أبريل 20, 2024

د. محمد عناد سليمان: كلنا شركاء

ترتكزُ اللَّفظة العربيَّة على ركنين أساسيِّن يحدِّدان معناها والمراد منها، وكلُّ منهما يرتبط بالآخر ارتباطًا وثيقًا، إذ لا يُعرف أحدهما إلا بالآخر، وهما:

الأوَّل: أصلُ الوضْع: ويقصدُ به الأصل اللُّغوي الذي اشتقَّت منه اللَّفظة، والذي يدلُّ عليه ائتلاف أحرفها، وقد يكون «الاشتقاق» جاريًا على «القياس» المعروف أو خارجًا عليه.

الثَّاني: الاستعمال: ويقصد به المعنى الذي لصق بها وأصبح من لوازمها، ولا بدَّ أن يرتبطَ بـ«أصل الوضْع» بخيط، سواء أكان جاريًا على «القياس» في الاشتقاق أم خارجًا عليه، والحكَمُ في معرفة معناه: السِّياق الذي يردُ فيه.

وقد نبَّه أهل «اللُّغة» على ذلك، وفصَّلوا فيه تفصيلًا بيِّنًا، وربمَّا عبَّروا عنه بمصطلح «الشُّذوذ»، سواء أكان «الشَّاذ» في «القياس» أم في «الاستعمال»، وذكروا أنواعَه على نحو ما نجده عند «ابن جنِّي» إذ يقول: «ثـمَّ اعلـم من بعـد هـذا أنَّ الكـلام فِي الاطّـراد والشُّـذوذ على أربعـة أضـرب:

-مُطَّـرِد فِي القياس والاستعمال جميعًا، وهذا هو الغاية المطلوبة والمثابة المنـوبـة.

– … ومُطَّرِد فِي القياس شاذّ فِي الاستعمال، وذلك نحو الماضي من: «يَـذَر»، و«يَـدَع».

–  والثَّالث: المُطّرِدُ فِي الاستعمال الشَّاذّ فِي القياس نحو قولهم: «أَخْـَوصَ الرِّمـث».

–  والرَّابع: الشَّاذّ فِي القياس والاستعمال جميعًا»().

ولكي نعرفَ الفرق بين «الوضّْع» و«الاستعمال» لابدَّ من عرض بعض الأمثلة لتكون برهانًا وإعرابًا لهما، وهي:

الأوَّل: «الجَمَل»: ذكر أهلُ اللُّغة أنَّ أصله «الجيم والميم واللام»، وهذه الأحرف الثَّلاثة تدلُّ على أصلين: أحدهما: تجمُّع، وعِظَم الخَلْق. وثانيهما: الْحُسْن. ولو تتبعَّنا جميع «الألفاظ» المشتقَّة من «الأصل» لرأيناها ترجع إليه. وهو المراد من «الوضْع».

ومنه قوله تعالى: ﴿ وقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾()، و«الجُمْلَة» راجعة في معناها إلى الأصل الأوَّل وهو «التَّجمُّع»، ومنه قولنا للشَّيء: أجملتُه، إذا جمعتُه.

ومنه أيضًا «الجَمَل»، وقد سمَّته العرب بهذا الاسم؛ لـ«عظم خلْقِه»، وهو راجع كما نرى إلى الأصل الأوَّل أيضًا، كما نصَّ عليه «ابن فارس» فقال: «ويجوزُ أن يكون الجمَل من هذا؛ لعظم خلقه»«). بل إنَّ «الخليل» نصَّ على أنَّه لا يستحقُّ أن يسمَّى «جملاً» إلا إذا «بزل»().

ولكثرة «استعمالهم» للفظِ «الجمل» بالمعنى المعروف وهو «الدَّابَّة» ذهب ثُلَّة من «المفسِّرين» إليه في تأويل قوله تعالى: ﴿ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ﴾، وهو مذهب كثيرٍ ممَّن شرحوا «الخبر» المنسوب إلى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كما في صحيح «مسلم» برقم «2779».

ولا شكَّ أنَّ الصَّواب جانبهم في فهمهم هذا، وفي تأويلهم لـ«الجمل» في الآية والخبر؛ لأنَّ المراد منه «الحبل الغليظ»، وهو المناسب للسِّياق الذي وردَ فيه، إذ لا علاقة بين «البعير» وبين «سمّ الخياط»، ولا قرينة تجمع بينهما؛ ولا بدَّ من معنى يدلُّ عليه «السِّياق» لتكتملَ الصُّورة البيانيَّة فيها، فكان «الحبل الغليظ» الذي هو من مستلزمات «الخياط»، وهو راجعٌ إلى الأصل الأوَّل من «التجمُّع»، والحبل الغليظ: يلفُّ بعضه بعضًا.

الثَّاني: «الإبل»: ذكرَ أهلُ اللُّغة أنَّ أصلها «الهمزة والباء واللام»، وهي ثلاثة أصول في «الوضْع»، أوَّلُها: الإبل المعروفة، ثانيها: الاجتزاء، وثالثها: الثِّقل والغلبة. وقال «الفرَّاء»: «فلانٌ يؤبِّلُ على فلان إذا كان يكثِّرُ عليه، وتأويله: التَّفخيم والتَّعظيم…ومن ذلك سمِّت الإبل، لعظم خلْقِها»().

ولكثرة استعمال العرب لـ«لإبل» الدالَّة على الدَّابة ذهب جمهور «المفسِّرين» إلى ذلك المعنى أينما وقعت لفظة «الإبل» في «القرآن الكريم»، نحو قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ()، حيث دلَّ السِّياق على أنَّ المراد منه «الدَّابَّة» المعروفة لورودها في مقابلة «البقر».

لكنَّهم ابتعدوا عن «السِّياق» كثيرًا عندما ذهبوا إلى ذلك في قوله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ()، فـ«الإبل» هنا يُراد بها «السَّحاب»؛ لأنَّه يُقابل ثلاث آيات فلكيَّة وهي: «السَّماء»، و«الجبال»، و«الأرض». وهذا المعنى راجع إلى أصل من الأصول الثَّلاثة وهو «الاجتزاء»؛ أي: أنَّها تأتي متقطِّعة متناثرة.

الثَّالث: «النِّساء»: ذكر أهل اللُّغة أنَّ أَصلها: «النُّون والسِّين والهمزة» من «نَسأ»، وهو أصل واحد لا غير وهو «التَّأخير»، وجعله «ابن فارس» في «نسي»، وقال: «وإذا همزَ تغيَّر المعنى إلى تأخير الشَّيء»(). ومنه قولهم: «النَّسيئة»، وقولهم: «النَّسيء: المذق من اللَّبن»(). واستُخدم جمعًا لـ«لمرأة» لما يعرض لهنَّ من تأخُّر الحيض، لذلك قال «الخليل»: «نُسئت المرأة فهي نسءٌ، إذا تأخَّر حيضها»().

وممَّا وردَ من «النِّساء» بمعنى التَّأخير قوله تعالى: ﴿ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ()، والذي يدلُّ عليه أنَّ لفظ «نسائهنَّ» ورد في موضع «التَّأخير» عن كلِّ ما سبق من «الفروع»، فبدأت الآية بـ«البعْل»، وانتهت بـ«النِّساء»، ولما كان المورد مورد «ذكور» دلَّ السَّياق على أنَّ المراد منها «الذُّكور».

وقد يستوحشُ بعض النَّاس من هذا المعنى بحجَّة أنَّ غير مستعمل، إذ لم يعهدوا أنَّ تكون «النِّساء» خارجة عن كونها جمعًا لـ«امرأة»، وهذا راجع إلى ضعف معرفتهم بأصل «الوضْع»، وتغليب «الاستعمال» عليه، ويردُّ عليهم من جهتين:

الأوَّل: أنَّ «الاستعمال» أورد «النّساء» في غير ما عهدوا، إذ جاء للعرق الموجود في الفخذ، وأطلقوا عليه اسم «عرق النَّساء» مفتوحًا بالمدِّ حينًا، وبالقصر حينًا آخر(). كما ورد في «الخبر» المنسوب إلى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه «أحمد» في مسنده برقم: «22400»، فقال: «من سرَّه النَّساءُ في أجله، والزّيادة في الرِّزق، فليصل رحمه».

الثَّاني: أنّ الأصل في «الوضْع» مقدَّم على «الاستعمال»، فلو سألنا عن مفرد «النِّساء»، من حيث «الاشتقاق» لقيل: «النَّسيء»، وهو الذي ذكره تعالى في سورة التَّوبة فقال: ﴿ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ۖ ()، وأمّا مفرده من حيث «الاستعمال» فهو «امرأة»، لذلك قالوا: جمع على غير قياس، أو جمع لا مفردَ له من لفظه.

والعلَّة في كسر «نونِها» هو كثرة الاستعمال، وقد ذكر الكَسر «ابن الأعرابي»، وكثرة الاستعمال من أهم العلَل التي يعتدُّ بها لمعرفة خروج الكلام عن أصوله؛ لأنَّ ما يكثر دورانه على ألسنتهم محكوم بالخفَّة والثِّقل؛ لأنَّ المتكلِّم يروم السُّرعة في كلامه مِمَّا يستدعي منه تخفيف الكلمة، وقد نصَّ سيبويه على أنَّ العرب «مِمَّن يغيِّرون الأكثر في الكلام عن حال نظائره»()، «ويجسرون عليه إذ صار عندهم مخالفًا»()، و«لأنَّ الشَّيء إذا كثر في كلامهم، كان له نحْوٌ ليس لغيره مِمَّا هو مثله»().

وقد أشار ابن جنِّي إلى أنَّ «ما يكثُرُ استعماله مُغيَّر عمَّا يقلُّ استعماله، وإنَّما غُيِّرَ لأمرين: أحدهما المعرفة بموضعه. والآخر الميل إلى تخفيفه»(). فالتَّخفيف مُجريء لهم على التَّغيير وإن أدَّى إلى مخالفة القياس، أو الخروج عن الباب المعمول به. «والتَّغيير إلى ما كثُرَ استعمالُهُ أسرع، وقد يختصُّ الشَّيء بالموضع بما لا يكون في أمثاله»(). والعرب «لما كثر استعمالهم إياه أشدُّ تغييرًا»().

وقد ربط ابن يعيش بين كثرة الاستعمال والتخفيف، وجعل كثرة الاستعمال سببًا لتخفيف اللَّفظ في الكلام، قال: «اعلم أنَّ اللفظ إذا كثر في ألسنتهم واستعمالهم آثروا تخفيفه، وعلى حسب تفاوت الكثرة يتفاوت التَّخفيف»().

وأكَّد هذه العلاقةَ ابنُ الحاجب فقال: «إذا كثر الشَّيء في كلامهم خفَّفوه ليخفَّ على ألسنتهم؛ لأنَّ الكثرة تناسب التَّخفيف»()، وفي موضع آخر يقول: «لِمَا كثُر في الاستعمال شأنٌ في التَّخفيف»()، وإليه ذهب ابن عصفور فقال: «كثرة دور اللَّفظ في الكلام يستدعي التَّخفيف»().

ولَمَّا كانت كثرة الاستعمال توجب التَّخفيف في الكلام، نجدهم قد حذفوا على غير قياس لمجرد الكثرة في الاستعمال؛ لذلك كان «الحذف لكثرة الاستعمال ليس بقياس»()، وقد أكَّد الخليل هذه الحقيقة لَمَّا سأله سيبويه «عن قولهم: «لم أُبَلْ»؟ فقال: هي من باب «بَالَيْتُ» ولكنَّهم لَمَّا أسكنوا اللام حذفوا الألف؛ لأنَّه لا يلتقي ساكنان، وإنَّما فعلوا ذلك في الجزم؛ لأنَّه موضع حذف، فلمَّا حذفوا الياء التي هي من نفس الحرف بعد اللام صارت عندهم كنون «يكون» حين أُسْكَنَتْ، فإسكان اللام هنا بمنزلة حذف النُّون من «يكن»، «وإنَّما فعلوا هذا بهذين حيث كثُرا في كلامهم…وهذا من الشَّواذ وليس مِمَّا يُقاس عليه ويطَّرد»()، وقد أكَّد المبَرِّد أنَّ «الحذف موجود في كلِّ ما كثر استعمالهم إيَّاه»().

والعرب قد تلجأ إلى الشُّذوذ لما كثر استعماله عندهم، فالخفَّة في النُّطق، والكثرة في الكلام مقدَّمة عندهم على أيّ اعتبار آخر، سواء أكانا على القياس المعمول به، أم أدَّيا إلى مخالفته والخروج عنه. وهذا ما أكَّده ابن جنِّي بقوله: «وإن شذَّ الشَّيء في الاستعمال وقوي في القياس، كان استعمال ما كثُر استعماله أوْلَى، وإن لم ينتهِ قياسه إلى ما انتهى إليه استعمالُه»().

من ذلك حذفهم من الفعل ما لا علَّة له إلا كثرة استعمالهم إيَّاه، نحو: «لا أدر» في الوقف، فالأفعال الصَّحيحة «لا يُحذف منها شيء؛ لأنَّها لا تذهب في الوصل في حال»()، لكنَّه ورد عن بعض العرب قوله: «لا أدرِ»، و«ما أدرِ»() في الوقف بحذف الياء على وجه الشُّذوذ؛ «لأنَّه كثر في كلامهم… كما قالوا: «لم يكُ» شبهت النُّون بالياء حيث سكنت»().

فمثل هذا الحذف ونحوه إنَّما دعا إليه كثرة استعمال العرب لها، «وإنَّما كثر استعمالهم هذه الأحرف لحاجتهم إلى معانيها كثيرًا؛ لأنَّ «لا أدر» أصل في الجهالات، و«يكون» عبارة عن الزَّمان، و«لم أُبَل» مستعملة فيما لا يكترث به، وهذه أحوال تكثر فيجب أن تكثر الألفاظ التي يعبَّر بهنَّ عنها، وليس كلُّ ما كثُر استعماله حُذف»()، وهذا «ليس مِمَّا يقاس عليه»().

ومنه قوله تعالى: }وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ{()، وقوله تعالى: }يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ{()، وقوله تعالى: }ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ{()، حذفت الياء فيها وليست فاصلة؛ لأنَّهم جوَّزوا مثل ذلك في الفواصل والقوافي، قال سيبويه: «وجميع ما لا يحذف في الكلام وما يختار فيه ألا يحذف، يُحذف في الفواصل والقوافي»().

فمن الفواصل قوله تعالى: }وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ{()، ومن القوافي قول زهير بن أبي سلمى: [الكامل]

وَأَرَاكَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْـ ـضُ القَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لا يَفْرِ

 

د. محمد عناد سليمان

15 / 6 / 2017م

 

المصدر : كلنا شركاء

انشر الموضوع


اشترك بالإعلام الفوري بالاخبار الجديدة بالإيميل .. ضع بريدك