مايو 6, 2024

د. أسعد الصالح: كلنا شركاء
إذا كان الكذب فناً ومهنةً وصفةً فإن تصديقه لا يستدعي غالباً وصفاً أو حالة لازمة. الذي يكذب ويتم كشف كذبه يطلق عليه لقب “كذّاب.” الذين يصدقون الكذب لا يتم وصفهم بأي شيء، وكأنهم في حلٍ من المسؤولية الأخلاقية المتعلقة بانطلاء الكذب عليهم، كما انطلت الخرافات على أهل العصور القديمة. بعض حالات تصديق الكذب ترقى إلى سذاجة عند المصدق أكثر مما تستدعي مهارة عند الكاذب. طيبة القلب ليست مدحاً إذا كانت مرتبطة بتصديق الأكاذيب. قولنا إن “الناس البسيطة” تصدق الكذب يجعلهم أناساً غير بسطاء لأن تصديق الكذب قد ينزع بساطتهم ويخرج أسوء ما فيهم. مثلاً، الذي يصدق خرافات بعض الشيعة ضد السنة أو خرافات بعض السنة عن الشيعة (مثلاً ان الشيعة لديهم مصحفاً خاصاً) لن يصبح إنساناً بسيطاً وهو يتوعد السنة بالثأر أو الشيعة بالكفر. في اللغة الإنجليزية هناك عبارة تقول “كان يجب أن أعلم أفضل”
“I should have known better”
تقال هذه العبارة في سياق من يغفل عن حقيقة أو يتم استدراجه ليصدق كلاماً لا دليل عليه أو يعطى الثقة بشكل متسرع. تحصيل المعرفة وعدم الانخداع بالظواهر أمر إشكالي منذ القدم. لكن الأمر الذي يتكرر باستمرار هو أن الناس تفضل تصديق بعض الأمور على أنها معرفة حسب موافقة الأمر لطريقة تفكيرهم.هناك ما أسميه “أختيار التصديق” وهو الحالة التي نراها عندما يصدق الإنسان طرفاً دون آخر وكلا الطرفين قد يكون كاذباً. مثلاً، قناتان تنشران الكذب. يقوم زيدٌ بتصديق القناة الأولى ويصر على أن القناة الثانية كاذبة، بينما يأتي عمرو فيصدق الثانية ويتهم الأولى بالكذب. الوعي بوجود الكذب عند زيد وعمرو أمر صحي سليم، لكن كليهما وقفا أو أوقفا الوعي عند حد معين، وهو حد يبدأ بعده التصديق القادم بكل ثقة من ساحة التكذيب. تناول المعلومات التي تضفي مزيداً من المصداقية على قناعاتنا، هو تحيز مسبق كما بين أستاذ علم النفس في جامعة كورنيل، د. توماس جيلوفيتش في كتابه (كيف نعرف ما هو على غير حقيقته) How We Know What Isn’t So
يقول فيه: “هناك تحيزات كامنة في البيانات التي نعتمد عليها في تشكيل معتقداتنا، وهي التحيزات التي يجب معرفتها والتغلب عليها إذا أردنا التوصل إلى أحكام سليمة أوالمعتقدات صحيحية” (ص 6).
كاتبة صحفية مصرية نشرت مرة في الأهرام أن عمرو خالد يمشي مع امرأة سافرة (كأنها اكتشفت حلاً لزيادة السكر في مصر—أقصد مادة السكر وليس مرض السكر). تشعر وأنت تقرأ المقالة أنها تريد فعلاً أن يكون الخبر عن عمرو خالد صحيحاً لكي تهاجمه بكل شراسة وتنفث قناعاتها المسبقة عن الدعاة الجدد. عندما ظهر كذب الخبر لم تسفر الكاتبة عن مصداقيتها بالاعتذار. الخبر كذب بل تافه أصلاً لكن تصديق الخبر وكتب مقالة عنه في جريدة الأهرام يرفع السكر لدى الحالة الثقافية لأي بلد.
مثال آخر: نشرت كلنا شركاء مقالة عنوانها “لمى الأتاسي: رسالة مفتوحة الى سيدة لا نسمح لها ان تسقط”: http://all4syria.info/Archive/366722
لكن المقالة مبينة على تصديق (لا أعرف سببه) لمقالة مفتراة وليست بقلم الروائية السورية غادة السمان. بتاريخ 24 أيلول من هذا العام ردت غادة السمان على الافتراء وكذبت المقالة المنسوبة لها.
http://www.addiyar.com/article/1238733-نصائح-إلى-منتحلي-أبجديتي-ومزوري-كتبي-غادة-السمان
تكذيب الخبر وقع قبل نشر كلنا شركاء مقالة لمى الأتاسي، وكان المفترض من لمى أو كلنا شركاء أن يتأكدوا أولاً من أن مقالة غادة السمان صحيحة قبل أن يكتبوا أو ينشروا رداً عليها، مع ملاحظة أن رد لمى الأتاسي راقٍ لولا أنه داخل في دائرة التصديق.
نحن السوريون (في سياق ما يجري في بلدنا) يبدو أننا نعشق اليقين دون برهان ولا نحب الشك الذي يعصم الإنسان أحياناً من الغوص في بحر التصديق. قبول شعارات باسم سورية، أهداف باسم سورية، مقالات باسم سورية كان أمراً مألوفاً وربما مع كثرة تفشي حالات الكذب سيقل منسوب التصديق.
لكن تبقى الحالة السورية مبنية على أطراف تكذب وأطراف تصدق. كان ولا يزال ديدن كثير من السوريين التصديق بأن الإسلاميين هم الطريق إلى النصر وأنهم سيحررون سوريا من بشار وربما بعدها يقيمون دولة إسلامية لا مثيل لها (كأن الثورة قامت فقط لأن سورية لم يكن فيها إسلام!). البعض كان ربما يتصور أن المسلحين سيسلمون الثورة لجماعة الأئتلاف طالبين منهم فقط الدعاء! تناحر الإسلاميين فيما بينهم من قبل وصولهم إلى سورية ومن بعده لا يتم التطرق إليه (خاصة من الإعلام الضخم الذي يريد أن يصور الحرب في سورية على أنها فقط بين معتدلين ونظام). إذا قضى جيش ” الإسلام” على جيش الأمة فهذا لمصلحة الثورة وإذا تصالحوا فلمصلحة الثورة وإذا بقيا على صراعهم فكل واحد سيحمي الثورة. شعارات وخطابات المروجين لتسليح الثورة (وبعضهم إعلاميون في قنوات كبيرة) تقود الكثيرين إلى تصديق أن تسليح الثورة هو “طريق النصر”، وكأن الثورة عبارة عن جيش كان ينقصه التسليح فقط، أو كأن النصر طريق واحد معلوم المسافة والمدة الزمنية لقطعه.
بالمقابل، النظام السوري هو عبارة عن منظومة متكاملة من الكذب. مثلاً، تسليم بشار السلطة هو كذبة لا تنطلي على الديمقراطية. بشار لا يفتح فمه في لقاء دون الكذب أما المحيسني فلن يسمي وعوده بفتح حلب أكاذيباً بل رفعاً للروح المعنوية—التي ارتفعت معها أرواح كثيرة لا تقلق مضجع المحيسني كما لا تقلق بشار قتلى جيشه. قناة الدنيا قد تنشر الأكاذيب لكن هذا لا يعني أن يُكذّب الإنسان تلك القناة مع ظنه أن فيصل القاسم في آرائه المتحيزة يمثل المصداقية. القاسم يوجه وعي من يتابعونه من الشباب والشابات بطريقة داعشية، كما أراها. أتباع القاسم قد يعتقدون أنهم متنورن وليسوا متعصبين أبداً، فهم يسمعون كلام الحقيقة والنقد الفعال والمعرفة من الدكتور فيصل القاسم!!! متى ما وصلوا إلى هذه القناعة فكل ما يلقيه فيصل القاسم يتم تلقفه، حتى لو قال في أحد مقالاته: “هل سمعتم يوماً دولة غربية تريد أن تمنع المسلمين من دخول المساجد، فما بالك أن تدعو إلى تغيير دينهم وإقصائهم من الوجود، كما تفعلون أنتم أيها الكلاب المسعورة يا من تسمون أنفسكم علمانيين؟” (http://www.alquds.co.uk/?p=628732)
هذا الخطاب داعشي بدرجة “أمير جماعة” ولا يهم هنا أن نعرف من هم أصلاً الذين يهاجمهم القاسم أو ما هو الفرق بين علمانيتهم وعلمانيته هو، إن كان حقاً هناك علمانية أصلاً في بلادنا العربية. يدعي الأسد أنه علماني مع أن حكومته تشرف على الأوقاف والمساجد—وفي رواية المحاربين للنظام من داخل المدن وأحياناً من قرب المساجد—يشرف على تدمير المساجد أيضاً. ولأن الدين لله، فإن فيصل القاسم نشر منذ ثلاثة أعوام دخول المستر بن في الإسلام، ورغم قدرته على تحري الخبر لمعرفته اللغة الإنجليزية فقد آثر أن ينشر الخبر كما وجده على النت.
ضمن منظومة التصديق نجد من يقول للسوريين أن حافظ أسد باع الجولان وكأنه مثلاً اطلع على وصل البيع والشراء. نجد هناك من يكتب مقالات ويقول أنه بعد 6 أشهر سيحسم الأمر في سورية. آخر يكتب مقالات سردية مشوقة ضد بشار ونظامه وكأنه مطلع على الغيب وعلى تفاصيل ما يجري عند النظام. المطلوب من السوري أن يصدق باسم المعارضة كل أكاذيب المعارضة وإن كان مع النظام فتراه يصدق النظام وكأنه وصل الى حالة إيمانية لا يرقى إليها الشك بصدق النظام.
الكذب لن ينتهي من العالم. لكن حالة الاستسلام للتصديق والذي بدوره يشجع على الكذب، أمر لا يصدق. هناك رجال يصلون إلى الحكم بالكذب ويحافظون عليه بالكذب ويحيطون أنفسهم بإعلاميين للكذب. هناك من يعارضون الحكام بالكذب ويتهمون الحكام بالكذب ولديهم إعلاميون يكذبون على الرؤساء باسم المعارضة. بعيداً عن تناحرهم يبقى التصديق هو المعيار الفاصل بين من يتحرى الصدق ومن يتحرى الكذب، ولكل مجتهد نصيب من الحقيقة أو الوهم.
اقرأ:
د. أسعد الصالح: حلب لا ترحب بكم



المصدر: د. أسعد الصالح: اختيار التصديق

انشر الموضوع


اشترك بالإعلام الفوري بالاخبار الجديدة بالإيميل .. ضع بريدك