مايو 18, 2024

د. حبيب حداد: كلنا شركاء
يتساءل السوريون منذ سنوات عن الأسباب التي ادت الى انحراف انتفاضتهم الشعبية السلمية عن مسارها الطبيعي وابتعادها عن الاتجاه الذي كان يؤمل ان يؤدي الى بلوغ الأهداف الوطنية التحررية التي انطلقت من اجل تحقيقها , لتتحول  بعد ذلك من مرحلتها المدنية الى مراحل اخرى يستكمل ويمهد كل منها للأخرى وهي مراحل العسكرة فالأسلمة فالتدويل . وهكذا كانت نتيجة هذا المسار الخطير تحول الحراك الشعبي الجماعي من اجل وضع حد نهائي لحياة القهر والتخلف والإستبداد والفساد الى حرب اهلية مدمرة  ,بأبعادها الإقليمية والدولية , حرب تشي وتنذر في حال استمرارها الى القضاء على مقومات وجودنا الوطني دولة ومجتمعا وتاريخا . فبعد ان وصلت الأوضاع الى هذه الحال وبعد ان فقد السوريون وحدتهم الوطنية وقرارهم الوطني المستقل  ,وكان امرا منطقيا ومنتظرا , وقد شهدت بنفسي ذلك في العديد من المناسبات ,أن يطرح السوريون على أنفسهم وعلى بعضهم بعضا السؤال التالي : ترى ألم يكن الأجدر بنا لو  كنا نعلم ان الإنتفاضة ستنتهي بنا الى هذا المآل والى هذه الأوضاع التي لم تكن تخطر على بال , ان ننتظر سنوات اخرى  ونصبر على المزيد من شقاء وقساوة الإستبداد  وامتهان الحقوق مع توفر الأمن ,حتى تتوفر الظروف الأفضل لتأمين نجاحها وتجنبها المطبات والتحديات التي يمكن ان تجهض روجها التحررية التقدمية وتغتال هويتها الإنسانية الحضارية ؟
وتبعا لهذا التساؤل الذي يعكس شكلا من اشكال المراجعة الوجدانية  والتقييم الموضوعي  لدور كل العوامل الذاتية التي ادت بالإنتفاضة السورية الى مثل هذا الوضع , كان هناك تساؤل أخر يتناول طبيعة وحجم مسؤوليات المعارضات السياسية والنخب الفكرية السورية التي اسهم معظمها بخطابه الغرائزي وغير العقلاني ,وبمواقفه المنطلقة من ردود الفعل ومن رؤيته القاصرة والبعيدة عن مواجهة المهمات الإنتقالية  الحقيقية المطروحة , في الوصول الى الوضع المأساوي الذي تعيشه بلادنا اليوم ,الوضع الذي بات يهدد حاضر ومستقبل وحياة كل انسان سوري ,
ان مثل هذه التساؤلات التي واجهت مسار الأوضاع في سورية منذ اكثر من خمس سنوات لم تكن بطبيعة الحال قاصرة على سورية واحدها كما هو معروف , بل واجهت سيرورة كل الإنتفاضات الشعببية الأخرى في اطار ماسمي بالربيع العربي,تلك الإنتفاضات التي كان دافعها الأساس نقل مجتمعاتنا العربية من واقع الاستبداد والتخلف والفوات التاريخي الى الحداثة  وحياة العصر . فهل كان على شعوبنا وعلى مجتمعاتنا التي اصبحت تمثل في مطلع القرن الواحد والعشرين حالة استثنائية بل و لنقل شاذة في مسار التطور العالمي وخاصة بعد الموجة الثالثة من التحولات الديمقراطية التي شهدها الربع الأخير من القرن الماضي  , هل كان عليها ان تصبر اكثر مما صبرت وأن تتحمل اكثر مما تحملت من سياسات التهميش والاستلاب والاستعباد بانتظار مجيئ ظروف محلية او دولية مثالية او اكثر ملاءمة  تنتفض فيها  بحيث تكون قادرة على تحطيم قيودها ومتابعة  خطاها نحو افاق الديمقراطية والكرامة والمساواة ,وبناء مستقبلها الذي يتفق وقدراتها الحقيقية ويلبي طموحاتها المشروعة ؟
كان فولتير يرى ان كل انتفاضة وكل حركة ثورية تحتاج الى توفر ثلاثة مقومات كي تنطلق وتنجح في تحقيق اهدافها . اول تلك المقومات وجود ازمة عميقة ومتفاقمة في المجتمع ناجمة عن حكم ظالم ومستبد استمر ردحا من الزمن ,غير ان هذا العامل بحد ذاته لا يؤدي , حسب ما ذهب اليه فولتير ,الى اندلاع الثورة اذا لم يشعر الشعب بواقع الظلم والحرمان والاضطهاد ويصمم على الخلاص منه , وهذا الأمر هو ماعبر عنه شيخ التنويريين العرب  في مطلع القرن الماضي عبد الرحمن الكواكبي عندما رأى  ان شعبا يستسيغ حياة الظلم والإضطهاد ويعتاد عليها هو شعب لا يستحق الحرية , اما العامل الثالث الذي لا بد منه لاستكمال مقومات الثورة  فهو الحادث المباشر او الزناد الذي يطلق شرارة انفجار تلك الثورات والانتفاضات الشعبية  . هذا الحادث الذي كان كما نعلم المفحر المباشر والخاص بكل من انتفاضات الربيع العربي . هكذا فمن وجهة نظر علم الاجتماع السياسي يمكن الحكم على ان الظروف الموضوعية لتفجر الانتفاضة التحررية السورية كانت متوفرة وناضجة وهي التي ترجع الى ابعاد الازمة المجتمعية العميقة في سورية والتي كانت في طبيعتها الشمولية :أزمة نظام حكم غير قابل للإصلاح من داخله بفعل بنية السلطة المافيوية التي صادرت وشخصنت مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية , وأزمة ثقافة تقليدية راكدة وغيرمنفتحة على صيرورة الكل الإنساني الأشمل بدعوى التمسك والحرص على الأصالة  , ووعي ماضوي سلفي سائد ومهيمن , وبالتالي ازمة مجتمع تخلف عن ركب التطور الديمقراطي النهضوي العالمي  . والثورات والانتفاضات الشعبية كما تعلمنا دروس كل الثورات المعاصرة  لا يمكن ان تتحكم بمسارها الحتمية التاريخية التي تكفل انتصارها لمجرد نضج الظروف الموضوعية فهذه هي النظرة الدوغمائية التي نادت بها العديد من الايديولوجيات الأصولية سواء منها الماركسية المبتذلة التي اعطت للمادية التاريخية مفهوم الميكانيكية الحتمية وكذلك الحركات القومية التي رات في انتصار ارادة الامة في وحدتها وتجسيد شخصيتها القومية امرا مطلق التحقق برغم مايمكن ان يواجه من عراقيل وعقبات , وفي العقود الأخيرة تواجه مجتمعاتنا العربية  , بعد تعثر واخفاق مشاريعها النهضوية , تيارات الدوغمائية الأصولية السلفية التي توسع انتشارها  ,في ظل شعار الصحوة الإسلامية ,  بكل اتجاهاتها الرئيسية  سواء منها الدعوية  ,أوتيارات الإسلام السياسي , أوالمنظمات الجهادية التكفيرية التي تمثل حاليا اكبر الأخطار على  وجودنا وعلى هويتنا الإنسانية .
واليوم وفي مواجهة تداعيات المحنة الوجودية   لوطننا وما اتخذاته من ابعاد كارثية ومن تداعيات محلية واقليمية ودولية نجد ان معارضاتنا  التي اعطى بعضها لنفسه صفة الممثل الشرعي والوحيد للشعب السوري تستمر في مواصلة نفس النهج الذي سلكته طوال السنوات الماضية بتحميل المسؤؤلية عن فشلنا في تحمل دورنا , الذي كان ينبغي ان نضطلع به ,للآخرين اي للمجتمع الدولي بكل أطرافه  واتهامه تارة بالتآمر والتواطؤ على قضيتنا الوطنية وتارة اخرى بالتقصير والإخلال بالتعهدات التي كان قد قطعها على نفسه بالإستجابة لكل ما نطلبه منه من دعم ومساندة وعلى كل الأصعدة !!!  . وامام ماساة حلب الشهباء الدامية التي تختصر ماساة الوطن السوري كله , والجرائم التي ترتكب يوميا من قبل الأطراف المتقاتلة ترتفع اصوات الاستنكار والادانة الدولية , كما ترتفع في الأن نفسه هذه الأصوات من قبل تشكيلات المعارضة السورية باستنكاروادانة  الجرائم ضد الانسانية التي يرتكبها الطيران الروسي والنظام وحلفاؤه من جهة والمنظمات الارهابية التي تتخذ من  أحياء حلب الشرقية رهينة لها من جهة ثانية . وهذه المواقف مطلوبة وضرورية عسى ان يتحسس الرأي العام العالمي هول وفداحة المأساة التي تعيشها حلب وسورية كلها ومخاطرها على المجتمع الدولي فيتحرك للضغط على حكوماته لاتخاذ الموقف الصحيح من المسألة السورية والذي يقتضي ان تكون الخطوة الأولى ايقاف هذه الحرب المدمرة في اسرع اجل ممكن . ان مواقف الشجب والادانة والاستنكار مطلوبة من كل القوى التي تعز عليها قضايا الحرية والديمقراطية وانتصار ارادة الشعوب في كل ارجاء كوكبنا  . لكن ما هو مطلوب من معارضاتنا السورية ونخبنا الفكرية وكل القوى الحية في مجتمعنا قببل ذلك كله ان تتجاوز مواقف الشجب والرفض والادانة  لتطور الأحداث الذي تشهده بلادنا . موقفها ينبغي ان يستند في هذا المنعطف التاريخي المصيري التي تمر ببه سورية والمنطقة كلها الى العودة الى الذات استجابة لنداء الوطنية السورية .هذه العودة التي تقتضي الرجوع عن المسار الخاطئ المدمر بكل الخطوات والمواقف والمحطات التي شملها , والتي  كانت في حصائلها وبالا على مسار الثورة وعلى المستقبل المنشود , اي امكانية الوصول الى البديل الذي انطلقت الانتفاضة وقدم شعبنا كل تلك التضحيات الجسام من اجل بلوغه . ان مستقبل الشعوب الذي تنجح الثورات والانتفاضات الشعبية وحتى الإنقلابات وحركات الإصلاح في بنائه لا يمكن ان يتحقق  بمواقف ردود الأفعال وسياسات تدمير او انهاءالنظام القائم بل لابد لقوى التغيير هذه ان تمتلك الرؤية الاستراتيجية الصحيحة وبرنامج العمل الذي يرسم ويحدد طبيعة مهمات الطريق نحو انجاز مهمات الانتقال والتحول واستكمال مقومات  صنع البديل المطلوب , ولابد قبل ذلك ان تكون قوى التغيير هذه مؤهلة بوعيها والتزامها الوطني والأخلاقي على ايجاد الاطار , موحد الفعل والموقف والخطاب , والمؤهل للتعبير الصادق عن ارادة شعبها وتطلعاته الحقيقية .
فهل تستطيع قوى المعارضة الوطنية الديمقراطية السورية بعد كل ما جرى وبعد هذا الحصاد المر الذي أوصلتنا اليه اخطاؤنا قبل اي سبب آخر , هل يمكن لها بعد  ان تنهض بمسؤولياتها وتكون في مستوى هذا التحدي ؟
اقرأ:
د. حبيب حداد: الى متى يظل السوريون محكومين بالأمل



المصدر: د. حبيب حداد: أين كان الخطأ- أفي توقيت الإنتفاضة أم في خطوات الطريق نحو تحقيق أهدافها ؟

انشر الموضوع