أبريل 29, 2024

اياد شهاب‎: كلنا شركاء
عندما غزا “الاسكندر” فارس، وجد القوم يسجدون لإمبراطورهم ويؤلهونه، فأعجبته الفكرة وقرر ان يصبح ملكاً على النمط الشرقي. ولمّا كان هذا يقتضي ان تكون له صلة قرابة بالآلهة، فقد اعلن كهنة “سيوة وبابل” ان “الاسكندر” من نسلها!!.
مع الوقت بدأ “الاسكندر” يصدق انه إله -فيما يبدو- فأمر جميع من يقتربون منه بالسجود له.
رفض قوم الاسكندر الفكرة واستهجنوها، وبعد جدل، اتفق الجميع ان يحصر “الاسكندر” فكرة السجود والالوهية على الآسيويين -الشرقيين- فقط!! فهم بطبيعتهم عبيد يليق بهم الطغيان ويناسبهم!!..
كان هذا رأي “ارسطو”: (بعض الناس بطبيعتهم “سادة” وبعضهم الآخر “عبيد”) -يعنينا نحن- وبرأيه فمن الافضل لنا والانفع والأكثر عدلاً، ان نقبل بان ‘يركبنا’ السادة دون ان نتذمر!!.
حتى يومنا، تطالعك الكثير من الدراسات التي تحاول فهم انتشار ظاهرة الطغيان الشرقي، فمنها من يوافق “ارسطو” رأيه، ومنها من يختلف في الاسباب دون اختلاف النتائج، التي يلخصها الدكتور “امام عبدالفتاح امام”: (حكم تاريخنا كلّه الطغاة من اقدم العصور الى عصرنا الحاضر، حتى اصبحت لفظتا ‘الشرق’ و ‘الطغيان’ مترادفتين!!).
يبدو صعبا على من شاركوا بثورات الربيع العربي ضد الطغيان، واعلنوا انه (ملعون ابو الظالم واللي ينام مظلوم) ان يستسيغوا تنظير “ارسطو”، وهم لذلك يمحّصون في التاريخ علّهم يجدوا ما ينقض كلامه، وكثيراً ما يستشهد هؤلاء بالدولة الاسلامية في صدر الاسلام، ايام ابي بكرٍ الصدّيق وعمر بن الخطاب.
فمنذ اول اجتماع في ‘سقيفة بني ساعدة’ ظهرت اشارات مُبشّره: اجتمع المسلمون لاختيار رئيس دولتهم، فتناقشوا واختلفوا، وتشاجر بعضهم، وقدّموا الحلول، الى ان اتفقوا على ابي بكر، ويصف “ماكدونالد” اجتماع السقيفة بالقول: (انّ هذا الاجتماع يُذكّر الى حدٍّ بعيد بمؤتمر سياسي دارت فيه المناقشات وفق الاساليب الحديثة). وبقي بالنتيجة معارضون من كبار الصحابة امثال “الزبير بن العوّام” و “سعد بن عبادة” و “علي بن ابي طالب” الذي قال لابي بكر معترضاً: (لقد افسدت علينا امرنا، لم تستشر ولم ترع لنا حقّاً . . .!)، فأجاب ابو بكر بهدوء رجلٍ حر وليس ‘عبداً’: (بلى، ولكني خشيت الفتنة، وكان للمهاجرين والانصار يوم السقيفة خطب طويل، ومجاذبة في الإمامة..).
ولئن رأى البعض ان المثال السابق طفرة تاريخية لها ظروفها التي لا ينبغي البناء عليها، فإنّ مراسلة “اندريه ديبوسك” -التي ترجمها الدكتور “وجيه كوثراني”- لوزارة خارجيته والرئاسة الفرنسية عام ‘1913’ بعد تكليفه بمهام خاصة في الشرق، يَرِد فيها وصف للشخصية العربية، له دلالاته: (إنّ ثمّة كبرياء هائلة جداً، هي الخط المميز للأخلاق العربية، والى جانب الكبرياء الفردية، هناك عند العرب كبرياء جماعية، وكبرياء العائلة والقبيلة).
لا يبدو الوصف متوائما مع مجموعة من ‘العبيد’، فما الذي جعل العرب في بداية القرن العشرين مختلفين؟.
في ذاك الزمن كان واضحاً ان الامبراطورية العثمانية الى زوال، وبرز ما سُمّي بـ ‘المسألة الشرقية’، التي عبّرت عن سيطرة الغرب على دولة الخلافة، وتقييد حركتها خارج حدود عاصمتها وما حولها، وهو ما سمح بانتشار الحريات والثقافة والحركات السياسية المختلفة، اسلاميةً او قوميةً او غيرها. يكفي للدلالة على ما كان يجري، مطالعة عناوين الصحف في المنطقة العربية، التي ازداد عددها بمقدار عشرة اضعاف فيما بين عامي ‘1904’ و ‘1914’.
ولغرض في نفس يعقوب، شجع الغرب ذلك بدايةً، وتبنّى الثورة العربية الكبرى، الا ان السحر انقلب على الساحر..
فالعبيد الذين تحرّروا من الطغيان، اذهلوا الغرب، وعوض ان تسود الفوضى، ويسارع العرب طالبين الوصاية، دخلت قوات الامير “فيصل” دمشق، وكتب “لورنس العرب”: (لما غادرت الشام بعد دخولها بثلاثة ايام، كان للسوريين حكومة فعليّة في حيّز العمل دامت سنتين من غير استشارة اجنبية، واسست مجلساً للشورى، ونظمت القضاء، واصدرت جريدة رسمية ‘العاصمة’، وانشأت المجمع العلمي العربي).
ورغم عودة الاستعمار ومحاولته وأد تلك التجربة بالانتداب، الا ان دراسة الحالة السورية بالذات، تدعو للإعجاب فعلاً، فبرغم اعلاء الشعب السوري من شأن الثورات المُسلّحة -التي يستحق ابطالها كل التقدير-، الا ان التاريخ يشهد ان الاساس في نضال السوريبن للاستقلال، إنما كان النضال السياسي الذي برز من خلاله نضج يستحق الدراسة، بدءاً من دستور ‘1928’، ومروراً بالإضراب الستيني، ومشروع معاهدة ‘1936’، وصولاً للوزارة الوطنية برئاسة “سعدالله الجابري” التي شاركت بتأسيس جامعة الدول العربية، وهيئة الامم المتحدة، ونجحت بالحصول على الاستقلال، لتشهد البلاد بعدها حالةً فريدةً من الممارسة السياسية الديمقراطية الناضجة التي انعكست على الاقتصاد، فتضاعف إنتاج القمح مرة، وإنتاج القطن عشر مرات.
لا يبدو هؤلاء الذين فعلوا كل ما سبق ‘عبيداً’ بالفطرة والمورثات ‘التاريخية’، ولكنها العصا ارهقتنا في الشرق، فلما زال اثرها عن ظهورنا، انتشر القمح… وكان لا بدّ ‘للأسياد’ ان يجدوا حلاً لتلك الكارثة…
في ساعة متأخرة من ليل ’30’ آذار/مارس ‘1949’، دخل قائد الشرطة العسكرية الى منزل الرئيس “شكري القوتلي” وقال له: (شكري بيك اتفضل معي)، فسأله “القوتلي”: (الى اين؟)، فأجاب: (الى السجن، بأمر القائد العام للجيش)!!.. في نفس الوقت قام المُقدّم “اديب الشيشكلي” بأوامر من “حسني الزعيم” ايضاً، باحتلال دمشق، وصدر البلاغ رقم ‘1’:
)مدفوعين بغيرتنا الوطنية، ومتألمين مما آل اليه وضع البلاد من جراء افتراءات وتعسّف من يدّعون انهم حكامنا المخلصون، لجأنا مضطرين الى تسلّم زمام الحكم مؤقتاً . . . . غير طامحين الى استلام الحكم)!!.
بواسطة ضباط اكتسبوا شرعيتهم من تعاطف المجتمع معهم بصفتهم ‘حماة الديار’ و ‘درع الوطن’ عاد الطغيان ثانيةً، واحتاج الشرق لقرنٍ جديد كي يأخذ زمام المبادرة ويكسر العصا، وكان الأتراك سادة المشهد هذه المرة، حين نزلوا الى الشوارع، واعتقلوا ‘حُماة الوطن’، في ليلة مؤثرة لن تغيب عن وجدان الشرق.
هل هذه ارهاصات ‘الانعتاق’، ام انه مجرد تغيّر في الادوار؟ تتغيّر به ملامح ابطال البلاغ رقم -1-!! ثم يعود الطغيان من جديد بوجه جديد؟!!. 
(يتبــع).



المصدر: اياد شهاب‎: تأملات في الطغيان الشرقي.. (2) – البلاغ رقم (1)

انشر الموضوع


اشترك بالإعلام الفوري بالاخبار الجديدة بالإيميل .. ضع بريدك