مايو 7, 2024


 جميل الياس دياربكرلي: كلنا شركاء
لم يعرف الكلدوآشوريون في العصر الحديث مذبحة أبشع وأفظع من مذبحة سيميل سنة 1933، فسيميل بلدة عراقية تقع شمال غربي الموصل، غالبية سكانها من الكلدوآشوريين والقليل من العرب، هذه المذبحة التي استهدفت الآمنين من البلدة على يد الأنظمة الاستبدادية الحاكمة في العراق آنذاك.
وما يلفت النظر أن الأقلام الكلدوآشورية ولا حتى الأقلام العربية المعاصرة لم تكتب عن هذه المذبحة، وذلك خوفاً واحترازاً من طغاة ذلك العصر ومدبري هذه المذبحة، والأقلام العراقية القليلة التي كتبت عنها فجاءت كتاباتهم بهدف التبرير والدفاع عن الدولة العراقية ضد ما يسمونه ثورة الآثوريين(الآشوريين)، والتي باعتقادهم كانت تستهدف وحدة العراق، وهناك البعض الآخر من المؤرخين ممن أنكر وقوعها أصلاً.
وبينما كنت أتصفح كتاب الخواطر[1] للخوري داؤد رمو هذا الشخص الذي عاصر أحد أهم رجالات الكنيسة الكلدانية ـ كبرى الطوائف المسيحية في العراق ـ في بدايات القرن العشرين، وقد شغل منصب كاتم أسراره، هذا الشخص هو البطريرك يوسف عمانوئيل الثاني، وجدت أن رمو يكتب عن هذه المذبحة، وعن الدور الذي لعبه البطريرك الكلداني لتهدئة الأوضاع، فأردت أن أنشرها لتوضع هذه الوثائق في أرشيف هذه المذبحة، فيقول صاحب الخواطر:
( بدأ الاقتباس)” … في فرصة غياب جلالة الملك فيصل[2] عن العراق حدثت في الموصل ثورة الآثوريين والمقتلة التي جرت في سيميل إذ نكلت بهم الحكومة لسبب عصيانهم عليها وانهزم العصاة إلى سوريا.
فبعدت (فأبعدت) الحكومة مار شمعون خارج العراق بعدما نزعت عنه الجنسية العراقية مع أهل بيته .
وعلى ذلك الزمان طلبت المتصرفية اجتماع رؤساء الآثوريين لنصحهم وردهم عن فكرة الثورة ضد الحكومة فاجتمعوا في المتصرفية تحت رياسة(رئاسة) سعادة وكيل المتصرف السيد خليل عزمي في 11 تموز.
فقبح هؤلاء الموالون للحكومة عمل رفقائهم الذين أصروا على عنادهم ورغبوا أن يتركوا العراق فعلاً.
وبهذه المناسبة رجع جلالة الملك فيصل من أوروبا لدى سماعه بحادثة سيميل وحال وصوله بغداد بعث وزير الداخلية السيد حكمت سليمان إلى الموصل ليتلافى المسألة وأوعز إليه بأن يختلي مع غبطة البطريرك يوسف عمانوئيل ويطلب معاونته في الرأي والتدبير.
ولما وصل معالي الوزير إلى الموصل استدعى على الفور غبطة السيد البطريرك وأختلى به وطلب منه أن يتوسط باقناع الآثوريين لكي يسلموا اسلحتهم للحكومة وهي تومنهم (تؤمن) على حياتهم.
فتوسط غبطته في المسألة وأنفذ القس اسطيفان كجو إلى القوش وزوده بما يلزم من التوصيات بعد أن استحصل العفو عن العصاة من معالي الوزير المشار أليه.
فذهب القس اسطيفان إلى القوش مرافقاً بالشرطة للمحافظة على حياته لسبب ثورة الأكراد والعرب ضد الآثوريين.
ولما وصل إلى القوش اجتمع مع الآثوريين الموجودين هناك وباشر يطمنهم على حياتهم وينصحهم لكي يسلموا أنفسهم واسلحتهم للحكومة ويخلدوا إلى السكينة وأفهمهم بانه آتٍ من قبل معالي الوزير ومن غبطة السيد البطريرك.
فأنقادوا لمشورته وسلموا للحكومة اسلحتهم جميعها وهكذا انتهت هذه الفتنة المشؤومة التي جعلت لواء الموصل تحت الخطر القريب.
وكانت سرمة خاتون قد بقيت في الموصل تترقب الأمور ولم ترضى أن تترك الموصل.
فرأت الحكومة أن تنقلها خوفاً على حياتها لئلا يغتالونها وأصرت على سفرها من الموصل.
ولكنها لم تقنع ومهما حاول مدير الشرطة أن يقنعها فلم توافق على ترك الموصل.
وكان يحصل من بقائها مالم تحمد عقباه.
فالتجئ(فالتجأ) مدير الشرطة إلى غبطة السيد البطريرك وطلب منه التوسط في إقناعها على السفر.
فذهب غبطته مع سعادة مدير الشرطة اليها وأفهمها ماذا سيكون من نتيجة اصرارها.
فطلبت مهلة اسبوعاً لكي تقرر فكرها.
وبعد انتهاء المهلة زارها غبطته ثانية مع سعادة مدير الشرطة واقنعها على السفر إلى بغداد.
أخيراً اقتنعت وسافرت من الموصل في 22 أب مصحوبة بالشرطة للمحافظة على حياتها اثناء الطريق…” (انتهى الاقتباس)
هذه كانت مشاهدة الخوري رمّو لهذه المذبحة التي طالت أبناء شعبنا في شمال العراق، هناك البعض مما دونه هذا الخوري كان قد سمعه من اخرين، وهذه متوفرة لدينا كمعلومات، ولكن أهم ما في هذا المصدر دور البطريرك الكلداني في تسوية وتهدئة الأوضاع.
نبدأ أولاً عندما قال في مستهل حديثه أنه في فرصة غياب جلالة الملك فيصل، فأزيد عليه حسب المصادر الأخرى أنه ليس الملك فقط كان غائباً بل كان معه أيضاً نوري السعيد وزير خارجيته آنذاك، ورستم حيدر وزير الاقتصاد وياسين الهاشمي وزير المالية، هؤلاء الذين كانوا يشكلون العنصر السياسي العراقي المخضرم بالإضافة إلى غياب كل من سفير بريطانيا، ومستشار وزير الداخلية المفروز للعراق، وإنابة الأمير غازي عن الملك بدل شقيقه ولي العهد الرسمي الأمير علي، فنرى أن فترة غياب هذه المجموعة عن العراق كان متفق عليه ليبقى المجال مفتوحاً أمام وزير الداخلية الذي كان ينتظر الفرصة لينفث سمّ حقده، هو والأمير الطائش غازي لينفذ هذه الجريمة، التي لم تأتِ على حين غرة بل كان مخطط لها تخطيطاً شيطانياً. وحدثت الواقعة الأليمة التي ترتعش الأقلام عندما تكتب عنها وتفطر القلوب لذكرها.
وهكذا وحسب مصدرنا نرى أن أول عمل بعد المذبحة، كان أبعاد مار شمعون إيشاي[3] بطريرك كنيسة المشرق وأفراد بيته، فمن غرابة الأمور أن الحكومة العراقية لم تجد أي مسؤول عن هذه المذبحة إلا مار شمعون وآل بيته من أبيه وأخته وعمته الذين كانوا محتجزين في بغداد، وبذلك نسبت إليهم مسؤولية أثارة الفتنة وإشعال الثورة ضد الدولة، فجردوا من الجنسية العراقية بموجب مرسوم خاص يفتقر إلى القانونية، صادر عن مجلس الوزراء في ذلك الوقت.
وهنا وبعد وقوع الفأس بالرأس نرى الملك فيصل يعود إلى العراق ليلعب دور حمامة السلام، فينفذ وزير داخليته الذي كان له الدور الكبير في هذه المذبحة، وكان قد بدأ أولاً باعتقال أهم مرجعية دينية ودنيوية عند الآشوريين ألا وهو البطريرك مار شمعون أيشاي وبعض أفراد بيته، فأراد الملك بعودته أن يعيد الأمور إلى ما كانت عليه، وبذلك يكون قد أدب الآشوريون، وغيرهم من الأقوام في الدولة العراقية الحديثة، ولكن قُلب السحر على الساحر وخصوصاً عندما عاد فكان يريد أن يتخلص من الآشوريين من جهة، ويؤدب فيهم كل العصاة من أكرادٍ وعرب وشيعة من جهةٍ أخرى، كما أراد أيضاً العودة ليقيل ويزيح الحكومة وقيادات الجيش التي أحس وهو في رحلة علاجه أنهم بدأوا يشقون عصا الطاعة عليه من خلال المراسلات التي حدثت بينه وبينهم، وعدم التقيد بأوامره كل هذه الأسباب دعت فيصل الأول للعودة إلى مركز حكمه، ولكن عندما وجد الشعب يصيح ويهتف بحياة أبنه ووزير داخليته وبالجيش دون ذكر اسمه عرف أن كل شيء كان قد أنتهى، وكانت وفاته بعد شهورٍ قليلة من هذا الوضع.
وبالعودة إلى السيد حكمت سليمان الذي أنفذ إلى الموصل ليلتقي ببطريرك الكلدان بتوجيه من فيصل، وهنا لابد أن أضع القارئ العزيز في وضع الكنيسة الكلدانية في ذلك الوقت وبطريركها الشيخ، فالكنيسة الكلدانية وقتئذ كانت اقرب إلى المولاة بالنسبة للسلطات الحاكمة، ونرى أن أتباعها من أشراف القوم، ومنخرطين في دوائر الدولة، ويمتهنون المهن الشريفة، ولهم مكانة خاصة في مجتمعاتهم، فهم الطبقة المثقفة بين كل طبقات المجتمع العراقي، كما كان لهم دور في العمل السياسي من خلال بعض أبناء الطائفة أمثال الوجيه يوسف بك غنيمة، وأما البطريرك مار يوسف عمانوئيل الثاني فقد كان يتمتع بمكانة مرموقة، وكيف لا وهو عضو في مجلس أعيان العراق، أو ما يسمى اليوم بمجلس النواب، كما كان له علاقات طيبة مع الساسة العراقيين، ومحبة كبيرة لشخصه من قبل أصحاب السلطة في الغرب من أمراء ولوردات ووزراء وسفراء وقناصل، فالبطريرك الذي نصب سنة 1900 عايش كل النكبات التي حلت بشعبنا بدأً بمذابح الإبادة الجماعية (ܣܝܦܐ) عام 1915 التي خسر فيها الكثير من أتباع كنيسته من مطارنة أمثال مطران أورمية توما أودو، ومطران سعرد أدي شير، والمطران يعقوب أوراهم وكهنة أمثال القس حنا شوحا وعدد كبير من المؤمنين، وهو الذي من خلال علاقاته مع الغرب أرسل تقارير مفصلة اعتمدت إلى يومنا هذا حول ما حصل في سنجقي الجزيرة العمرية وسعرت في تركيا الحالية.
وقد عاصر هذا البطريرك الشيخ مذبحة سيميل، فمن خلال هذا المصدر نرى الملك فيصل وأركان حكومته يتصلون بالبطريرك ويطلبون تدخله لابل ينفذ وزير داخليته إليه ليحلّ المشكلة، ولكن المستغرب في الموضوع أن المؤرخين العراقيين أمثال الحسيني، وعبد الرزاق أسود، والحيدري والبزاز، لم يذكروا دور البطريرك في التسوية. وخصوصاً دوره الكبير في عدم وقوع مذبحة أخرى مماثلة في مدينة القوش.
وأخيراً أرى أن هذه الوثائق، وبغض النظر عن توجهاتها فهي مهمة في خدمة الحقيقة والتاريخ. وهي في الوقت ذاته تذكير بمأساة شعب أصيل في بلاد مابين النهرين، وحقيقة مرة ووصمة عار في تاريخ العراق الحديث، ولازالت هذه الوصمة تتسع وتزاد مع كل إضطهاد جديد يعيشه الكلدوآشوريين واحفادهم.
[1]  الخواطر إعداد الأب بطرس حداد
[2] فيصل الأول (1883ـ 1933): ولد في الطائف وهو أبن شريف مكة الشريف حسين، ثار على العثمانين وقاد الجيش العربي في فلسطين، نودي به ملكاً على سورية سنة 1920، لم يستمر حكمه بضعة اشهر فخرج من سوريا مع دخول الفرنسيين إليها، ملك على العراق سنة 1921 ترضية لأخيه وأبيه ولمنع ثأرهم من الفرنسيين.
[3]  مار شمعون الثالث والعشرون إيشاي، (ولد في حكاري، تركيا في 28 فبراير/شباط 1908 – اغتيل في سان سان خوسيه، كاليفورنيا في 6 نوفمبر/تشرين الثاني 1975. كان كاثوليكوس بطريرك كنيسة المشرق الآشورية وكرّس بطريركا في عمر الحادية عشر، كون كرسي البطريركية وراثيا آنذاك وذلك عام 1920 وبقي على الكرسي البطريركي لغاية يوم اغتياله في 1975



المصدر:  جميل الياس دياربكرلي: مذبحة سيميل في مصدرٍ كلداني معاصر

انشر الموضوع


اشترك بالإعلام الفوري بالاخبار الجديدة بالإيميل .. ضع بريدك