مايو 17, 2024

حسين عيسى: كلنا شركاء
يعرض هذا الفيلم، وفي اقل من ساعة من الزمن، ليس السنوات السورية الخمس، المقصوفة بكل اصناف الاسلحة والمثخنة بالموت، بل خمس سنوات اخرى تزامنها، تركض فيها، وتعاكسها تماما، اذ تحاول باستماتة انقاذ ما يمكن انقاذه من الحياة، من بين انقاض الموت ومن تحتها، ومن شظايا القنابل والصواريخ ومن حروق نيرانها،،
خمس سنوات اخرى غالبا ما يسكت عنها، كما لوانها خلفية زمنية للزمن، كما لوانها مجرد تأثيرات جانبة، او ناتج ثانوي، وهي غير صالحة كثيرا للضجيج الاعلامي والبهرجة التي تخطف ابصار المشاهدين، مع انها زاخرة بالبطولة، انما المتفانية بصمت جليل، بطولة تصارع بشراسة فائقة، لا لتقتل، بل لتعيد الحياة لمن تقصدهم القاتل، ولتعيد الحياة حتى للقاتل نفسه، في بعض الاحيان،،،،
هذا هو هم المخرج هشام الزعوقي دوما، ان يدنو بحنان بالغ وهدوء يقظ، كما يفعل الاطباء، ابطال فيلمه هذا، كي يستنقذ هو الاخر تلك المساحات المبنية للمجهول، التي تمكث في عتمتها وصمتها، كما لو انها عتمة تمكث في عتمة الة التصوير وصمتها، ما بعد التصوير، أو ما دون التصوير، فلا تطالها الاضواء ولا العدسات ،،،،، مساحات يخشى عليها هشام، إن هو لم ينتشلها من صمتها المظلم، ان تتلاشى، ان تفر منا وتضيع ، فلا تصير مستقبلا لذاكرتنا المستقبلية، ولا حياة حقيقية واصيلة مما سيصبح تاريخنا،… بكل ما يتدافع في هذه المساحات من بشر والام وطموحات وبطولة نادرة، تؤهلها فعلا لتكون المعًرفة، ولتكون الواجهة للاحداث لا خلفية مهجورة،،،،وهذا ما يفعله هشام في هذا الفيلم !
تتشابك عناصرالفيلم وتتداخل، كأنما نسجت بصنارة ذكية حاذقة، لتشكل مشهدا هادئا تثقله الام خفية مرعبة،،،الام تتراكم رويدا رويدا بهدوء وبسرية غامضة، تتعالى عن الصراخ، فلا يطيق المشاهد معها صبرا، فيتعالى صدى صراخها الحارق مدويا في كل جسده ،،، فالفيلم مشغول ليكون المشاهد داخله، وواحدا من اهم ابطاله، حتى لو كان يتفرح عليه من الخارج،،وهذه ميزة الافلام الممتازة،،،
في الملائكة الثائرة، لا تاتي الموسيقى لتزيد من اثر المشهد البصري، بل هي صوته الجواني ،،،صوت الجلال الجنائزي للالم والموت، مشبوكا مع جلال البطولة الهادئة الحزينة ،،،،الموسيقى هنا، هي المسقط الصوتي الاخرعلى الاذن، لما تبصره العين،،،
اما المشاهد، ورغم انها التقطت في اماكن وازمنة مختلفة، الا انها يذوب بعضها في بعضه الاخر، وتسير سلسة بهدوئها وعمقها، كنصلة جارحة،،،،لتشكل جرحا غائرا نازفا يمتد من اللقطة الاولى في الفيلم، حتى اخر آهة يفلت من فم المشاهد رعما عنه،،،،
الملائكة الثائرة، هو قصة اطباء ثائرين، احتفظوا بحسهم الملائكي رغم ثورتهم،،،يتسابقون على قلة عددهم مع الموت، المحمول الى البشر جوا وبرا وبحرا، ليستنقذوا منه، ليل نهار، ما استطاعوا من الحياة،،،،في ظروف قاسية وحشية، طالت بعضهم حتى الموت تحت التعذيب ، وموتا تحت القصف المتعمد للمشافي( لقد استشهد الطبيب حسن، وهو شخصية رئيسة في هذا الفيلم، وصاحب مشفى كفر زيتا، استشهد بقصف الطائرات الروسية وهو يقوم بواجبه)، وذاق بعضهم أهوال الاعتقال ومرارته، ناهيك عن التوتر النفسي الرهيب الاتي من فظاعة ما يعايشونه، ومشاق عملهم الذي يستمر ليل نهار، فالجراح النازفة وصراخ المحروقين والمعذبين تتكدس ليل نهار ايضا، في كثير من انحاء سوريا،،،،،
فيلم ملائكة ثائرة، هو من الافلام التي لا تنتهي مع انتهاء عرضها على الشاشة، بل تتواصل في عرض اخر وعلى شاشة اخرى، وهي المُشاهد ذاته! وهذه من ميزات الافلام الممتازة.
ولا بد في النهاية من شكر شركة الليث للانتاج الفني باشراف السيد ماهر جاموس، لما تنتجة من افلام هامة عن سورية، ومنها هذا الفيلم، في هذه المرحلة الصعبة والقاسية من تاريخ بلدنا. والشكر ايضا لفريق العمل الذي يعمل في ظروف خطرة وقاسية…أما الاطباء، ابطال هذا الفيلم، والابطال المجهولون في هذه المقتلة السورية المروعة، فإن هذا الفيلم الذي يروي شيئا من مآثرهم، لهو نحية شكر صغيرة لهم.
اقرأ:
حسين عيسى: حلب.. والبازار مفتوح ..



المصدر: حسين عيسى: فيلم ملائكة ثائرة

انشر الموضوع