أبريل 16, 2024

د. محمد حبش: كلنا شركاء

هل هناك إسلام واحد أم إسلامات؟

بالتأكيد هناك إسلام واحد هو إسلام رسول الله، ولكن يجب الاعتراف أننا بتنا اليوم نشهد إسلامات متناقضة وبيتنا نجادل عن أشكال تائهة من الإسلام لا تشبه في شيء إسلام النبي الذي جاء رحمة للعالمين.

لم يعد هناك مهرب من الاعتراف بأن هناك إسلامان اثنان على الأقل، وهذا ما بات يعترف به كل خبير بالمسألة السورية خاصة بعد ظهور داعش وتطورات التوحش التي عصفت بالمنطقة وكان من نتيجتها هذه الكارثة السوداء.

وبات من المنطقي ان نقول إن إسلام داعش التلمودي الذي تجكمه نصوص وتأويلات قاسية صماء لا يشبه في شيء ذلك الإسلام الشعبي المتسامح الذي تعوده المسلمون خلال تاريخ طويل من العيش المشترك والتسامح والمحبة.

لن أتحدث هنا عن نصوص السنة والكتاب التي تعودنا أن نرويها كلما أردنا التأكيد على تسامح الإسلام ورحمته، فلقد سئمت من هذا الأسلوب بعد ان ترصد الإسلام التلمودي بنصوص جاهزة تحيل كل ما نقدمه في التسامح والتراحم إلى يباب، وتؤسس فوق ركام التسامح المأمول مشهد الإسلام الغاضب الذي لا يعترف بإخاء الأديان ولا بكرامة الإنسان.

سأتحدث عن مشهد آخر مارسه الإسلام الشعبي حكاماً ومحكومين وفقهاء وعامة هنا في دمشق منذ ثلاثة عشر قرناً بدون انقطاع، وسأرصد ذلك من خلال الجامع الأموي العظيم.

الجامع الأموي أعظم معالم دمشق، وهو في حلب أيضاً أعظم معالم حلب، وما نذكره عن الشام هنا هو عين ما سنذكره عن حلب أيضاً، حيث ضريح النبي زكريا في جدار المحراب في المسجد الأموي بحلب!!

المسجد الأموي زاره كل وافد للشام وأقرأ فيه كل فقيه وتصدر فيه المفتون والعلماء والقراء والمحدثون، حتى صار من أهم شروط المشيخة والتصدر والعالمية أن تكون له حلقة في الأموي أو أنه قرأ كتاباً في الأموي أو أنه أجاز فيه بعلم أو رواية.

لا يشبه هذا المسجد أياً من المساجد الجديدة التي بناها المسلمون، فهذا المسجد الجامع الذي يكاد يكون مدينة بحالها وتحيط به حارات دمشق من شعبه الأربع بطوائفها الإسلامية والمسيحية واليهودية المتعددة، قدم نموذجاً آخر للتوحيد لن يرضاه على الإطلاق الإسلام التلمودي الغاضب، ولا شك أنه سيبطش به لدى أول لحظة يتمكن فيها منه.

حين وصلت داعش إلى الموصل أرسلت مع الأيام الأولى كتيبة من المجاهدين لهدم قبر النبي يونس الذي كان يحتضنه جامع النبي يونس، وبالفعل فلم يشفع لهذا المسجد النبيل أن القبر موجود فيه منذ قيام المسجد، وقد ذكره ابو زكريا الأزدي المتوفى عام 334 ، وشرحه ابن بطوطة عام 703 في كتابه تحفة النظار ناقلاً الرواية الشعبية التي تقول انه الموضع الذي به موقف يونس عليه السلام ومحراب المسجد الذي بهذا الرباط يقال انه كان بيت متعبده عليه السلام. وأهل الموصل يخرجون في كل ليلة جمعة إلى هذا الرباط يتعبدون في رحابه.

لم تشفع عشرة قرون من احترام الإسلام الشعبي لهذا الضريح وذهبت فؤوس داعش لتحطم كل شيء فيه، وتم بالفعل سحق القبر الموجود في المسجد وسحق كل ما يرمز إليه.

ومع ذلك فبعد أقل من خمسة عشر يوماً من إزالة القبور كلها عادت داعش وأرسلت من جديد من يفجر المسجد بالكامل، بعد أن أفتى فقهاؤها أن هذا هو كفارة الشرك الذي مورس عند هذا القبر خلال القرون الخالية…!!

ولمن لا يعلم فمسجد النبي يونس يقوم على رابية تزيد مساحتها عن عشرة آلاف متر مربع ولعله أكبر مساجد الموصل!!!

في الجامع الأموي بدمشق صورة أخرى للإسلام الشعبي منذ قام ألوليد ببناء المسجد الأموي بعد مفاوضات مع نصارى دمشق، ولا أشك أبداً أن هذه المفاوضات اشترطت بقاء ضريح النبي يحيى عليه السلام، أو يوحنا المعمدان كما يسميه النصارى في وسط المسجد، ولا شك أن الأمويين تقبلوا ذلك برضا وقرة عين وبقي الضريح قائماً في وسط الجامع الأموي، وزيادة على الضريح وعلى مسافة عشرين مترا منه تمت المحافظة على جرن المعمودية الذي كان يوحنا المعمدان يعمد الناس فيه ليطهرهم بماء الرب وفق ما تقول الشعائر المسيحية.

لا يهمني تأكيد الأسطورة فالنبي يحيى استشهد في الأردن ومن العسير أن نتصور نقل راسه إلى الشام، وزكريا أيضاً مات في فلسطين ولا وجه لوصول راسه إلى حلب ودفنه في الجدار القبلي للمسجد الجامع في حلب، ولكنني أتحدث عن الميثولوجيا التاريخية بما هي معطى تربوي وقيمة اجتماعية، فقد تقبل الإسلام الشعبي وجود ضريح قديس مسيحي داخل المسجد ينظر إليه النصارى باحترام ويزورونه بانتظام، وتقبل جرن معموديته في داخل المسجد على الرغم من الحساسية المفرطة للمسلمين في مسالة المقابر والرموز الدينية خاصة وأن البخاري ومسلم اتفقا على رواية حاسمة: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد!!

الإسلام التلمودي غاضب إلى الغاية من هذا العبث بالتوحيد في المسجد الأموي ولكن هذا الغضب مستمر منذ ألف وثلاثمائة عام، ولكنه ظل يتبخر تماماً في موج الإسلام الشعبي المتسامح الذي هو طبيعة المسلمين حكاماً ومحكومين وفقهاء وعامة، وهو ما جعل هذا الضريح محل تكريم وتعظيم وتبجيل خلال القرون الطويلة، تشاركت فيه كل الدول الإسلامية التي حكمت دمشق من أمويين وعباسيين وحمدانيين وطولونيين وأخشيد وفاطميين وأيوبيين ومماليك وعثمانيين، ولم يرد عن أحد منهم على الإطلاق أنه طال هذا الضريح الطاهر بسوء على الرغم من غضب الإسلام التلمودي المستمر وقذفه بالنص تلو النص في حمى وجوب هدم القبور القائمة على المساجد وهي أمنية لا يخفيها القوم، ولم يوفروا منها مسجد الرسول نفسه، ولا أحب هنا أن أذكر أسماء المشايخ الذين يطالبون إلى اليوم بإخراج قبر الرسول نفسه من المسجد النبوي بالمدينة!!

ضريح يوحنا المعمدان .. هكذا يسميه العالم وهكذا قام البابا يوحنا بولس السادس بزيارته في محفل هائل من الكهنة والبطاركة والرباينيين والأحبار، وجرن معموديته القائم في أعتابه لا يزال يقرا درس التسامح والمحبة وتقبل الآخر كل يوم.

ولكن ما يعلنه الإسلام المتسامح على ألسنة علمائه وفقهائه وحكامه ومحكوميه لا ينفي وجود همس مستمر لدى غاضبين ناقمين يرون وجوب هدم القبر ولكنهم يعتقدون أن مؤامرة كبرى تمنع المسلمين من تنفيذ أمر الله وأن أمريكا منذ ثلاثة عشر قرنا!! تمنع الخلفاء والسلاطين والعلماء والفقهاء من هدم القبر وإخراج جرن المعمودية، بل إنهم باتوا يتهامسون أن هذا الجرن الموجود قرب ضريح يوحنا المعمدان ما هو إلا موضاً للصلاة بناه عثمان بن عفان!! ولا علاقة له بالنصارى لا من قريب ولا من بعيد!!!

والإسلام التلمودي الغاضب ليس وحده في ساحة التعصب فهناك أيضا من يروج لأفكار موازية من النصارى وقبل أسابيع كتب القبط في موقع لهم بان المسلمين حاولوا ألف مرة هدم القبر ولكن الرب كان يمنعهم كل مرة!! وذات مرة هم الوالي الفاطمي في دمشق بهدم القبر ففار الدم منه شلالا حتى سميت بذلك النوفرة الحي المجاور للمسجد!! من كثرة ما ثار من الدم وأن الدم بلغ ساحة باب المصلى!! ولجا الوالي الفاطمي مرغماً للكهنة والبطارك الذين جاؤوا وتعهدوا للضريح بحمايته واحترامه حتى تراجع عن حمو غضبه وتوقف عن نزف الدم!!!!

التعصب موجود في الفريقين والإيمان التلمودي موجود هنا وهناك، ولكن التسامح هو الصورة الأغلب والأشهر والإيمان الشعبي الذي عرفته بلاد المسلمين كلها قرونا طويلة هو الأكثر شعبية وشهرة وحضوراً.

يعلم كل طالب علم أن أكثر من خمسين نصاً في الكتاب والسنة يدل بصراحة على وجوب إخراج القبور من المساجد، وإخراج جرن المعمودية من المسجد الأموي، ووجوب إخفاء معالم الشرك في بيوت الله، ولو خضت أي حوار نصي في المسألة فسيتم صفعك على قفاك بعد خمسة دقائق، ولن تستطيع أن تفعل شيئاً إزاء تراكم النصوص القطعية الرافضة لهذا التشارك، ولكن الإيمان الشعبي كان أعمق من كل هذه التأويلات، واختار بقاء القديس المسيحي، واكتفى بمنحه لقب النبوة كما منحه القرآن، ورضي بقاء جرن المعمودية إلى جواره بمثابة محراب سادس في المسجد العظيم إلى جانب محراب الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة ومحراب زين العابدين عند مشهد الحسين في المسجد العظيم.

والمحاريب المتعددة والأذان المتعدد هي مزايا خاصة بالجامع الأموي ولا نظير لها في غيره من المساجد، وهي تأكيد لروح التسامح والتعدد الذي يحمله الخطاب الإسلامي الشعبي والرسمي.

لقد كان حضور الإسلام المتسامح أقوى بألف مرة من حضور الإسلام الغاضب التلمودي، ولم يستطع هؤلاء ان يحققوا أمانيهم في هدم أهم معالم إخاء الأديان في سوريا، ولن يستطيعوا تحقيق ذلك ابداً إلا على مركب داعشي متوحش لا يعرف تسامح الإسلام ولا يؤمن بإخاء الأديان ولا بكرامة الإنسان.

المصدر : كلنا شركاء

انشر الموضوع


اشترك بالإعلام الفوري بالاخبار الجديدة بالإيميل .. ضع بريدك