مايو 16, 2024

د. حبيب حداد: كلنا شركاء
ما نقصده بالعامل الوطني هنا هو العامل الذاتي ، وتحديدا دور الشعب السوري في تقرير مصيره بنفسه ، وصنع المستقبل الذي يستحقه ، وذلك اعتمادا على مستوى وعيه واستيعاب دروس تجاربه القريبة والبعيدة ، واستجابة لما قدمه من تضحيات جسام ندر ان قدمها شعب اخر من اجل الحرية والكرامة والتقدم ومواكبة مسار العصر . ونقصد بالوضع الدولي هنا دور المجتمع الدولي من حيث كيفية تعامله وتعاطيه مع المسالة السورية سلبا او ايجابا ، ونخص بالذكر مواقف منظمة الامم المتحدة ، ومجلس الأمن الدولي بالذات ، وتلك الدول الضالعة بصورة مباشرة او غير مباشرة في المسالة السورية بعد ان أخذت هذه المسالة طابع الحرب الأهلية المدمرة بكل ابعادها المذهبية والإقليمية والدولية ، وبعد ان أصبحت الجغرافيا السورية ودماء السوريين ساحة صراع قاتل وبؤرة استنزاف وحشي لا يعرف التوقف لتصفية حسابات تلك الدول وإعادة نبش واحياء .مخططاتها وأطماعها القديمة في أقطار وطننا .
عندما تفجرت غضبة الشعبالسوري العارمة قبل ست سنوات ، واتخذت شكل انتفاضة عفوية شاملة تقودها أجياله الشابة ، كان الهدف بالنسبة اليه معروفا ومحددا ، وكان الطريق للوصول الى هذا الهدف واضحا ومستشرفا مهمات اليوم والغد ، اي المهمات الانتقالية ،من اجل بناء المستقبل المنشود . لقد كانت الأغلبية العظمى من جماهير شعبنا وفي مقدمتها النخب الفكرية والثقافية والأحزاب والحركات السياسية الوطنية والمجتمعين المدني والأهلي تنظر الى هذه الانتفاضة كمشروع ثورة تحرر وطني ومجتمعي تكمل إنجاز مقومات ودعامات الاستقلال الحقيقي ، فيما اذا استطاعت ان تمتلك وتعتمد ، قبل اَي دعم اخر ، على عوامل القوة والمناعة الذاتية والارادة الحرة لشعبها وإذا ما قدر لها ان تواصل مسارها في الاتجاه الصحيح الذي سلكته كل حركات التحرر الظافرة على امتداد نصف القرن الذي انقضى . كان لا بد إذن من تجميع كل القوى والاتجاهات الوطنية في جبهة وطنية ديمقراطية عريضة ، مرجعيتها المشروع الوطني الديمقراطي الواحد . المشروع الذي يستند الى رؤية استراتجية شاملة توحد ولا تفصل بين مرحلتي أهداف الانتفاضة الشعبية وهما مرحلة وضع حد لنظام الاستبداد المافيوي الجاثم على صدر شعبنا منذ أربعة عقود ونصف ، ومرحلة بناء سورية الجديدة ، دولة المواطنين الأحرار المتساوين في الحقوق والواجبات دون اَي تمييز او إقصاء أو تهميش . ذلك كان هو هدف الانتفاضة -الثورة ، وذلك كان هو منحى مسارها وهذان العاملان كان من المفترض ان يعكسا هوية وصورة الانتفاضة الشعبية السورية كمشروع ثورة تحرر وطني واجتماعي بما يعنيه ذلك وما يؤهلها لكسب تأييد ودعم الرأي العام العالمي من جهة ، وما يسمح لها بتحديد سليم لمواقف الأطراف الدولية الداعمة او المعادية لها .
لكن مالذي حدث بعد مرور عدة أشهر على انطلاقة هذه الانتفاضة ؟ النظام انتهج الأسلوب الذي كان متوقعا وهو مواجهة المظاهرات السلمية بأسلوب القمع الوحشي أي بالحديد والنار محاولا إيهام الرأي العالمي بانه يواجه مؤامرة ارهاب دولية !!! . اما تشكيلات المعارضة الخارجية فقد سلكت في معظمها سلوكا خطيرا عندما اندفعت لمواجهة مخطط النظام بنفس الأسلوب اَي الدعوة المباشرة لعسْكرة الانتفاضة ، الامر الذي استدعى ارتهانها لدول الخارج التي كانت تنتظر مثل هذه الفرصة ليقوم كل منها بتبني وامداد ما ارتبط به من المجموعات المسلحة الإرهابية فوق الارض السورية ، ، تلك المجموعات التي لا علاقة لها بأهداف وتطلعات السوريين والتي ترجع في مرجعياتها ومشروعاتها الى ما قبل العصور الوسطى . هكذا تم اجهاض الانتفاضة السورية التي قدمت أجل وأغلى التضحيات من اجل انتصار أهدافها في الحرية والعدالة والمساواة وتأسيس دولة ديمقراطية حديثة ، وهكذا وبعد انقضاء هذه السنوات الدامية يدرك كل من يمتلك المستوى المقبول من الوعي ومن يتوفر له ابسط قدر من يقظة الضمير ان ما قامت به المعارضات السورية الخارجية من ممارسات قد التقى في حصيلته مع ما يهدف اليه النظام وكان هذان الطرفان ، قبل ان نضع المسؤولية على أطراف المجتمع الدولي ، هما المسؤولان الرئيسان عن المأساة الوجودية التي تعيشها بلادنا الْيَوْمَ .
كلنا الْيَوْمَ نسترجع بالم ومرارة ما قامت به تلك المعارضات الخارجية يوم ان نصبت نفسها ممثلا شرعيا وحيدا للشعب السوري ، ويوم ان سلمت زمام امرها للدول الإقليمية والخارجية التي ارتبطت بها ، ويوم ان غطت اعلاميا ودعائيا افعال وجرايم المجموعات المسلحة واعتبرتها وما تزال تعتبرها فصائل الجيش الحر وكيف خدمت مواقف تلك المعارضات ، بوعي او بغير وعي ، سياسات النظام في وضع العراقيل امام مسار الحل السياسي استجابة لمواقف الدول التي ارتبطت بها والتي لا تريد الخير لسورية والتي وقفت في كل مسعى جاد لوقف هذه الحرب العبثية المجنونة المدمرة لكل أوصال ومقومات لحمة المجتمع السوري الوطنية والعروبية والإنسانية .
فهل يمكن بعد كل ذلك ان يغرب عن بالنا الآن ذلك الخطاب الغرائزي المذهبي المتخلف الذي استخدمته معظم معارضات الخارج طوال السنوات الماضية وما جره من ويلات على النسيج الوطني وكيف خدم هذا الخطاب بالنتيجة ما كان يرمي اليه خطاب النظام والاطراف الحليفة له ؟ وهل ننسى ما كان يصوره وما يغذيه خطاب تلك المعارضات السورية من اوهام وأقاويل بان فترة نهاية النظام وتحقيق أهداف الشعب السوري لن تطول ولن تتجاوز عدة أسابيع او أشهر ؟؟؟
بل والأخطر من ذلك كله وبعد ان اتضح للجميع اخطاء وخيبات المراهنات التي كانت تعقدها تلك المعارضات على الأطراف الدولية التي ارتبطت بها ، وافتقادها التام لثقة شعبها ، عادت ادراجها من اجل تبرير فشلها وخذلانها بتحميل المسؤولية كل المسؤولية فيما وصلت اليه اوضاع المنطقة من مخاطر التفكك والتشظي والتقسيم الى الدول الكبرى ومجلس الأمن . فادارة اوباما حسب رايها فشلت ولَم تلتزم بوعودها بل وتواطآت مع روسيا والنظام وإيران ضد الثورة السورية !!! كما ان الامم المتحدة من وجهة نظر هذه المعارضات قد أسفرت اخيرا عن مواقفها التي كانت منذ البداية في خدمة النظام السوري !!! ومثلما كانت الأنظمة العربية الحاكمة وما تزال تعقد الآمال الكبار على نتايج الانتخابات الإسرائيلية كذلك كانت مواقف تلك المعارضات السورية الساذجة نسخة طبق الأصل عن مواقف الأنظمة العربية عندما تصورت أن تعطيل مسار الحل السياسي وفق قرارات الشرعية الدولية حتى مجيء الادارة الامريكية الجديدة التي كان من المتوقع ان يكون على رأسها المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون ، سيقلب الأوضاع رأسا على عقب وستقوم الادارة الجديدة بما تطلبه منها تلك المعارضات اَي بالتدخل العسكري المباشر لإنهاء النظام أي نفس الدور الذي قامت به في كل من العراق وليبيا !!! وهكذا كان يؤمل بالنسبة لتلك المعارضات ان تأتي إدارة أمريكية جديدة تلتزم بوعودها وبالخطوط الحمراء التي تضعها ، بديلا عن إدارة اوباما التي لم تلتزم بتعهداتها ولا بالخطوط التي اعلنتها !!! فهل هناك بعد هذا اَي شيء يمكن ان يكون مستغربا في علم السياسة منذ أرسطو وميكافيلي حتى وقتنا الحاضر ، فالمعارضات السورية التي ادعت تمثيل شعبها لم تتقيد بأية خطوط حمراء أو غير حمراء تقربها من تجسيد إرادة شعبها عندما اندفعت بكل حماس نحو العسكرة وعندما شوهت مطالب الشعب السوري و عملت على مصادرة قراره المستقل وعندما ارتهنت لسياسات وخطوات الدول التي ارتبطت بها !!! هذا في الوقت الذي اجازت لنفسها ان تلقن الإدارتين الامريكية والروسية قبل غيرهما النصائح والدروس فيما ينبغي عليهما القيام به ، وابعد من ذلك في ان تشرح وتوضح لهما اَين وفي اَي اتجاه تكمن مصالحهما !!!.
فهل يمكن بعد هذا الدمار الكبير الذي وصلت اليه اوضاعنا سواء على صعيد قضيتنا الوطنية أم على صعيد ممارسات معارضاتنا ونخبنا السياسية ان نشهد بداية نوعية لمرحلة جديدة لعملنا وكفاحنا ، بداية تستوعب حقا كل دروس السنوات الماضية من عّمر المِحنة السورية التي تستدعي اول ماتستدعي ان نعود الي شعبنا فنستعيد ثقته ونجسد ارادته الحقيقية ونعتمد قبل اَي شيء آخر على قدراته الذاتية ونعمل بكل الوعي والاخلاص على تمتين عرى وحدتنا الوطنية وان يكون شعارنا في هذه المرحلة ان علينا نحن السوريين ان نقلع أشواكنا بايدينا وان نكون مستعدين ومؤهلين لحل مشاكلنا بانفسنا ،قبل ان نحمل الآخرين من المجتمع الدولي ومجلس الأمن واجباتهم في مساعدتنا !!!
وهل يمكن للقوى الوطنية الديمقراطية السورية الحقيقية التي برهنت عن مصداقيتها طوال السنوات الست الماضية ان تبدأ الخطوة الأولى في هذا المسار بتوحيد جهودها وتأطيرها في كيان قادر على النهوض بهذه المسؤولية التاريخية ؟؟؟ .
اقرأ:
د .حبيب حداد: جدل العلاقة بين هدفي التحرر الوطني والتقدم الحضاري في مجتمعاتنا العربية



المصدر: د. حبيب حداد: واقع ومستقبل المسالة السورية بين دور العامل الوطني والوضع الدولي

انشر الموضوع