مايو 3, 2024


د. محمد أحمد الزعبي : كلنا شركاء
في عام 1948 ، وفي شهر رمضان من ذلك العام ، كنت أجلس مع والدي رحمه الله ، والشيخ حسين الطه إمام مسجد القرية ( المسيفرة) ومرجعها الديني  الأكبر والوحيد ،رحمه الله أيضاً ، على حجر طويل (ربذة) في مدخل دارنا ، ننتظر ” مدفع الإفطار ”  وكان ذلك قبيل  غروب الشمس بحوالي الساعة  . وبما أنني كنت في أول أيام انتمائي إلى “حزب البعث العربي ”  ، فقد دخلت وأنا الصغير ( 14 سنة ) والبعثي المتحمس  للقومية العربية  في بعدها العلماني ، مع الشيخ حسين  وبحضور والدي  ، بجدل نظري حول العلاقة بين الدين والسياسة ، حيث كنت ، كبعثي علماني أقف موقفا سلبيا من الدين  ولاسيما من تعارض هذا الدين مع الفكر  القومي العربي الذي كان ميشيل عفلق المؤسس لحزب البعث والمسيحي أحد أعمدته ،  وكان الشيخ حسين   ” كرجل دين إسلامي ” يقف موقفا سلبيا من حزب البعث  العربي  لكون رئيسه  ” مسيحي” (وهو ما كان يراه سبباً كافياً للرفض) وهنا سألني الشيخ حسين ، وهو يعرف أنني صائم  مثله  : ما دامت هذه نظرتك  كبعثي إلى الدين ، فلماذا أنت صائم إذن ؟! . وبما أن سؤاله قد بدالي صحيحا ومنطقيا ومحرجاً  ، فقد دخلت إلى البيت وأحضرت ” كسرة خبز ”  وعدت بها الى حيث يجلس الشيخ ووالدي ، وشرعت ألتهمها  أمامهما  كجواب على سؤال الشيخ  لي، على قاعدة  ( الجواب ما تراه لاماتسمعه ) .  لقد كان جواب الشيخ حسين الطه يومها على سلوكي الصبياني هذا   ” الله يهديك  ” ، أما والدي فقد ظل صامتا كما لو أن الأمر لا يعنيه  . 
ما أرغب أن أقوله اليوم  ، وبعد مرور سبعة عقود على هذه الواقعة  المحفورة في ذاكرتي هو: 

لقد كان رد ذلك الشيخ على ” صبيا نيتي اليسارية ” وسكوت  والدي كما لو أن الموضوع لا يعنيه  ، يمثل الموقف الإسلامي الحقيقي  لكل من الشيخ  و والدي . بل وللعلاقة الجدلية الصحيحة  بين الدين والسياسة  في ذلك الزمن ، والمتجسدة بحرية كل من  الرأي والمعتقد ، أو قل إذا شئت  حرية كل من الرأي والرأي الآخر . .  
لقد كان سبب سكوت والدي على سلوك ولده ( سلوكي ) الصبياني المخجل يومها ، هو  – حسب تقديري اليوم – اعتزازه الضمني بأن ولده أصبح  شخصاً متعلماً ( صف سابع )  قادرا على مناقشة ” الشيخ حسين ” ومحاججته وهو الفقيه والمرجع الديني الكبير والوحيد في القرية . 
إن  العلاقة بين الدين والسياسة  قبل سبعين عاما كانت أكثر ديموقراطية  وأكثر أخلاقية مماهي عليه اليوم ، حيث يقوم دواعش آخر زمان  أو مايعادلهم  من الحوثيين  والحالشيين  واتباع ولي الفقيه ، بقتل كل من يخالف مايرونه هم  (!!)  يمثل       ” شرع الله ”  . 
لقد جاءت ثورات الربيع العربي عام 2011 لتعيد اللحمة الى العلاقة  العضوية بين العروبة  والإسلام التي  حاول السيدان سايكس  وبيكو قطعها بعد الحرب العالمية الأولى ، ولكن أعداء الديموقراطية من  أحفاد سايس وبيكو وبعد أن انضمت إليهم أمريكا وإسرائيل  وبعض العملاء العرب كانوا  لهذا الربيع  العربي بالمرصاد. بيد أن أحفاد أبطال ثورة 1925 ، وأبطال ثورة  2011 كانوا لمرصادهم  بالمرصاد  ، وهاهم يخوضون  اليوم معركة تحرير حلب  الشهباء الكبرى  من براثن عائلة الأسد ومن يدور في فلكها من الطائفيين والعملاء والمستعمرين الجدد من أعداء العروبة والإسلام  .

لو كان الشيخ حسين ما يزال حيّاً ، ربما لكنت وإياه اليوم في خندق وطني واحد ضد أعداء العروبة والإسلام  ، سواء من دعاة التتريك بالأمس ، أو من دعاة التغريب هذه الأيام ، فالعروبة والإسلام هما  وجهان لعملة واحدة ،  هي  مبدأ ” المواطنة ” التي لحمتها الديموقراطية ، وسداها  العدالة الاجتماعية وقوامها مكارم الأخلاق .   




المصدر: د. محمد أحمد الزعبي : جدل الدين والسياسة بين الأمس واليوم  

انشر الموضوع


اشترك بالإعلام الفوري بالاخبار الجديدة بالإيميل .. ضع بريدك