مايو 16, 2024

د. حبيب حداد: كلنا شركاء
قبل ست سنوات ومنذ الأيام الأولى لإنطلاق انتفاضتهم الشعبية من اجل الحرية والكرامة والمساواة عبر السوريون عن هويتهم الوطنية بصورة عفوية وجماعية عندما كانوا يؤكدون في هتافاتهم , وعلى الدوام ,ان الشعب السوري شعب واحد واحد,  وان وحدته كانت خلال حقب التاريخ المتعاقبة امضى سلاح امتلكه في مواجهة كل التحديات . غير ان مواقف السوريين وفهمهم لمقومات وحدتهم وبالتالي لمضمون  وما هية هويتهم الوطنية قد تباينت واختلفت الى حد كبير , كما اتضح ذلك بصورة جلية عبر المسار الدامي الذي قطعه شعبنا طوال السنوات الماضية للخلاص من حياة القهر والعسف والاستبداد وبناء دولة ديمقراطية عصرية . البعض منا ارجع كيان الشعب السوري الواحد ,او لنقل الموحد , الى مجموعة شعوب تبعا لتعدد المكونات القومية والاثنية والثقافية  التي يضمها نسيج الوحدة الوطنية ,وبعض هذا البعض  ذهب ابعد من ذلك بأن فسر ان حق تقرير المصير الذي ينص عليه ميثاق الأمم المتحدة بما في ذلك الحق في الإنفصال والإستقلال وتكوين دولة خاصة يمكن ان ينطبق على كل من المكونات الأقوامية  وربما المذهبية والثقافية لفسيفاء الوحدة  المجتمعية الوطنية للشعب السوري
والبعض رأى ان الهوية الوطنية السورية تتعارض مع الرابطة او الهوية العربية  للشعب السوري, وذهب ابعد من ذلك ايضا, باصراره على معارضة التسمية الدستورية الحالية لسورية اي الجمهورية العربية السورية والاكتفاء بتسمية الجمهورية السورية او الجمهورية السورية الاتحادية او الديمقراطية , وهذا البعض الذي يجهل كيف جاءت هذه التسمية في اعقاب انهيار الجمهورية العربية المتحدة من  قبل حكم الإنفصال ,  يدرك بالتأكيد ان قضية التسمية ليست قضية شكلية او ثانوية وانما هو يتمسك بذلك لانطلاقه من فهم خاص به للهوية الوطنية السورية  ومن تصور خاطئ يتعارض مع حقائق الواقع ومعطيات التاريخ المديد.  وبالمقابل نجد بعضا آخر ما يزال يرى في التأكيد على الهوية الوطنية السورية  اتجاها يعزز الحالة القطرية  والتجرئة والانكفاء او التخلي عن تحمل مسؤولية القضايا المركزية اوالتزامات واعباء المصير المشترك للأمة العربية , فكأن هذا البعض ما يزال يعيش في مرحلة الصراع الإيديولوجي والعقائد الشمولية التي اثبت مسار التطور العالمي اخفاقها وانتهاء وظيفتها كما اثبتت مختلف تجارب حركة التحرر الوطني العربية خلال نصف القرن الماضي ان الوصول الى اي شكل من اشكال توحيد الأقطار العربية لا بد ان تكون قاعدته الأساسية استكمال مقومات الاستقلال الحقيقي لكل من تلك الأقطار باقامة انظمة وطنية ديمقراطية حقيقية , انظمة تجسد ارادة شعوبها وتحرر وتنمي طاقاتها وقدراتها الذاتية وتوفر ظروف التعاون والتكامل فيما بينها في كل الميادين السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية والدفاعية انسجاما مع ماكان يكرره عبد الناصر في اكثر من مناسبة بعد الإنفصال,  بان وحدة القوة وقوة الوحدة هما سبيل العرب الى التقدم والنهضة .
اما تيارالإسلام السياسي , وكذا الإسلام  الجهادي المتمثل اليوم بالمجموعات التكفيرية المسلحة فقد اعطى كل منهما للهوية الوطنية السورية مضمونا خاصا يعتمد على مقوم واحد هو المرجعية الدينية فالأمة بالنسبة لهذا التيار هي الأمة التي يوحدها الدين الواحد وهو الإسلام وان تجسيد ارادة هذه الأمة وصنع المستقبل الذي تنشده يتطلب العودة الى الماضي الزاهر واستعادة دولة الخلافة , ولذا فلم يكن مستغربا ان نجد التنظيمات الاسلامية الجهادية تتحاشى دوما ذكر اسم سورية في منشوراتها وبياناتها وتستبدلها بتسمية الشام او بلاد الشام تمشيا مع االأدبيات والمرجعيات السلفية التي تعتمدها وتسير على نهجها  .
السؤال الكبير الذي يطرح نفسه في هذا الصدد حيث ازمة الهوية الوطنية السورية تواجهنا باعتبارها انعكاسا أو وجها من اوجه الأزمة الشاملة والمتفاقمة التي تمر بها بلادنا اليوم ,’والتي اخذت بابعادها الكارثية حالة المأساة المهددة لوجودنا الوطني , السؤال الذي يطرح نفسه علينا جميعا هو لماذا اصبحت هويتنا الوطنية السورية في هذا الوقت بالذات موضع تساؤل عن ماهيتها وموضع تشكيك في مقوماتها وموضع تنكر لها , ولماذا يمضي البعض في محاولة اصطناع  وتركيب هويات بديلة عنها تطعن في الصميم  وحدة شعبنا وتتجاهل  حقائق التاريخ وتضحيات اجيالنا وتجهض بالتالي مشروعنا الوطني الديمقراطي السوري الواحد ؟؟؟
في محاولتنا الاجابة على هذا السؤال  نرى من المناسب ان نبدي ملاحظتين اساسيتين :اولها ان ازمة مجتمعنا السوري اليوم .والتي تلتقى في معظم مظاهرها واسبابها مع ازمات العديد من المجتمعات العربية الأخرى, هذه الأزمة الشاملة هي من وجهة نظرنا ازمة وعي وثقافة بالدرجة الأولى ,ازمة النخب الفكرية والسياسية وحركات الاصلاح والتجديد  بصورة عامة ., حيث يتجلى اليوم على ارض الواقع اضافة الى القصور في وعيها ومما رساتها القصور الفاضح في تكوينها البنيوي الوطني ,والارتداد الى روابطها العصبوية والفئوية ما قبل الوطنية برغم تاكيدها المتواصل على التزامها بقيم العقلانية والديمقراطية والعلمانية في سلوكها وفي حياتها الداخلية  ,الأمر الذي ادى من حيث النتيجة الى تقاعسها وتخلفها عن اداء دورها الوطني والعجز عن انجاز المهمات المرحلية التي تطرحها في برامجها السياسية.  اما الملاحظة الثانية فهي ان ما نواجهه اليوم  من مشاكل او اشكاليات سواءعلى صعيد بنائنا الوطني اوعلى طريق استكمال تحررنا وصنع غدنا في مسار التقدم الانساني الشامل , هذا الواقع هو حصاد جقبة كاملة من التراجعات والهزائم والخيبات التي منيت بها شعوبنا العربية , ونعني بذلك الحقبة التي اعقبت مرحلة المد التحرري الوطني والقومي في خمسينات وستينات القرن الماضي .
ففي تلك المرحلة وبرغم ما عرفه كفاح الشعوب العربية من نكسات وهزائم وفي مقدمتها نكسة الانفصال وهزيمة حزيران عام 1967 غير ان ارادة شعوب الامة العربية لم تنكسر كما ان ايمانها بمصيرها المشترك لم يتزعزع او يضعف , هذا الأمر الذي وجدنا نقيضه يسود في مرحلة التراجع والانهيار الوضع الذي ادى باحد حكام الخليج ان يعلن في حرب الخليج الثانية بعد غزو الكويت : لقد تاكد لنا ان وجود امة عربية هو اسطورة !!! .
نعم كان الحصاد المر لتراجع واخفاق الشعوب العربية في كفاحها طوال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي هو المحنة الوطنية والقومية التي تعيشها بلداننا الأن نتيجة  تفاقم اوضاع التخلف والتجزئة والتبعية ., فاذا كان المجال لا يسمح لنا هنا ان نبحث في اسبابها , واذا كان الحكم الموضوعي لا يبرر لنا رد هذه الأسباب كلها اومعظمها الى المشروع الصهيوني والعوامل الدولية الخارجية , فلا بد من الاعتراف هنا بالمسؤلية التي تتحملها القوى الوطنية والتقدمية في تلك الفترة سواء ماكان منها في السلطة في مصر وسورية والعراق والجزائر واليمن او ماكان منها في المعارضة تلك القوى التي فرطت بفرص عديدة تاريخية كان يمكن فيها تحقيق انجازات نوعية على مستوى التكامل والعمل العربي المشترك بما في ذلك تحقيق خطوات وحدوية صحيحة  تتوفر لها كل شروط الاستمرار والنجاح ,  او على صعيد القضية الفلسطينية باعتبارها القضية المركزية لجميع شعوب الامة   . كان ذلك هو المنحى والمسار الذي حكم حقبة تراجع مجتمعاتنا حتى وصلنا الى ما نحن عليه اليوم حيث اصبحت احوال بلداننا العربية تمثل وضعا استثنائيا متخلفا في عالم اليوم . ان نظرة الى هذا الوضع واسترجاع ماكانت عليه طموحاتنا واحلامنا نحن الجيل الذي عايش مرحلة النهوض والمد الوطني التحرري  انما تذكرنا بصحة ما كان قد طرحه هيغل ,ولو قد يرى فيه البعض نوعا من المبالغة التي لا تتعدى في راينا نطاق الموضوعية , ): إن كل امة لا تستفيد من الفرص التاريخية المتاحة لها , في تجسيد وحدتها وتحقيق نهضتها فإنها غالبا ما ترتد الى عهود   بربريتها(. 
يتبع
اقرأ:
د. حبيب حداد: مفاهيم ومهمات البناء والتطوير من حيز الشعارات والتنظير الى أرض الواقع والتدبير



المصدر: د. حبيب حداد: كيف تعاملنا نحن السوريون مع هويتنا الوطنية حتى الآن (3-1)

انشر الموضوع