مايو 18, 2024


د. سميرة مبيض: كلنا شركاء
تزداد حدة الطائفية في الخطاب الروسي منذ فترة و لا يقتصر الأمر على الخطاب  بل  يزداد سعاره لتوريط  عدة دول في حروب ذات طابع ديني و أن كانت التحريضات الروسية تتجه حصرياً ضد متبعي الدين الإسلامي لكن الفكر العلماني هو المستهدف الرئيسي لها في أوروبا حصن العلمانية الأول.
لا يناسب الفكر العلماني التوجهات الاستبدادية الروسية الحالية التي تعتبر العصبية الطائفية أداة أساسية للسيطرة على الشعوب بينما تُحرر العلمانية الانسان من القيد الأول لفكره و تُوجهه لنيل الحقوق و العدالة و تُجرّدُ رجال الدين و من يستخدمهم من القدرة على السيطرة على فكر المجتمعات و الهيمنة على مسارها و قدراتها.
استحضار النزعة الطائفية الدينية في مواجهة العلمانية بات واقعاً في زمن لم تعد فيه السيطرة على العقول مهمة يسيرة بل تزداد صعوبة بعد أن فَقَدت الأدوات التقليدية في زمن التطور التكنولوجي و العلمي قوتها فلم يعد ابتداع المعجزات يأتي بالملايين راكعين تحت أقدام رجال الدين و من وراءهم السلطات الحاكمة و لم يعد عقل الانسان الذي يمتلك القدرة على الوصول لأكبر كم ممكن من المعلومات بزمن قياسي يقتنع بسذاجة امتلاك البعض للمعرفة الكلية و التسليم لهم بمفاتيح الحياة و الممات.
بات تقييد الحريات يتطلب اختلاق المزيد من المؤسسات الإرهابية و المسرحيات التفجيرية و المشاهد الدموية لتفضي الى المزيد من الرقابة و المراقبة و إعادة احتلال مساحة واسعة من الحرية التي اكتسبتها المجتمعات بتطور فكرها و احتياجاتها.
لا تتوانى روسيا اليوم عن استعمال أي وسيلة لتحقيق ذلك فهي تتجه لاحتكار الدفاع عن مسيحيي العالم عامة و مسيحيي الشرق الأوسط خاصة نائية بهم عن الاعتدال الغربي العلماني و تدعو لعقد مؤتمرات الدفاع عن المسيحيين في العالم برعايتها الحصرية و يترافق ذلك بالهجومات الإرهابية المشبوهة المنشأ في الدول الحاملة لراية العلمانية و التنوع الثقافي البشري في  محاولات لدفعها للتخلي عن قيم الاخوة الانسانية، الحرية و المساواة أمام القانون التي تتمسك بها.
لكن الخطاب المسيحي العالمي اليوم ليس في اتجاه واحد فلا يتوافق الخطاب الطائفي الذي تدعو اليه روسيا مع خطاب الفاتيكان بل و يناقضه صراحة حيث رفض البابا فرنسيس اليسوعي بجرأة الربط بين الإسلام و الإرهاب و هو يدعو بشكل مستمر في تصريحاته للتمسك بقيم و مبادئ المسيحية القائمة على  الأخوة و السعي للسلام فأين لنا أن نجد قواسم مشتركة بين هذا الخطاب الانساني الممثل لفكر الثقافة المسيحية و بين الخطاب الحربي المستغل للمسيحية و المنافي لقيمها، لا قاسم مشترك بل اننا نقرأ بين السطور محاولات النأي بالمسيحية عن هذا المسار المنحرف.
على الرغم  من أن السوريين يدفعون الأثمان الأكبر لسيطرة التطرف المنفعي على السياسات العالمية لكن الأمن والسلام العالميين ليسوا بمنأى عن التهديد بعد اقصاء الأمم المتحدة و تخليها عن الدور المنوط بها في حفظهما. و تعتبر أوروبا المتضرر الأول هنا حيث يعتبر جر دولها الى حرب بين دينية  بمثابة اطلاق شرارة التدمير الذاتي لأوروبا العلمانية المتنوعة و التي لا يتبع ربع المقيمين فيها على الأقل الدين المسيحي و يأتي الإسلام فيها بالمرتبة الثالثة بالثقافة و بالعدد  بعد المسيحية و بعد اللادينية.
فإلى أي مدى ستسمح بدفعها نحو التخلي عن مكتسبات شعوبها و تقدمها الفكري و الاقتصادي و التقهقر نحو الحروب و الاستعداء الطائفي المجتمعي الذي جر عليها الحروب و الدمار لعصور مضت. الاعتماد الأهم في تجاوز هذا المسار الكارثي قائم على اعتدال المصادر المحركة لهذه الديناميكية و ادراكها لهذا الخطر و أولها هو التوجه المسيحي المعتدل للأغلبية الأوروبية المكون الأول المستهدف بالتعصب و ثانيها هو  المكون المسلم الأوروبي المستهدف كمسبب لهذا التعصب و الذي يفترض به اليوم التمسك بالعلمانية  دون تهاون ثم يقظة سياسية تدرك أن تسليم اليد العليا للقوة الجائرة في بقعة من العالم دون رقيب يعني تسليمها رسم المسار المستقبلي العالمي و ان كان مساراً منفعياً لا انساني كما تشكله قوى اليوم فسيقودنا الى نسف جميع مواثيق حقوق الانسان ليس في الشرق الأوسط  فقط كما هو حالها الآن بل في العالم و لنا أن نتصور كيفية ارتدادات ذلك على  تطور الحضارة البشرية.



المصدر: د. سميرة مبيض: الانحراف بالخطاب المسيحي والعلماني العالمي.

انشر الموضوع