبالتالي انهيار مفهوم الدولة الذي أسسته الشريعة، والعودة بالمجتمع لحالة المشاع وما قبل الدولة، وبالتالي الفوضى والاضطرابات والقبلية وتدويل مكة والمدينة بحجة عدم القدرة على سدانتهما، وهنا يظهر واجب النخب الوطنية والعلماء في الدفاع عن شرعية بلادهم والتمسك بها ضد الغزو والدعاية الممنهجة الخارجية، وإقامة الندوات والبرامج التلفزيونية والمناهج الدراسية وغيرها لإنقاذ بلادهم، فكل مجتمع يناسبه شرعية معينة وعقد اجتماعي صريح بين الراعي والرعية، فالمرجعية الشيوعية بالشرق لا تصلح كمرجعية للغرب الليبرالي، وهكذا بالعكس، ولا تصلح أيضاً بدل المرجعية الإسلامية لشبه الجزيرة العربية.
فاستمرار الدولة واستقرارها -حسب ابن خلدون- يستند على أمرين هما الشرعية المستمدة من روح الأمة والشوكة -القوة- وما دامت كفة الشرعية راجحة على كفة القوة بنظام الحكم، فهذه الدول والأنظمة ستبقى إلى أجل غير مسمى، وهذا من السنن الكونية والحتمية التاريخية مهما تآمر أعداء الوطن، ولكن في حال رجحت الكفة لصالح القوة على حساب الشرعية، فإن هذه الأنظمة تزول بأقل من جيل زمني، وهذا ما يسعى له الأعداء بجعل هذه الأنظمة تفقد شرعيتها لتسقط تلقائياً، وذلك باتهام الشرعية أنها سبب الإرهاب والتطرف؛ لذلك يجب زيادة التمسك بالشرعية والذود عنها.
وعلماء النفس والسياسة يدركون أن أهم الأسباب العميقة لثورات الربيع العربي هي فقدان الشرعية لأنظمة هذه الدول والمتمثلة بالحرية الدينية والسياسية، وليس الأسباب الاقتصادية التي عادة تكون فقط شرارة للثورات؛ لذلك لا تزال دول الخليج بخير من الناحية الشرعية، وبالمقابل فإن إيران فقدت شرعيتها مع اندلاع الثورة السورية التي تستند على زيف الحق الإلهي بالحكم ومظلومية الحسين، وما هي إلا بضع سنوات ويسقط نظام ملالي إيران، وكذلك أميركا أيضا فقدت شرعيتها المتمثلة بالليبرالية الديمقراطية التي بشروا بها العالم بعد انهيار جدار برلين وسقوط الشيوعية ونهاية التاريخ بزعمهم، وذلك بسيطرة السياسة الجاكسونية والهاملتونية على حساب السياسة الجفرنسونية من خلال احتلال العراق والسكوت على ما يجري بسوريا اليوم، علاوة على القبول بترشيح شخص عنصري كترامب للرئاسة الذي أسقط ورقة التوت عن الشرعية الأميركية، الأمر الذي ينذر بانهيار أميركا حسب الحتمية التاريخية لصعود وسقوط الدول، ولكن ربما يحتاج ذلك إلى نصف قرن، حسب عمر الحضارات وقوتها.
اقرأ:
د. موسى الزعبي: رسالة هامة إلى أبناء الجالية السورية بالمهجر ….



المصدر: د. موسى الزعبي: (جاستا) يستهدف التسامح الديني الذي تقوده السعودية

انشر الموضوع


اشترك بالإعلام الفوري بالاخبار الجديدة بالإيميل .. ضع بريدك