أبريل 28, 2024

أودّ أن أستهلّ مقالي بهذه الواقعة النبوية ذات المعاني الجليلة:

“حدث أن خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة له، فلما أفاء الله عليه، قال لأصحابه: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نفقد فلاناً، ونفقد فلاناً، قال: انظروا هل تفقدون من أحد؟ قالوا: لا، قال: لكني أفقد جليبيباً، قال: فاطلبوه في القتلى، قال: فطلبوه، فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم، ثم قتلوه، فقالوا: يا رسول الله، ها هو ذا إلى جنب سبعة قد قتلهم، ثم قتلوه، فأتاه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقام عليه، فقال: قتل سبعة وقتلوه، هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه، مرتين، أو ثلاثاً، ثم وضعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ساعديه، وحفر له، ما له سرير إلا ساعدا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم وضعه في قبره” ( bit.ly/322oiAI).

هذه القصة الجميلة سمعتها ذات يوم من شيخ سوري (bit.ly/3bxCqVN)،  وكم أثرت فيّ هذه القصة، لدرجة أنني بكيت يومها بكاءً مريراً، لقد تأثرت بقصة هذا الصحابي الجليل، وتأثرت أكثر بما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نعم تأثرت كثيراً عندما زوّجه الحبيب بنفسه، أعجبني قول الحبيب له: “جليبيب ألا تتزوج”، كان يكرر له دائماً مع أنه أعلم الناس بحاله؛ بفقره، كان فقره عائقاً أمام زواجه، فكان بذاك فاقداً للأمل، لا تنظر إليه امرأة، وكيف تفعل وهو فقير قبيح الشكل، إلا أن صورته عند رسول الله كانت مختلفة تماماً، فكان رسول الله يَحنّ عليه ويقربه ويمازحه دائماً، وحينما استشهد وقف عند رأسه وبكى عليه، بأبي وأمي هو، كما يبكي الوالد ولده.

لَطالما أحببت رسول الله منذ صغري كما هي عادة كل مسلم، لكني بعد هذه القصة ازددت حباً على حب للحبيب، ولو أن ما وصلنا من عهد القرآن الكريم سوى هذه القصة لكفتني لأعرف أنه رسول من عند الله، لا حاجة لي لأدلة عقلية ولا أدلة خبرية، هذا الموقف العظيم يدل على أن سيدنا رسول الله لم يكن إنساناً عادياً أبداً، فلنتذكر أننا الآن نتحدث عن القرن السابع الميلادي، نحن الآن في جزيرة العرب، ولن نُذَكّر بأن العرب أهل قبلية وعصبية، والشريف فيهم شريف الأصل والنسب، والقبائل تتنافس في الشرف كما تتنافس الفرق في المباريات، هي جولات لك وعليك، ومن ميادين القتال إلى ميادين الشعر، ولعل الهجاء أشهر ما عُرف في مضمار التنافس، فكان لكل قبيلة شاعر يذود عن حمى قبيلته.

في هذه الأجواء، وهذا الواقع، يخرج رجل لا يعترف بالنسب ولا بالمال، يؤاخي بين المهاجرين والأنصار، ولا يميز بين فقير وغني، ولا بين عمه وباقي المسلمين، ويبكي على جليبيب الفقير الذي لم يفتقده أحد من الصحابة، لعمرك ما هذا برجل عادي، لا أبداً، وصدقت أُمنا خديجة -رضي الله عنها- حين أخبرها رسول الله بخبر ما رآه في جبل ثور، فقالت: “إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة”. وفعلاً كان ذلك، فكيف عرفت؟ بالطبع من خلال خصال الحبيب -صلى الله عليه وسلم- ومن خلال ما تعرفه عنه وما سمعته من الناس، فقالت كما نقول نحن وقال الكثيرون: “ما هذا برجل عادي”.

لو أكملت لتحول المقال عن مساره الذي رسمته له؛ لقد ذكرت هذا كله لأصل بكم إلى أمر آخر، بعيد عن القرن السابع الميلادي، وقريب منا أشد القرب، وفيه سنتعرف على تناقض هذا العالم، وعن نفاقه الذي أصبح لضيقِهِ رفيقَ الذي لا يستغني عنه، ذكرت ما ذكرت عن الحبيب لكي تقارنوا وتحكموا، وفي النهاية لكي تتأكدوا أننا عند خط النهاية، أننا قاب قوسين أو أدنى من الهاوية.

عن تيتانيك ولبنان والسودان

تيتانيك Titanic كما يعرف الجميع فيلم حطّم كل الأرقام، أشهر قصة حب في تاريخ السينما، الفيلم الذي أخرجه جيمس كاميرون، والذي تدور أحداثه عن رسام فقير يفوز برحلة لسفينة “تيتانيك”، وهناك يقع في غرام فتاة ثرية تدعى روز، لكن قصة حبهما لا يُقدر لها الاستمرار؛ فاز الفيلم بأكثر من جائزة أوسكار، وجنى ما يقرب من مليار و244 مليون دولار. ( bit.ly/330Ribj)

حين تبدأ السفينة بالغرق، يركز المخرج ونحن معه على البطلين، ويحبس الجميع أنفاسه، ونتأثر جميعاً بغرق البطل الوسيم “ليوناردو دي كابريو”، ولا أحد منا فكر لوهلة بأن المئات من الناس قد لقوا حتفهم في هذا الحادث الأليم، لا أحد منا يذكر اسم شخص آخر غير روز وحبيبها جاك، هذا بالضبط ما أراده المخرج، أن نركز على شخصيتين فقط، ولو فعلنا غير ذلك لفسدت الحبكة. وهذا بالضبط ما يفعله الإعلام بنا، يأخذنا إلى حيث يريد، ويجعلنا نتعاطف مع مَن يريد، ونقع في الفخ دائماً وأبداً، ولنا في انفجار لبنان وفيضانات السودان خير مثال.

حين وقع الحدث المفزع الذي هزّ مرفأ لبنان قبل نحو شهر تألم الجميع لهول ما وقع، وتضامن الكل مع الشعب اللبناني حكومات وشعوباً، ولم يكن للناس حديث آخر سوى لبنان وانفجار لبنان، فانتشرت المقاطع، وعلت التغريدات، وكُتبت الوسوم، وأبدع الكل في التضامن، ونادى الجميع بضرورة التضامن مع الضحايا والتخفيف عنهم وعن أهاليهم، وخصصت دول ميزانيات للمساعدة، وأرسلت اللجان الطبية ورفعت الأعلام اللبنانية، وكل هذا حسن وجميل، ولا نقاش فيه،  ولكن..!

ولكن الذي أسجله هو الغياب شبه التام لهذا التضامن مع آخر؛ هو السودان، فقد أعلن المجلس القومي للدفاع المدني في السودان حالة الطوارئ في مختلف أنحاء البلاد لمدة 3 أشهر، بسبب الفيضانات التي لم يسبق أن شهدتها البلاد منذ عقود من الزمن، وخلفت 100 قتيل وأضراراً مادية كبيرة (bit.ly/3jRy3rC) فقد دمر حوالي 25 ألف بيت.

ورغم كل هذا، ورغم أن هذه الحصيلة ما زالت أوّلية، فإننا لم نشهد الزخم الذي عرفته أحداث لبنان، فلم نقرأ عن رفع للعلم السوداني، ولا رأينا الناس تتضامن مع الشعب السوداني، ولا تقاطرت المساعدات، ولا شيء من هذا أو ذاك. وهذا يعني شيئاً واحداً؛ أن التضامن ليس بالفواجع، بل بالنسب والأصل والمراتب، وحتى بالجمال والوسامة.

فلبنان بلاد السياحة والطرب، بلاد فيروز وماجدة الرومي اللتين حضر ماكرون بنفسه لكي يواسيهما في مصاب لبنان، ويحضنهما، ويؤكد لهما أسفه الشديد لما حدث، وهما بدورهما احتضنتاه وأبدتا إعجابهما بشهامته ومروءته، وبادلتاه أحاسيسه العميقة، لبنان ببيروت وصيدا، لبنان بلاد الجمال والفتيات الحسان، أرض الشعراء والأدباء، أقرب البلاد ثقافة لبلاد أوروبا، تستحق هذا التضامن وهذا الاهتمام، ولكن السودان لا بواكي له، لا فيروز له، ولا ماجدة الرومي، حتى يحضنهما ماكرون.

أفهِمتَ كيف توزّع الأدوار في هذا العالم؟ أرأيتَ كيف ينافق هذا العالم نفسه؟ أرأيت؟ فعلت أليس كذلك؟ فهمت الآن لِمَ بدأتُ بقصة سيدنا جليبيب رضي الله عنه؟

هذا العالم مليء بالنفاق، نفاقه لا يُحتمل، وتحيُّزه أمر مقرف، وزاده الإعلام قرفاً على قرف، فها أنت ترى كيف جعلنا نتضامن مع لبنان، ولكنه لم يذكرنا بأن نفعل نفس الشيء مع السودان الشقيق، وكأن الأموات هناك دمى لا بشر، وكأن السودان بلد من كوكب آخر، أو أن السودان عدو لا بلد شقيق، وحتى لو كان كذلك ألا يستحق التضامن؟ نعم، فعلى الأقل نحن كمسلمين نؤمن بأنه علينا أن نتضامن مع الكل، ولو مع أعدائنا، وأن نرأف بالجميع ولو بمن رفع سيفه لمحاربتنا، ولنا في القرآن الكريم وفي حديث سيد الأولين والآخرين خير مثال، ولنا في سِير الصحابة والتابعين والصالحين البرهان والدليل، وحسبنا معاملة صلاح الدين الأيوبي للنصارى عند فتح القدس، وقولته الشهيرة لما ذُكرت له أفعال النصارى بالمسلمين: “أنا صلاح الدين”، نعم لست هم، ولا هم أنا. 

هكذا نحن، وهكذا علمنا ضدنا، ولكننا صرنا غير ذلك، لقد جرّنا هذا العالم إلى مستنقعه، وأوقعنا في الوحل، وصرنا مثله أو كما يريد، منافقين من الدرجة الأولى، وماديين إلى أقصى درجة، لقد عدنا إلى الجاهلية، بل تجاوزناها على ما أظن وأرى.

نهاية لا بد منها

 هل شاهدت فيلم “ترومان شو The Truman Show”، إن كنت فعلت فأنت تعيش نفس القصة، تظن أنك حر، وتفعل ما تريد، وتشاهد ما تحبه، وتأكل ما يعجبك، والحقيقة أنك مجرد عبد وضيع، يتم التلاعب به، والتحكم في كل فعل يقوم به، بل يتم التحكم في طريقة أكله، ونوع الفيلم الذي سيشاهده… وهكذا دواليك، ولعل ترومان يكتشف الخدعة، ولكنك محال، فأنت مستمتع بالعرض على ما يبدو، ولو كنت تبدو كالمهرج، وتتمشى كالمجنون، وتطارد فتيات السينما، وتلاحق الفنانين، وتصرخ بأعلى صوتك مع مغنّيك المفضل، وتقعين أنتِ في حب شاب كوري يشبه النساء، وتتفاخرين بذلك، وتحتقرين شباب بلدك، وتسخرين من شكلهم، والحقيقة أن السخرية ما نعيشه كلنا في هذا العالم، الذي يجعلنا نتعاطف مع قطة فوق الشجرة، ونغض الطرف عن طفل مات جوعاً، نبكي مع فيلم رومانسي ونتنمر -حدث فعلاً- على شاب فقد رجليه في حادث ما، أو على شاب مقعد، يا إلهي، حين أفكر في الأمر أشعر بالغثيان.

إنه لَأمر محزن أن ينحدر الإنسان أسفل سافلين مع ما شهده عصرنا من تقدم معرفي ومادي، ولكن هناك علاقة تضاد تاريخية بين عالم الإنسانية وعالم المادة، أو كما قال ماركس: “كلما ارتقى عالم المادة انحطّ عالم الإنسانية”. وهذا ما حدث بالضبط.

أخيراً، تعازينا الحارة لأهلنا وإخواننا في السودان ولبنان، تضامننا اللامشروط مع كل فقراء ومضطهدي العالم، تضامننا اللامشروط مع كل إنسان ما زال محافظاً على إنسانيته، فالإنسانية حمل ثقيل للغاية.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في عربي بوست لا تعبر عن عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع

انشر الموضوع


اشترك بالإعلام الفوري بالاخبار الجديدة بالإيميل .. ضع بريدك