مايو 18, 2024

د. رياض العيسمي: كلنا شركاء

ما أن انتهت الانتخابات الرئاسية الأمريكية بفوز المرشح الجمهوري دونالد ترمب بعكس توقعات الغالبية العظمى من المحللين السياسيين والباحثين الأكاديميين، حتى توقف الاستنتاج والتكهن. وبدأ التمحيص والتشخيص لنتائجها. ودراسة الأسباب التي أدت إليها. حيث لا بد للحزب الديمقراطي أن يتعرف بدقة على الأسباب التي أدت إلى فشل مرشحته بالوصول إلى الرئاسة في الوقت الذي كانت تشير فيه كل الأدلة والقرائن إلى نجاحها.  حتى وأنها كانت قد حضرت الألعاب النارية والسقف الزجاجي الذي كانت ستحطمه وبما يرمز إلى “أنه لم يعد هناك سقوف بين المرأة والسماء”. وأيضا الحزب الجمهوري بحاجة إلى تشخيص فيما إذا كان نجاح ترمب هو ظاهرة عابرة تنتهي بخروجه من الرئاسة. أم حركة إصلاحية قادها من داخل الحزب يمكن أن تقود إلى تصدعه.  وكذلك هي المؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة بحاجة إلى معرفة ما جرى كي لا تفلت قبضتها عن دائرة صنع القرار وتوجيه السياسات العامة للولايات المتحدة كدولة عظمى. لا شك بأن جميع هذه المؤسسات وغيرها صاحبة المصلحة ستستمر في الدراسة والبحث لفترة قد تمتد إلى الانتخابات النصفية القادمة للكونغرس بعد عامين. خاصة وأن الحزب الجمهوري بات اليوم في موقع الرئاسة ويملك الأغلبية في مجلسي الشيوخ والنواب. وبهذا يمكن له تمرير بعض القرارات التي كان يصعب عليه الوصول إليها مع وجود رئيس ديمقراطي منذ الانتخابات النصفية الماضية في عام 2014. هذا إذا ما استطاع التوافق عليها مع الرئيس ترمب.
ولتقديم قراءة متأنية في الانتخابات الرئاسية المنصرمة، لا بد من ألقاء بعض الضوء على الحالة السياسة التي مهدت إليها منذ الانتخابات النصفية الماضية والتي احتفظ بها الحزب الجمهوري بمجلس النواب وربح الأغلبية البسيطة في مجلس الشيوخ.
وفي مقالة بعنوان “معادلة الرئاسية الأمريكية واحتمالات المنازلة القادمة” كتبتها بعد انفضاض انتخابات الكونغرس النصفية في مطلع شهر نوفمبر- تشرين من عام 2014. ونشرت على موقع “كلنا شركاء” بتاريخ 5-12-2014. ومن ضمن ما جاء فيها: “أعتقد بأن عام 2015 سيكون عاماً فارقاً في رئاسة أوباما، والذي يمكن أن يتحول فيه من رئيس للسلام إلى رئيس للحرب.
كما وسيكون عاماً حاسماً لهيلاري كلينتون وكل الذين سيسعون لخلافته في البيت الأبيض من الحزب الجمهوري. لقد بات من شبه المؤكد بأن هيلاري ستُعلن ترشيحها للرئاسة عن الحزب الديمقراطي، إلا إذا ما حصل ما هو غير متوقع وحال دون ذلك. هذا وبالرغم من مراهنة الكثيرين على نجاح هيلاري كلينتون لما تملكه من مواصفات قد تساعدها على الفوز بالرئاسة ومنها الاسم والخبرة والقدرة على جمع التبرعات والتعاطف العام معها بسبب ما حصل لها في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي عام 2008 التي انتزعها منها باراك أوباما، لكنني لا أعتقد بأن نجاحها سيكون مضموناً. على الأقل لن يكون سهلاً. وذلك لأنه هناك أيضا الكثير من العوامل التي ليست في صالحها. ويأتي في مقدمتها الرسالة القوية التي وجهها الناخب الأمريكي في الانتخابات النصفية، والتي لم تقتصر على الرئيس أوباما فقط، بل تعدته لتصل إلى الحزب الديمقراطي بشكل عام وقيادته التي تشمل هيلاري نفسها، والتي مفادها “تعبنا ومللنا من الرتابة وعدم القدرة على الإنجاز، ونريد التغيير”. والسعي إلى التغيير ليس حالة طارئة على انتخابات الرئاسية الأمريكية، بل أصبحت حالة نمطية. حيث تعوّد الناخب الأمريكي على تغيير حزب الرئيس بعد أية دورتين متتاليتين لنفس الرئيس.
هكذا وصل أوباما إلى السلطة بعد دورتين لبوش الابن الذي وصل هو بدوره إلى الرئاسة بعد دورتين لبيل كلينتون. ولكن هيلاري تأمل أن تكون حالة استثنائية كما حصل مع بوش الأب الذي كان نائبا للرئيس ووصل إلى الحكم بعد دورتين متتاليتين للرئيس رونالد ريغان. وكان بوش الأب قد فاز بالرئاسة بشكل أساسي بسبب ضعف وليبرالية منافسه من الحزب الديمقراطي حينذاك، مايكل دوكاكس حاكم ولاية ماساشوستس. وهي تعتقد كما يعتقد الكثير من المراقبين بأنه وبالرغم من نجاح الحزب الجمهوري في الانتخابات النصفية فإن المرشح الجمهوري القادم وبغض النظر عن هويته، سيكون موقفه ضعيفاً أمام الرأي العام لأن الحزب الجمهوري مازال يصر على انتهاج سياسة تميل إلى اليمين نتيجة سيطرة حزب الشاي المحافظ عليه منذ وصول أوباما إلى الرئاسة.
وهي سياسة لم تعد تتجاوب مع التركيبة الديمغرافية والاجتماعية للشعب الأمريكي الذي يتزايد فيه عدد الأقليات بشكل انفجاري وبات يميل أكثر إلى الوسطية والاعتدال السياسي والاجتماعي. ولهذا بالفعل لن يستطع الحزب الجمهوري أن ينجح في الانتخابات الرئاسية القادمة إذ ما بقي على نفس السياسة بتهميش الأقليات التي باتت بمركباتها المتعددة تمثل أكثر من نصف القوة الانتخابية في الانتخابات الرئاسية. والتي كان قد استفاد من تركيبتها أوباما وصاغها في معادلة انتخابية حاذقة أعادته إلى الرئاسة لولاية ثانية في 2012. ولهذا لا بد للمرشح الجمهوري إذا ما أراد النجاح من تفكيك معادلة أوباما وإعادة تركيبها بما يخدم حملته الانتخابية.
كما ولا بد أن يمتلك الجُرأة والرؤية والقيادة المميزة لإعادة صياغة مفاهيم الحزب بشكل يتجاوب مع توجهات الناخبين مع الاحتفاظ بمبدأ “قيم الأسرة” الذي كان شعار الحزب الجمهوري لأعوام عديدة. وبهذا لا بد أن ينآى بنفسه عن سياسات الحزب المتشددة والتي أفرطت بالتوغل نحو اليمين في الفترة الماضية. وفي نفس الوقت يجب عليه أن يكون حاذقا في الموازنة ما بين القدرة على الفوز بالانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري الذي يمثل فيه المحافظين أغلبية، والقدرة على إقناع المستقلين والتجمعات السياسية الأخرى التي تميل إلى الوسطية والاعتدال في الانتخابات العامة. كما وعليه أيضا إقناع شريحة المحافظين والغاضبين في الحزب الديمقراطي الذين خذلتهم سياسات أوباما المترددة وإنجازاته المحدودة”.
ولا بد من التأكيد هنا بأنني، وبعد نجاح دونالد ترامب كمرشح للحزب الجمهوري، عدت وتناقضت مع نفسي إلى حد ما وبالرغم من أنه تنطبق عليه الكثير من مواصفات المرشح الجمهوري المثالي التي تم عرضها في المقالة. واعتقدت كما اعتقد الغالبية العظمى من المراقبين والمحليين وبما فيهم القائمين على حملة كلينتون بأن فرصة كلينتون بالنجاح هي شبه أكيدة بسبب شخصية ترمب التي لا تتناسب مع مواصفات الرئاسة. وكنا قد بالغنا جميعا في تقدير الأرقام الإحصائيات، وخاصة فيما يتعلق بشعبية كلينتون في أوساط السود واللاتنيين. وذلك لأن ترمب كان قد استعدى هاتين الشريحتين. وبالرغم من ذلك، لم تستطيع كلينتون أن تستميلهم بغالبيتهم إليها كما فعل أوباما من قبل في عامي 2008 و2012. وأيضا لم تستطع كلينتون أن تحصل على دعم الغالبية العظمى من شريحة الشباب وطلاب الجامعة وعمال المصانع من البيض الذين كان قد استقطبهم بيرني ساندرز منافسها على ترشيح الحزب الديمقراطي في الانتخابات التمهيدية للحزب. فذهب قسم مؤثر منهم إلى ترمب.
كما وكان هناك مبالغة من فريق كلينتون في تقدير ولاء الولايات المعروفة تاريخيا بأنها محسوبة على الحزب الديمقراطي كولايات بنسيلفانيا وميشيغان ووسكانسن. حيث أن كلينتون لم تزر ولاية وسكنسن ولا مرة خلال فترة الانتخابات العامة.  وكانت هذه الولايات الثلاثة والمعروفة باسم (حزام الصدء) أو الولايات الصناعية هي أساس المعادلة لفوز دونالد ترامب. والتي كان قد ابتكرها مدير اللجنة الوطنية الحزب الجمهوري رينيس بريباس. والذي من المرجح أن يكون رئيس موظفي البيت الأبيض في إدارة ترمب المقبلة (ما يعادل رئيس حكومة). وبحكم موقع بريباس كان عليه أن يقف مع المرشح الجمهوري بغض النظر عن هويته. فوقف مع ترامب بالرغم من تنكر الكثير من قيادات الحزب ومؤسسته التقليدية له. وتشير نتائج الانتخابات بأن الولايات الصناعية الثلاثة التي حسمت الانتخابات لصالح ترمب كانت متقاربة جدا. وبفارق لا يزيد عن 1.5% في كل ولاية لصالح ترمب. والتي كان مجموع كلياتها الانتخابية 46 (20 لبنسلفانيا، 16 لميتشغان، و10 لوسكنسن).
وعدد الكليات الانتخابية المطلوب للوصول إلى الرئاسة هو 270 كلية انتخابية. وكان ترمب قد حصل على 306 كلية انتخابية بينما حصلت كلينتون على 232. ولو ربحت كلينتون الولايات الثلاثة هذه لكان رصيدها 274، أي أكثر من الكليات المطلوبة بأربعة كليات. ولكان ترمب قد تراجع في هذه الحالة إلى 260. علما بأن كلينتون قد تفوقت على ترمب بعدد الأصوات الشعبية (47.78% لكلينتون و47.33 لترمب) من عدد الناخبين. وذلك لفوز كلينتون في أكبر ولايتين من حيث عدد السكان، كاليفورنيا ونيويورك. لا شك بان المعلومات التي أدلى بها مدير الأف بي أي جيمس كومي حول فضيحة البريد الإليكتروني لكلينتون قبل 11 يوم من الانتخابات قد أثر عليها كثيرا. وما تزال الدوافع الحقيقية لتصريحه غير معروفة. لكنه باعتقادي لم يكن هو العامل الحاسم في عدم نجاح كلينتون. وكما جاء في مقالتي قبل عامين بأن هناك العديد من المعطيات والموصفات للوصول إلى الرئاسة ليست في مصلحة كلينتون.  حيث الوصول إلى البيت الأبيض يحتاج إلى عدة مفاتيح. وأهمها هو أن يحتفظ المرشح بالقاعدة الأساسية لحزبه. وأن يعمل على توسيعها. فكلما اتسعت دائرة أحد المرشحين الانتخابية ضاقت دائرة الآخر.
والنتائج المدرجة أعلاه تبين بأن كلينتون قد خسرت من قاعدة حزبها ولم تستطع توسيع دائرتها. وباعتقادي كان يمكن لكلينتون أن تحافظ على قاعدة حزبها في الولايات العمالية الثلاثة وتربح معها بحدود عشرة ملايين من أصوات الناخبين من السود واللاتينيين والشباب وطلبة الجامعة والشريحة النسائية التي ربحها أوباما في عام 2012 لو اختارت بيرني ساندرز لموقع نائب الرئيس بدلا من تيم كين. علما بأن تيم كين يعتبر من أنقى السياسيين وأصدقهم. ولم يخسر أية معركة انتخابية في حياته. وكان قد تدرج من محافظ مدينة ريتشموند إلى حاكم ولاية فيرجينيا، ومن ثم ممثلها في مجلس الشيوخ الأمريكي. وهو من ولاية كان لا بد لكلينتون أن تربحها. إلا أن معادلة الانتخابات الرئاسية الأمريكية تعتمد على فن تجميع الأرقام الانتخابية التي تمثل الشرائح المجتمعية والأعداد التمثيلية للولايات. وبيرني ساندرز أثبت بأنه كان أفضل من يمثلها جميعا في هذه الفترة الانتخابية. وأيضا يمثل القاعدة الليبرالية العريضة للحزب الديمقراطي. هذا في الوقت الذي يمثل تم كين تيار الوسط المعتدل في الحزب مثل كلينتون. وبهذا تكون كلينتون قد وقعت بنفس المطب الذي وقع به آل غور في انتخابات عام 2000 عندما اختار نائبا للرئيس جوزيف ليبرمان عن يمينه. وترك اليسار غير ممثل. وذلك ما دفع رالف نادر عن حزب البيئة الليبرالي بالترشح. وذلك ما حجب أصوات شريحة من الحزب الديمقراطي عن غور مهديا بذلك الرئاسة لجورج بوش الابن.
وفي حالة كلينتون اتجهت أصوات المعارضة الديمقراطية لترمب وذلك لأنهم لم يجدوا في كلينتون تمثيلا حقيقيا لهم. ومنحوه بهذا الرئاسة في الوقت الضائع.  ولذلك إذا ما أراد الحزب الديمقراطي أن يجعل رئاسة ترمب تقتصر على دورة رئاسية واحدة (أربعة سنوات) عليه أن يضع في المقدمة امرأة تمثل ما يمثله ساندرز وافتقدته كلينتون. وهذه المرأة في الوقت الحاضر هي أليزابيث وارن عضوة مجلس الشيوخ عن ولاية ماساشوستس. والتي كانت من ضمن القائمة القصيرة التي اختارت منها كلينتون تيم كين لنائب الرئيس. لكن كونها امرأة مع امرأة أخرى لموقع الرئيس كان يمكن أن يضعف فرص كلينتون بدلا من أن يعززها.
وعلى كل الأحوال لا بد للقائد الجديد للحزب الديمقراطي أن يعيده إلى يسار الوسط الذي كان قد أرسى قواعده بيل كلينتون في عام 1992 ووصل به إلى الرئاسة. وبقي فيها لدورتين. ومثله لا بد للحزب الجمهوري أن يعود إلى يمين الوسط وكما أرسى قواعده رونالد ريغان في عام 1982, وأبقاه في الرئاسة أيضا لدورتين. وما زال من المبكر الحكم على الاتجاه الذي سيقود فيه ترمب الحزب الجمهوري. وفيما إذا كانت ستصمد سياسته على ماهي عليه. إلا أن سياسة الحزبين في الولايات المتحدة مبنية على مبدأ التوازن منذ تأسيسها.  والذي يقوم على أساس تمثيل كافة الشرائح الانتخابية العريضة للمجتمع والمتمركزة بين يمين ويسار الوسط. وما هو خارج حدود هذا المجال من أقصى اليمين وأقصى اليسار يذهب إلى الحزب الأقرب له. أو يلجأ إلى أحزاب هامشية ليس لها فرصة بالفوز في انتخابات الرئاسة.
 

اقرأ:
د. رياض العيسمي: كلوفيس مقصود.. فارس عربي يترجل وعلم وطني ينطوي



المصدر: د. رياض العيسمي: قراءة متأنية في انتخابات الرئاسة الأمريكية

انشر الموضوع