مايو 7, 2024


د. حبيب حداد: كلنا شركاء
إن تجارب انتفاضات ماسمي بالربيع العربي ,على امتداد السنوات القليلة الماضية ,هذا اذا لم نستشهد هنا وفي هذا المجال بتجارب دول العالم الأخرى التي مثلت خلال الربع الأخير من القرن المنصرم الموجة الثالثة في التحول نحو الديمقراطية على الصعيد العالمي , إن كل هذه التجارب إنما تؤكد حقيقة أساسية واحدة وهي أنه في غياب الدولة المركزية القوية ,الدولة التي تحظى بثقة شعبها وتأييده ,الدولة التي تحتكر مشروعية استخدام القوة لا يمكن انجاز عملية التغيير والتحول الديمقراطي المنشود , والذهاب بعد ذلك  وخلال فترة انتقالية معقولة الى تطبيق أي شكل متفق عليه من أشكال الإدارة اللامركزية . هذه الرؤية أو وجهة النظر انما تستند اذن الى وعي  سليم تسنده وقائع الحياة ومسار تطور المجتمعات المتقدمة في ان بناء الديمقراطية في مجتمع يتحقق من خلال صيرورة متكاملة تشمل مختلف جوانب هذا المجتمع وتتطلب لتحقيق هذه الغاية توفر معطيات لازمة اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية وعلمية .على سبيل المثال لا الحصر فهذه دروس التاريخ القريب والبعيد ترشدنا انه لا يمكن قيام نظام ديمقراطي في بلد ما يعتمد اساسا على اقتصاد ريعي ,دون وجود اقتصاد تنموي منتج ففي هذه الحالة  تنتفي قواعد تحقيق العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص بين مواطني هذا البلد  الذين يتحولون رعايا لدى السلطة التي تتحكم بكل مصاد الدخل والتوزيع . من جهة اخرى لا يمكن تصور قيام تجربة ديمقراطية سليمة لا تتعرض للفشل أو اللإنتكاس في غيبة وجود الطبقة الوسطى التي تشكل النسبة الأكبر في الإجتماع الوطني ,الطبقة المثقفة الواعية المنتجة بكل فئاتها , والتي هي عماد نجاح كل تحول ديمقراطي والضمانة المأمونة لاستقرار وتطور وازدهار كل مجتمع . وقبل ذلك كله فهل يمكن ان يتصور عاقل يملك الحد الأدنى من الحس الوطني والإنساني امكانية الإنتقال المأمول نحو الحياة الديمقراطية والمحافظة على وحدة بلادنا واستقلالها وسيادتها في خضم الحروب الأهلية المدمرة وتشظي الوحدة الوطنية , وحيث اصبحت بلادنا ساحة صراع وتصفية حسابات للدول الأجنبية والقوى المعادية ؟؟؟.
أليس هذا هو الواقع الذي تعيشه سورية اليوم وبقية الأقطار العربية الأخرى التي عرفت انتفاضات شعبية مماثلة , إذا استثنينا التجربة التونسية طبعا ؟ , فلقد انتهت هذه الإنتفاضات حتى الأن الى الفشل بسبب عسكرتها وتشرذمها وتدويلها من ناحية , وبسبب كوابح بنية المجتمع المتخلفة القائمة بروابطها ما قبل الوطنية ,وكذا عوائق ومقاومة الدولة العميقة لارادة الإصلاح والتغيير من ناحية ثانية . فلا القديم يؤذن بالأفول ولا صورة الجديد قد ولدت أو ارتسمت بعد , حتى تتفاءل شعوبنا بقدوم غد افضل ,بل وعلى النقيض من ذلك فان العديد من بلادنا وفي مقدمتها سورية العزيزة تعيش الأن محنا مصيرية تهدد مستقبلها ووجودها !!!. ان الشعارات التي ترفعها بعض تشكيلات المعارضة وخصوصا الخارجية منها والتي تدعو الى امكانية انجاز مهمات المرحلة الانتقالية نحو بناء النظام الديمقراطي خلال اشهر معدودات أو عام ونصف ان هي الا دليل على وعي قاصر وارادات مستلبة لا ترعى  حرمة المصلحة الوطنية ولا تستشعر خطورة الأوضاع المأساوية التي وصلت اليها بلادنا الآن نتيجة  سياسات وممارسات طغمة الفساد والاستبداد الشمولي الحاكمة منذ أكثر من اربعة عقود ونتيجة ما تقوم به كل المجموعات الارهابية المتقاتلة على مختلف تسمياتها فوق تراب وطننا والتي تمثل بديلا اخطر وادهى من النظام القائم والتي ليس لها من هدف سوى استكمال تدمير سورية مجتمعا وحضارة وكيانا  .بايجاز فاننا نرى انه من واقع سورية المأساوي الراهن , ومن كيانها الوطني والسياسي الممزق في خضم حرب اهلية طاحنة لا يمكن التقدم نحو بناء نظام ديمقراطي قبل استعادة وحدة الدولة القوية المركزية واستعادة الوحدة الوطنية للمجتمع والمحافظة على وحدة جغرافية بلادنا وصيانة استقلالها ,اذ بغير توفيرهذه الشروط والمقدمات يظل الحديث عن ضرورة وامكانية  واستعجال بناء النظام الديمقراطي في مجتمعنا , واليوم وليس غدا , يظل هذا وهما قاتلا وحلما بعيد المنال ,                                                                                        .                                                                                                              
واذا كان لابد لنا في هذه العجالة أن ننتقل من حيز الشعارات المتداولة ومن نطاق الأحكام العامة النظرية  الى تأكيد بعض الحقائق التي اضحت في مرتبة المسلمات بالنسبة لعلم الإجتماع السياسي  والتي منها : أولا أن الدولة هي الشرط التاريخي الذي ينبغي ان يوجد اولا  حتى يتجسد كيان الأمة الواقعي اي حتى تنتقل الأمة من طورالماهية والامكانية الى طورالوجود وتحقيق الهوية والشخصية , او بتعبير آخر حتى تنتقل من نطاق القوة الى نطاق الفعل . هكذا يمكن الإنتقال ايضا اذا توفرت الظروف الذاتية والموضوعية الملائمة من كيان الامة الدولة اي من دولة الأقطار والكيانات العربية القائمة الى اي شكل دولتي او اتحادي على مستوى الوطن العربي الكبير.  ومن تلك المسلمات ثانيا ضرورة التمييز في واقع سورية اليوم بين السلطة الحاكمة اي سلطة  القهر والاستبداد الشمولي الوراثية التي ينبغي ان ترحل في عملية الإنتقال السياسي في اقرب اجل ممكن , وبين تغيير النظام الحالي الذي يحتاج الى عملية انتقال حقيقي تستوفي كل مراحلها وتستكمل كل مهامها باقرار الدستور الجديدا مهامها وقيام المؤسسات الشريعية والتنفيذية والقضائية ,وبين الحرص  على المحافظة على كيان الدولة السورية بكل مؤسساتها وشعبها والذود عن حياضها وصيانة وحدتها الترابية والمجتمعية  وفي موازاة ذلك اتخاذ كل الاجراءات والخطوات العملية لتنشيط دور كل من المجتمعين المدني والسياسي للإضطلاع بوظائفهما وبدورهما المطلوب في تعزيزالحياة الديمقراطية  ,وثالث تلك المسلمات التي ينبغي ان نحرص على سلامتها ووجودها مهما كان لنا من ملاحظات على سلوكها الذي تعود مسؤوليته بدرجة رئيسية  الى سلطة الاستبداد الحاكمة ,ألا وهي المؤسسة العسكرية . ان جميع القوى الوطنية الديمقراطية السورية ان تتخذ موقفا واضحا لا لبس فيه من هذه القضية الوطنية وان حل الجيش السوري الحالي او تفتته  وانهياره  انما يعني انهيار ما تبقى من كيان الدولة السورية التي تقوم المنظمات الارهابية السلحة الآن باستكمال تحقيق هذه المهمة التي تعتيرفي مقدمة مواصلة تحقيق أهداف المشروع الصهيوني .  ولنا في ما حل بكل من العراق وليبيا  واليمن  خير شاهد على ذلك .لا نبالغ هنا او نغالي اذا اعترفنا ان الجيش السوري كان في مقدمة الجيوش العربية من حيث التزامه بواجبه الوطني وتضحياته في سبيل قضايا الامة ومن حيث كفاءته المهنية والعملية , ولكن الانحرافات التي استجدت على بنية هذا الجيش كما تفعل الأنظمة في العديد من بلدان العالم الثالث , واستبدال وظيفته من مهمة الحفاظ على استقلال الوطن وتحرير الأرض المحتلة الى المحافظة على استمرار النظام والتنكر لأهداف شعه في الحرية والمساواة والدالة الاجتماعية تتحمل مسؤوليته السلطة الغاشمة المستبدة . ان الحرص على الجيش ومؤسساته الأن لا يعني بأي حال من الأحوال ان لا تكون مهمة اصلاح المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية على رأس المهات التي ينبغي انجازها في مرحلة الإنتقال السياسي .                                                                                                                     
وبعد فاذا كان المجتمع الدولي الأن يتولى واقعيا مهمة التوصل الى حل للمسالة السورية عن طريق الدولتين المعنيتين بصورة مباشرة وهما روسيا الإتحادية والولايات المتحدة ,واذا كانت المقتلة السورية تتواصل بجرائمها حاصدة في كل يوم المزيد من الضحايا ومدمرة المزيد من كياننا الوطني ووجودنا الحضاري والإنساني  ,واذا كنا في كل يوم نتلقى المزيد من تصريحات المسؤولين الدوليين ,وتطالعنا نتائج المؤسسات الراسية في دول الغرب بأنه لا يمكن بعد الذي حصل ان تعود سورية دولة موحدة وانها حسب هذه الدراسات ستنقسم الى كيانات ,على اقل تقدير, وانه في ضوء هذا المصير المتوقع يمكن لهذه الأقسام اوالدويلات الأربع ان تقيم فيما بينها شكلا من نظام فيدرالي اذا تعذر عليها ان تعود وتلتقي في دولة موحدة !!! . فهل مثل هذه النهاية المأساوية هي ما طالب به شعبنا عند انطلاق ثورته قبل خمس سنوات ونيف  وهل ىمن اجل هذا الهدف قدم تلك التضحيات الجسام؟؟؟  . ان قدرنا نحن السوريين وخيارنا الوحيد اذا اردنا ان نعيش احرارا وفي وطن حر في القرن الواحد والعشرين ان نتمسك بوحدة الرؤية التي هي العروة الوثقى لانتصاركفاحنا الدامي في تحقيق مستقبل وطننا المنشود وهي تأكيد ايماننا الراسخ سواء على صعيد الموقف او الممارسة وهو :أن سورية الديمقراطية ,سورية دولة المواطنة الحرة المتساوية دون اي تمييز بين أبنائها ,هي سورية الموحدة أولا ,وسورية القوية بشعبها وقدراتها الذاتية اولا ,وسورية التي يدير شؤونها في المرحلة الانتقالية لانجاز واستكمال خطوات الحل السياسي وفق قرارات الشرعية الدولية نظام وطني يجسد ارادة شعبها ويستجيب لتضحيات شهداءها الذين تتالت قوافلهم منذ مطلع القرن الماضي وحتى يومنا هذا .       



المصدر: د. حبيب حداد: في غياب دولة مركزية قوية لايمكن نجاح أية تجربة ديمقراطية حقيقية

انشر الموضوع


اشترك بالإعلام الفوري بالاخبار الجديدة بالإيميل .. ضع بريدك