أبريل 25, 2024

د. محمد حبش: كلنا شركاء
الشيطنة مصطلح منحوت على غير مثال، وأقرب الصرف إليه المهزلة والمسخرة والمفسدة، ومع أنه لا يتصدر لفظ الخطاب السياسي اليوم ولكنه يقع في جوهر بواعثه ويسكن في أصانصه وكوره.
والشيطنة مصطلح يراد به إلباس الآخر الشر المطلق بحيث لا يكون فيه لمعة رجاء ولا شذرة نفع ولا بارقة خير.
وقد قدمت الميثولوجيا تاريخياً مصطلح الشيطان أو الساتان لإلقاء الشر كله على هذا الكائن الناري الهلامي، وهو الكائن الذي تحدث صادق جلال العظم عن غربته وكربته وقدره التعيس، وصار المسكين مصب لعنات الناس وتعليل بؤسهم وفشلهم، وإذا لم تجد حسنة فالعن الشيطان، وقد وافق أن يتحمل لعنات الناس ولكنه لم يقبل أن يتحمل لعنات الله، فراح يحاوره ويناقشه، ويقدم أعذاره وبراهينه، وقد استمع الله اليها بانصات ورغم خطابه الطافح بالتحدي لأضلنهم ولأمنينهم ولأغوينهم أجمعين غير أن الخالق سبحانه لم يشأ أن يلغيه من الوجود، ومنحه حقه الديمقراطي في المعارضة واستجاب دعاءه وعهد إليه بدور مهم، ومكنه أن يجلب على الناس بخيله ورجاله ويشاركهم في الأموال والأولاد ويعدهم وما يعدهم الشيطان الا غروراً.
لم أكتب بالتأكيد للنقاش في أمر تراثي، وأعلم أن قرائي ليسوا مولعين بالصرف واللسانيات، ولكنني أكتب لأذكر بأن واقعنا الاجتماعي والسياسي يدمر نفسه بنفسه بسبب ثقافة الشيطنة.
في ثقافة الشيطنة تكون الضفة الأخرى هي الشر كله، فيما يكون الخير في الضفة التي معيش فيها، والآخرون دوماً أشرار ماكرون، فيما ندافع نحن عن النبالة والطهارة والاستقامة.
في الواقع السوري قام النظام بشيطنة المعارضة، وقامت المعارضة بشيطنة النظام، واقتنع كل فريق بأن الآخر يمثل الشر كله والغدر كله والعار كله والكفر كله، وأصبح اي حوار تهمة وأي لقاء لعنة وأي مائدة تآمر، وتم قتل كل النوايا الطيبة والارادات الواقعية بسيف الشيطنة.
والشيطنة ليست فعلاً لازماً بل هي متعد إلى ما لا نهاية، فقد قام النظام بشيطنة الثورة، وحين التحق بها مئات الآلاف في الساحات العامة تمت شيطنة الجميع واعتبروا مع أطفالهم ونسائهم حاضنة متآمرة للإرهاب، وحين وقف العرب إلى جانب الثوار تمت شيطنة العرب وصار الخليج دار عهر وكفر والجامعة العربية جامعة إسرائيلية وتحولت تركيا التي كانت أوثق الحلفاء ووسيط السلام الى الشيطان الأكبر.
وقامت المعارضة بشيطنة النظام انطلاقاً من رفض ممارسة المخابرات، وعلى الفور انتقلت الشيطنة إلى كل أجهزة الدولة السورية وبالتالي ولاحقاً إلى كل مؤيد للاستقرار ونهاية الحرب، ثم اعتبر كل من يقيم في الداخل أو يفكر بالعودة إليه شيطاناً مارقاً لا تنتظر منه إلا الشر والمكر والغدر.
الشيطنة المتبادلة بين النظام والمعارضة هي أكثر أسباب استمرار الحرب، فلا يمكن أن يكون لدى الشيطان أي حل أو سلام، هكذا يتصور الفريقان، ولا يوجد أي فرصة للنوايا الحسنة، فالآخر شيطان محض، ومن المستحيل أنه يفكر بما هو خير، هو سادي متوحش متعطش للدماء، خائن تافه باع وطنه ودينه، مجرم بالتكوين لا أمل في شفائه، وليس بيننا وبينه إلا حد السيف، ولولا انثلام السيف لم نتجرع كأس السم في الجلوس إليه…
آلاف المقاتلين جاؤوا لنصرة أهل الشام تحت عنوان الشعار المقدس وامعتصماه، وهو شعار رددناه في مدارسنا سنين طويلة ولا نحمل في ذاكرتنا أكثر منه نبلاً وطهراً ومقاصدية، وحين جاء الوامعتصميون إلى سوريا تلقاهم كثير من إخوتنا وجيراننا بالتهليل والترحيب وعاشوا معهم أيامهم الأولى تماماً كما درسوا عن المهاجرين والأنصار، وبسهولة تم إطلاق ألقاب أبي القعقاع وأبي دجانة وأبي بكر وأبي عمر على هؤلاء المحاربين قبل أن ندرك أننا كنا نتورط في مخالفات خطيرة جداً للعقل والمنطق والقانون الدولي والدستور السوري وقبل أن ندرك اننا ندخل إلى بلادنا ألغام موت صاعقة ستنتهي بدمار البلاد والعباد على يد أعتى قوى الحرب وأكثر ترسانات الموت وحشية ودموية.
لا يختلف الأمر عند الموالين فالشيطنة التي أطلقوها على الثائرين من الشعب وممارسات الاعلام الأسود، ضد الثوار ومن يواليهم دفعت النظام الى الدخول في حرب ضارية مع ملايين من السوريين على حد تعبير الرئيس نفسه، وبررت للنظام نفسه استقدام الميليشيات الطائفية بعصائبها الحمراء وشعاراتها الظلامية، ومهما تكن نظرتك إليهم فيجب أن تعلم أن قسماً كبيراً من السوريين رأوا فيهم فرسانا وامعتصميين نبلاء جاؤوا أيضاً لنصرة إخوانهم ورفع الحصار عن النساء والأطفال في القرى المحاصرة، لا يهم قناعتك فأنا أتحدث عن قناعاتهم ورؤيتهم، ولا أعتقد أنني أبالغ في شيء.
لم يعد في سوريا مكان آمن من قصف الصواريخ المتوحشة بعد أن تمت شيطنة المقاتلين ومن يقف وراءهم، وظهر مصطلح الحاضنة الشعبية للارهاب، ومصطلح البراميل المقدسة، وهي في النهاية لغة دموية سوداء دمرت كل ما هو جميل وسخقت كل أمل بالمستقبل تحت عنوان مواجهة الشيطان الإرهابي.
لا يمكن الخروج من هذا المأزق إلا بالاعتراف بأن في داخل كل منا ملائكته وشياطينه، وأبيضه وأسوده، وأن الجانب الدموي في كل منا له أسبابه، وهي لا تنفي وجود الجانب الأخضر لدى الآخرين.
لا أكتب في السياسة وإنما أكتب في الإنسان، وحين نبحث اليوم عن نهاية لهذه الحرب المجنونة، في جنيف وأستانة وموسكو لا نكاد نجد نوراً في آخر النفق، حيث يذهب المتفاوضون بعقلية المواجهة مع الشيطان، حيث لا يمكن عقلاً أن يصدر عنه إلا الشر والغدر والمكر، وتنتهي الجولات البائسة دوماً بالإعلان عن الفشل وتحميل الشيطان في الجانب الآخر مسؤولية الفشل.
الآفاق مسدودة بالكامل حيث سوء الظن في أعلى معدلاته والريبة والاتهام والتخوين والشيطنة في أعلى معدلاتها، وتكاد تكون فرص التفاوض مقتصرة من كل فريق على إرضاء من أرسلوه.. ولكن أين الإنسان في هذا الركام؟. أين الآخر؟؟
لايريد أي من المتحاورين أن يصدق أن الآخر أيضاً روح من الله، وخلق من خلقه، وأن لديهم أيضاً أطفالاً وأسراً وأن حصاد الحرب من موت وقهر وشر موزع في الفريقين بالتساوي، وأنكم تألمون كما يألمون، وأن الشماتة بمن تم الدعس عليهم وهي لغة لئيمة حقيرة شارك فيها الطرفان بدون تردد على الرغم من أنها مصائر سوداء ظالمة فيها من الأبرياء أكثر مما فيها من القتلة ومن البائسين أكثر مما فيها من الماكرين، وأي إحصاء محايد للحرب بأي صيغة سيحمل حقيقة لا مرية فيها وهي أن ضحايا الحرب من الأبرياء والمدنيين أكثر من المحاربين بكل المقاييس.
متى سنكفر بشرط الحرب، ونرفض شيطنة الآخر؟ ونرسم المسافة الواضحة بين الملائكة والشياطين، حيث هي المساحة المتاحة لكل المتحاربين، وفيها أفق ممكن للتحولات الحقيقية التي تتيح وقف الحرب وبدء السلام.
في لغة القرآن الكريم يمكنك أن تلمس شرط الخطاب الواقعي في الحوار مع الآخر، وعلى الرغم من وصف عقائدهم بالضلال والكفر، ومع أنه يقول إنهم جاؤوا أمرا إدّاً تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً أن دعوا للرحمن ولداً، ولكن الموقف الاعتقادي الصلب يختلف تماماً عن الموقف الاجتماعي، وحين يتحدث القران عن هذا الآخر نفسه في الإطار السياسي والاحتماعي يستخدم لغة أخرى تماماً، قوامها الإنصاف والتبعيض، ليسوا سواء، من أهل الكتاب أمة قائمة آناء الليل وهم يسجدون، ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنظار يؤده إليك، ومنهم قسيسون ورهبانا وانهم لا يستكبرون، ومنهم الذين اذا سمعوا ما أنزل اليك ترى أعينهم تفيض من الدمع، ومنهم من يؤمن بالله واليوم الآخر وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله، وما زال القرآن ينزل منهم ومنهم ومنهم حتى حسبت أنه لم يبق في الدنيا كافرون!!
إنني لا أزعم هنا الإطلاقية في النص، وأعترف أنني أمارس هنا الانتقائية، ولكنه منهجي الذي لا أكتمه في التعامل مع التاريخ، فالانتقائية هي الطريقة الوحيدة لاحترام عقولنا إذا أردنا أن يكون التاريخ نوراً وهدى، نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم، أو بتعبير القرآن الكريم الصريح: الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ومقتضى المخالفة أنهم يتركون الأقل حسناً.
آسف لهذا الانزلاق الى الميتافيزيق، ولكنها كلمات أوجهها للمتحاورين عند نافورة جنيف، إنها الحقيقة الصعبة التي لا يد من الاعتراف بها، الناس المتقابلة على الموائد شركاء في وطن واحد، لهم حسناتهم وخطاياهم، يتقاسمون الفضيلة والرذيلة، والشرف والسياسة ، والنبل والمكر، وهم كسائر السوريين، ومن كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر.
حسب هذا المقال أنه يدفعنا إلى مراحعة سؤال الشيطنة، والبحث عن الإيحابي والإنساني في داخل الآخر، مهما بدا متوحشاً ومتآمراً وصفيقا.
إننا نكفر بعقولنا حين نتصور الطرف الآخر بدون ضمير!!!!


المصدر: د. محمد حبش: الشيطنة

انشر الموضوع


اشترك بالإعلام الفوري بالاخبار الجديدة بالإيميل .. ضع بريدك