مايو 18, 2024

د. حبيب حداد: كلنا شركاء

في خضم توالي فصول المحنة المصيرية التي يعيشها وطننا منذ سنوات , وما خلفته حتى الآن من تأثيرات ونتائج سلبية على كل صعيد في حياة مجتمعنا , ما أحوجنا نحن السوريين , اليوم قبل الغد , الى استعادة وعينا المغيب , وحرصنا المعهود على تمتين عرى وحدتنا الوطنية الجامعة , وتأكيد تصميمنا على تحرير قرارنا الوطني المصادر ,كي نكون مؤهلين وقادرين على متابعة الخطى في الإتجاه الصحيح لإنقاذ بلدنا مما يواجهه من مخاطر جدية تهدد كيانه , ومن اجل تحقيق تطلعات شعبنا في الحرية والكرامة والتقدم ومواكبة مسار العصر .
اليوم يدرك السوريون جيدا انه لم يكد ينقضي العام الأول من عمر ثورتهم الوطنية التحررية التي ارادوا منها ان تستكمل مقومات الاستقلال الحقيقي , في مرحلة تاريخية  يطوي فيها العالم آخر صفحات الأنظمة الشمولية المستبدة , حتى تم حرف هذه الثورة عن مسارها الشعبي السلمي الحضاري بفعل عوامل واسباب داخلية : موضوعية وذاتية تتعلق بطبيعة وسياسات النظام الحاكم , وبطبيعة بنية المجتمع السوري وأوضاع قواه الوطنية والديمقراطية بعد مرور اكثر من اربعة عقود على حياة القهر والاضطهاد والتهميش في ظل هذا النظام . هذا من جانب ومن الجانب الآخر فقد كان الدور الذي مارسته الدول الإقليمية ,والأجنبية بصورة عامة , وتقاعس الأمم المتحدة عن تحمل مسؤولياتها تجاه المسألة السورية التي اخذت ابعاد حرب اهلية مذهبية طاحنة ,كان هذا الدور في مقدمة العوامل والاسباب لاستمرار وتفاقم مخاطر هذه المحنة التي كان الشعب السوري ضحيتها الأولى والتي تشابكت تعقيداتها مع كل معضلات المنطقة .
فالثورة السورية لم تكن حركة احتجاج محدود,او تمرد مسلح طارئ , من اجل تحقيق بعض المطالب والإصلاحات الجزئية , أو بهدف اسقاط سلطة قائمة والمجيئ بسلطة افسد , ولا استبدال نظام بنظام اسوأ ,انما ارادها شعبنا وبعد كل التضحيات الجسام التي قدمها ان تكون عملية تغيير وتطوير شاملة لكل جوانب مجتمعنا السياسية والإقتصادية والعلمية والثقافية حتى يتجاوز وضعية  التخلف والفوات التاريخي ويبني دولة المواطنة الحديثة المزدهرة , وحتى تعود سورية للاضطلاع بدورها التنويري التحرري الذي تميزت به دوما سواء  على صعيد امتها او على الصعيد العالمي . وهذا الدور المتميز الذي عرفت به سورية لم يكن وليد رغبة ذاتية  ,او نزعة نوستولوجية , او نظرة فوقية تجاه شعوب المنطقة وادوارها , لكنها حقائق التاريخ والجغرافيا  ومعطيات الواقع الموضوعي هي التي اعطت لسورية واهلتها لهذا الدور عبر حقب التاريخ المتعاقبة . ولعل في مقدمة تلك المعطيات الكيانية طبيعة بنية الجسد المجتمعي السوري الذي تميز بتنوعه الإثني والقومي والديني والمذهبي والثقافي .هذا التنوع المتكامل الذي كان على الدوام مصدر قوة وتطور وابداع والذي يمكن ان ينقلب الى عامل تشردم وتناحر وتفتت اذا اجهض المشروع الوطني الديمقراطي التحرري لسورية المستقبل , واذا بلغت حالة التردي والإنهيار الى حدود نحر وتدمير الهوية الوطنية السورية وتصفية مقوماتها واغتيال روحها الوطنية الجامعة  كما هي الحال التي وصلت اليها أوضاعنا اليوم .   لكن كيف ولماذا حدث ذلك ؟؟؟
من المعروف ان الإنسان يرث منذ ولادته روابط الإنتماء التي لا خيار له فيها . فهو فرد في اسرة  ,وعضو في عشيرة وقبيلة , وواحد من سكان قرية او مدينة وبيئة معينة, كم انه عادة يرث الإنتماء الى دين ما أومذهب معين . وبعد ذلك ,ومن كونه مواطنا في مجتمع ,فانه ينتسب الى نقابة مهنته اوإلى أي من منظمات وهيئات المجتمع المدني كما وقد يقتنع بأهمية انتسابه الى حزب سياسي تنسجم افكاره مع تطلعاته لخدمة وطنه . فأين يمكن ان نصنف رابطة الهوية الوطنية بالنسبة لهذين النوعين من الروابط ؟ هل هي رابطة انتماء مفروض ام هي رابطة  انتساب حر مؤسس على قناعة اكيدة والتزام مطلق ؟ الواقع ان هناك حقيقتين في هذا الصدد وقد اضحتا من المسلمات في علم الإجتماع السياسي : اولاهما ان الهوية الوطنية هي رابطة انتماء ورابطة انتساب في الوقت نفسه ,فهي تمثل جوهر ارتباط المواطن الفرد ,ولحمة ارتباط المجتمع كله  بالوطن الذي يأخذ هنا معنى رمزيا روحيا اكثر من كونه واقعا ماديا كدولة وشعب وجغرافيا . وهذه الرابطة ,التي تتجاوز كل الروابط الأخرى ما قبل الوطنية وتستوعب تلك الروابط في ما هيتها الإيجابية ,هي التي يعتبرها المواطن الفرد هويته الأساسية طوال حياته , بدليل انه اذا اضطر الى الهجرة او النزوح الى وطن أخر بدافع اقتصادي اوخشية اضطهاد السلطات الحاكمة في بلده فانه يظل على الدوام على صلة روحية وثيقة بوطنه الأم وغالبا ما يبرر وجوده في المنفى وفي وطن ثان بان ذلك قد يساعده كي يؤدي واجباته بصورة افضل تجاه وطنه الأم . أما الحقيقة الثانية فهي ان الهوية الوطنية ,وبالتالي الرابطة الوطنية , من حيث عناصر تكوينها الجامعة ليست شيئا ثابتا ونهائيا بل انها ماهية متطورة ومتجدده في مجرى التاريخ الانساني والتطور الحضاري ,اي انها تكتسب مقومات جديدة وتتجاوز مقومات وعناصر اخرى  يكون قد عفا عليها الزمن . هكذا كان جوهر الرابطة الوطنية مثلا منذ ان راى ابن خلدون ان قوامها الأساس هو العصبية القبلية او الدينية او المذهبية  ,وهذا كان منطلق التصور الأيديولوجي التراثي للأمة في طابعه الديني والقومي الذي لم تتحرر منه  حتى اليوم فصائل الإسلام السياسي وبعض المنظمات القومية الشوفينية , الى روسو الذي راى ان قاعدتها  هي العقد الاجتماعي الى دوركهايم وماكس فيبر وآخرون الذين اكدوا على مركزية دور الدولة في صوغ كيان الأمة ونقلها من نطاق الامكانية الى حيز الواقع والفعل . الى عصر العولمة الذي نعيشه الان حيث استقر مفهوم الوطنية على انها الرابطة التي توحد المصير المشترك لمواطنين  احرار  متساوين في الحقوق والواجبات يعيشون في ظل دولة ديمقراطية حديثة.
اذن كيف ولماذا وصلنا نحن السوريين الى هذا الوضع المأساوي حيث اصبح السؤال حول ازمة الهوية الوطنية المستهدفة والتي اثخنت بكل الطعنات المسمومة التي تلقتها من كل حدب وصوب , هو الوجه الأخر للسؤال الذي يطرحه كل منا عن الأسباب التي ادت الى اخفاق ثورة شعبنا في تحقيق تطلعاته في التحررمن نظام التسلط والإستبداد والفساد ,ودحر قوى التخلف والتكفير والإرهاب , وبناء دولة المواطنة الموحدة.. إن  الذين حاولوا التلطي طوال السنوات الخمس الماضية خلف شعار المشروع الوطني الديمقراطي لسورية المستقبل لم يتأخروا كثيرا عن كشف منطلقهم الحقيقي  وغايتهم   المنشودة في انهم لا يؤمنون بجوهر واسس العملية الديمقراطية وانهم كانوا يستخدمون ويرددون , للتغطية على حقيقة مواقفهم ,بعض الشعارات المفضوحة بأنهم مع الدولة المدنية التي يبالغون في تعداد مواصفاتها ,التي لا معنى لها , بقولهم انهم ليسوا مع نظام ديمقراطي (او علماني ) لكنهم مع دولة مدنية تعددية تداولية !!! وانهم يرفضون بشدة بعض الشعارات الخطيرة التي جاءت عن طريق المستشرقين ومحاولات التغريب مثل شعار : الدين لله والوطن للجميع !!! .ومن النتائج التي اوصلتنا اليها عملية تخريب المجتمع والانسان , التي كان الشعب السوري ضحيتها طوال عقود  ,ان العديد من المجموعات السياسية اصبحت تفصل لسورية ديمقراطية خاصة على هوى مصالحها  اذ اخذت تنادي بضرورة الأخذ بنموذج الديمقراطية التوافقية على الطريقة اللبنانية او بنظام المحاصصة التمثيلية الإثنية والطائفية التي انتهى اليها الوضع في العراق بعد تدمير دولته !!! والمؤسف ايضا ان بعض احزاب المكونات القومية التي نظر اليها كقوى سياسية ديمقراطية علمانية قد انجرت الى المواقع الخطأ عندما استبدلت المشروع الوطني السوري الديمقراطي الموحد , وفي الظروف الصعبة والمصيرية التي يمر بها وطنها  , بمشاريع تقسيمية وممهدة للانفصال والتي لن تؤدي في حال استمرار تبنيها الا الى المزيد من الكوارث التي تلحق بالشعب السوري بكل مكوناته.                                                                                                                    
وبعد فاذا لم ندرك نحن السوريين حتى الآن  ان الهوية الوطنية السورية ,تعاني ازمة عميقة في روحها وماهيتها  ,واذا لم نعد الى التسلح  بوعينا السليم وارادتنا الفاعلة بعرى هذه الوطنية الحضارية الانسانية الجامعة فان مما لا شك فيه ان مجتمعنا يواجه خطرا وجوديا لا يوازيه خطر آخر .
اقرأ:
د. حبيب حداد: أزمة ثورة مجتمعية أم أزمة هوية وطنية



المصدر: د. حبيب حداد: أزمة ثورة مجتمعية أم أزمة هوية وطنية

انشر الموضوع